تركت الحرب الإسرائيلية على غزة أثرًا ملموسًا في الأوساط الشعبية الصينية لا تقل أهمية عن الأثر الذي تركته على المستوى الحكومي. وقد تفاعل الشعب الصيني بشكل كبير مع الفيديوهات التي كانت تبث من فلسطين، وتمت ترجمة معظمها إلى اللغة الصينية من قبل أفراد لا يمتلكون صفة رسمية، مما يظهر التعاطف والاهتمام المتزايد بالقضية الفلسطينية على الصعيدين الرسمي الصيني والشعبي. فالصين الباحثة عن دور أكبر في الشرق الأوسط، والذي يحتمه وجودها الحالي المخطط له ليكون طويل الأمد عبر مشروعها الاقتصادي والتنموي الكبير “الحزام والطريق”، وجدت في الحرب الأخيرة على غزة فرصة سانحة لكسر الصورة التي سعت الولايات المتحدة إلى ربطها بالصين والتي تظهرها بمظهر المعاداة للمسلمين. تجلى ذلك عندما رفعت الصين الصوت في مجلس الأمن على لسان مندوبتها التي اتهمت أمريكا بالادعاء بأنها تراعي حقوق الإنسان، وتطالب بحفظ حقوق المسلمين، في حين أنها تغض الطرف عن معاناة الفلسطينيين المسلمين في المواجهات الأخيرة مع إسرائيل، ولا تراعي حقوق الإنسان أو المسلمين عندما يتعلق الأمر بتحقيق مصالحها الشخصية.
لقد سعت الصين إلى إظهار مدى التزامها بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وذلك بتبني الإجماع الدولي والعربي على التعاطي مع النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي على أساس مبدأ حل الدولتين. ويمكن تحليل الموقف الصيني من خلال ثلاثة محاور رئيسية. المحور الأول ويتناول المنافسة الصينية – الأمريكية، المحور الثاني القائم على مبدأ الاستقرار والأمن لتحقيق التنمية الشاملة، والمحور الثالث الذي يسعى إلى إعادة صياغة صورة الصين عالميًا.
المحور الأول: التنافس الصيني – الأمريكي
اتهم وزير الخارجية الصيني الولايات المتحدة بازدواجية المعايير فيما يخص الشأن الفلسطيني. فأمريكا، ومن حيث لا تعلم، مهدت الطريق أمام الصين للعب دور في عملية السلام من خلال إصرارها على إظهار انحيازها للطرف الإسرائيلي، وذلك بمعارضتها لإصدار بيان من مجلس الأمن الدولي صاغته الصين والنرويج وتونس بخصوص الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة. وفي حين تنتهج أمريكا سياسة الواقعية في التعاطي مع الشأن الفلسطيني، تنحو الصين منحًا ليبراليًا يُغَلِّبُ التعاون على التنافس، وضرورة أن تعمل الدول معًا لتصبح قوية من خلال التعاون فيما بينها. وتتبنى الصين نظرية السلام الديمقراطي الذي يناقش فكرة كون الديمقراطيات تتمتع بقيم مشابهة في الاهتمامات، وترى منافع متبادلة ومشتركة من خلال التعاون، الأمر الذي يجعل التنازع أقل احتمالية للحدوث، فالمصالح المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري أساس لتقوية العلاقات بين الدول وتعزيزها. الليبرالية التي تنتهجها الصين في الشرق الأوسط تغلب عليها القوة الناعمة، بينما الواقعية التي تنتهجها أمريكا تغلب عليها القوة العسكرية.
وتركز الصين انتقادها للسياسات الإسرائيلية من خلال انتقاد السياسات الأمريكية وهي الداعم الأكبر للسياسات الإسرائيلية، إذ ترى الصين بأن إسرائيل ما كانت لتستمر في عدوانها لولا الدعم والقبول الأمريكي.
من جانب آخر، تنظر الصين لمسألة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي على أنه حجر الزاوية لكل التوتر القائم في الشرق الأوسط. ولكي تنجح الصين في إنجاز مشروعها الكبير “الحزام والطريق”، لا بد أن تأخذ دورًا في محادثات السلام الدائرة في المنطقة وتكون جزءًا من الحل. إن النقلة النوعية في السياسة الخارجية الصينية من نهج الحذر وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية إلى السعي لأخذ دور في حل النزاعات أصبح واجبًا يحتمه موقع الصين الحالي كقوة عظمى تسعى لإيجاد موطئ قدم لها في الشرق الأوسط. وقد ظهرت الصين كلاعب جديد على الساحة الشرق أوسطية بعد اتفاقها الاستراتيجي الأخير في مطلع العام ٢٠٢١ مع إيران.
من هنا، تحولت المنطقة إلى ساحة نزاع صينية أمريكية لوجهتي نظر متضاربتين بدأت تظهر وتتشكل معالمهما بوضوح في الحرب الأخيرة على غزة. إن المصالح الصينية تكمن في وقف العنف وتحقيق السلام، بينما تكمن المصالح الأمريكية في الاستمرار في التأزيم مع إبقاء التوتر تحت السيطرة دون الوصول لحل عادل وشامل تماشيًا مع مبدأ الفوضى الخلاقة. تلك النظريتان لا يمكن أن تكونا مكملتين لبعضهما، الأمر الذي سيؤدي حتمًا لتصادم بين القوتين العظميين رأيناه جليًا في مجلس الأمن.
المحور الثاني: الأمن والاستقرار لتحقيق التنمية الشاملة
يظهر اهتمام الصين بالدخول على خط الوساطة لحل النزاع بين فلسطين وإسرائيل التمسك بمبدأ تحقيق السلام في الشرق الأوسط والذي سيؤدي بدوره إلى إمكانية تحقيق التنمية الشاملة من خلال مشروع “الحزام والطريق”. فعلى الرغم من سعي الصين لتعزيز مجالات التعاون الدبلوماسي، الاقتصادي، التكنولوجي والمعلوماتي مع إسرائيل، إلا أنها كانت على الدوام رافضة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وداعمةً لقيام دولة فلسطينية على أراضي العام ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية.
إن المبادئ التي تتبناها الصين في مناهضة الاحتلال تعود إلى تاريخها الحديث عندما سعى الرئيس الصيني ماو تسي تونغ إلى حشد الأقطاب والشركاء من العالمين الإسلامي والعربي للانضمام إلى الجبهة المتحدة التي قامت ضد الإمبريالية الغربية. وبناءً على ذلك، تعاطفت الصين حكوميًا وشعبيًا مع القضية الفلسطينية، وانتقدت السياسات الإسرائيلية بشكل علني منذ ذلك الوقت لاعتبار إسرائيل جزءًا من التحالف الإمبريالي الغربي. ولكن منذ تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين عام ١٩٧٢، أصبحت الطريق معبدة أمام الاتصال بين إسرائيل والصين.
إن مشروع الحزام والطريق الذي تشكل الكثير من دول الشرق الأوسط ركائز له، يحتم على الصين المساعدة في حل النزاعات لاسيما المسلحة منها حفاظًا على مصالحها في تحقيق السلام في المنطقة، والذي بدوره سيحقق الأمن والاستقرار للاستثمارات الصينية. كما أن الدخول على خط حل النزاعات سيدفع لمزيد من التعاون بين الصين والدول المعنية، مما سيعزز الثقة المتبادلة بين الصين وباقي الأطراف، الأمر الذي سيعود بالنفع الكبير على مشروع “الحزام والطريق” الصيني.
المحور الثالث: إعادة صياغة صورة الصين عالميًا
تسعى الصين من خلال دعمها للحقوق الفلسطينية لإظهار نفسها بأنها ترفع راية العدالة والإنسانية، وهي بذلك تسعى لتحسين صورتها وإظهار نفسها كدولة محبة للسلام وراعية لحقوق الشعوب وضامنة لمصالحهم المحقة، في حين ظهرت الولايات المتحدة بمظهر الدولة المعادية للحقوق الفلسطينية إحقاقًا لمصالحها الشخصية. وركزت الصين على التعددية كوسيلة لحل النزاعات وتحقيق السلام في الشرق الأوسط. وقد أعلن السفير الصيني السابق في إيران والخبير في شؤون الشرق الأوسط (Hua Liming) بأن الصين ستعمل على إيجاد وسائل جديدة لإيجاد حلول وتعزيز الوساطة بين الطرفين. فهي لن تستنسخ الوسائل القديمة التي أثبتت فشلها. وقال Hua أن القضية معقدة جدًا، لذلك ستأخذ الصين وقتًا كافيًا لخلق طرق جديدة لحل النزاع بالتعاون مع الدول الإقليمية في الشرق الأوسط.
هل الصين قادرة على تحقيق السلام؟
في حين تتعامل معظم القوى الغربية مع حركة حماس كمنظمة إرهابية، تقف الصين في موقف مخالف. فالصين لا تعتبر حماس حركة إرهابية، وقد منحت المقاومة الفلسطينية شبه اعتراف بحقها في الدفاع عن أرضها، رغم أن هذا الاعتراف لم تنطق به حرفيًا. ويمكن للمراقب أن يلمس الجدية في الطرح الصيني من خلال التوجه الشعبي الذي ظهر جليًا من خلال تعاطف الشعب الصيني بكافة أطيافه مع القضية الفلسطينية، والذي بدوره يعبر عن الموقف الرسمي الصيني ويؤكد على جديته. ففي دولة كالصين، لا يمكن لقضية أن تحظى بتعاطف شعبي كبير ومعلن بهذا الشكل لو لم تكن تعبر عن الموقف الرسمي للدولة.
إن علاقة الصين الطيبة مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي دفعها في العام ٢٠١٧ لأن تعرض وساطتها في محادثات السلام القائمة بين الجانبين، وقد عادت لتكرار الدعوة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير في مايو٢٠٢١. فبعد انسداد أفق الحل من خلال الوسيط الأمريكي، لا بد من إيجاد وسيط آخر نزيه يحظى بقبول من كلا الطرفين. وقد رحبت فلسطين بعرض وزير الخارجية الصيني بلعب دور الوسيط، في حين التزمت إسرائيل الصمت اتجاه ذلك العرض. ويأتي الموقف الإسرائيلي في إطار الخوف من إثارة حفيظة الولايات المتحدة في حال السماح لعدوتها اللدود بالولوج إلى ساحة كانت يومًا حكرًا على أمريكا، بالإضافة لتوفر قناعة إسرائيلية بأن لا دولة قادرة على تغليب المصالح الإسرائيلية كما هو الحال مع الولايات المتحدة التي تتبنى القرارات والمواقف الإسرائيلية على حساب المصالح الفلسطينية من مبدأ القوي يفرض شروطه والضعيف ينفذ ما يُمْلى عليه! بالإضافة إلى ذلك، فإن قبول إسرائيل وساطة صينية سيجعل الصين لاعبًا أساسيًا في نزاعات الشرق الأوسط، وهو ما ترفضه الولايات المتحدة جملةً وتفصيلاً، فهي لا يمكن أن تسمح لغريمتها بأخذ دور في منطقة نفوذ أمريكية، الأمر الذي قد يمهد لسحب البساط من تحت أقدام أمريكا في منطقة الشرق الأوسط مستقبلاً. في كل الأحوال.
لا زالت المحادثات حول وساطة صينية هشةً، وهذا ما يفسر عدم التوصل لتحديد موعد للبدء بمحادثات السلام. أما على الجانب الأمريكي، فتفضل الولايات المتحدة اللجوء لدول إقليمية كمصر وقطر التي تعتبر الأكثر تأثيرًا على الجانب الفلسطيني للمساعدة في تخفيف التوتر وفتح آفاق جديدة للحوار. وترى الصين بأن نهاية النزاع لا يمكن أن تتحقق إلا بحل عادل للفلسطينيين يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وقابلة للحياة على حدود عام ١٩٦٧ إلى جانب دولة إسرائيلية، وذلك وفقًا لقرارات منظمة الأمم المتحدة.
رغم أن الصين لا تمتلك خبرة كافية في الوساطة لحل النزاعات، إلا أن الأمل في تحقيق خرق ما في جدار التفاوض يبقى موجودً، يرافقه التوجس نحو تحقيق نجاح فعلي في حين عجزت دول متمرسة في لعب دور الوسيط لحل النزاعات مثل الولايات المتحدة عن تحقيق السلام المنشود.
لعل الميزة التي تمتاز بها الصين من قدرة على نسج علاقات وتعاون وإبرام صفقات مع دول متخاصمة دون أن يؤثر ذلك على علاقات الصين مع كل من تلك الدول يؤسس لخلق أساليب جديدة تساعد على التوصل لسلام عادل وشامل في المنطقة. مثال على ذلك احتفاظها بعلاقات قوية مع الجانب الفلسطيني وشراكة تجارية قوية مع إسرائيل رغم موقفها المتعاطف سياسيًا مع الحقوق الفلسطينية. كما قامت الصين بإبرام اتفاقية شراكة استراتيجية مع إيران في الوقت الذي حافظت فيه على علاقات قوية مع غريمة إيران اللدود السعودية. وهناك أمثلة عديدة أخرى على قدرة الصين على نسج علاقات قوية مع دول متخاصمة دون أن يؤثر ذلك على مصداقيتها وقوة الترابط بينها وبين تلك الدول، وهو ما تفتقده الولايات المتحدة التي لطالما أظهرت انحيازها في قضايا مختلفة لاسيما النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. إن قدرة الصين على الجمع بين المتناقضات يجعلها شريكًا قويًا تسعى الأطراف المعنية لكسب وده لأن هذا الطرف الصيني هو القادر نظريًا على حل النزاعات بسبب مصداقيته ونفوذه وعلاقاته القوية مع كافة الأطراف. أما عمليًا، فالأمر متروك لقادم الأيام.
شعبيًا، يتردد على لسان الصينيين مقولة أن أي زهرة تتفتح وحدها لا يمكن أن تنذر بقدوم الربيع، في إشارة إلى أهمية الجهود المشتركة لتحقيق التنمية المشتركة. إذ تنظر الصين للازدهار العالمي على أنه حالة تراكمية مترابطة. فتوتر الأجواء السياسية والأمنية في بلد ما سيؤثر حتمًا على النمو الاقتصادي الصيني بسبب ترابط المصالح. في هذا الإطار، تتبنى الصين التوجه نحو التعددية، وتسعى إليها كوسيلة لتحقيق النمو والسلام في الوقت الذي فشلت فيه الواقعية الأمريكية في إيجاد حل جذري للنزاعات المختلفة والمتعددة في الشرق الأوسط.
لا تعليق