الموقف الصيني من القضية الفلسطينية بين الأيديولوجيا والمصالح الاقتصادية
د. تيسير حسن محيسن أكاديمي وباحث سياسي
الموقف الصيني من القضية الفلسطينية بين الأيديولوجيا والمصالح الاقتصادية
د. تيسير حسن محيسن
أكاديمي وباحث سياسي
حافظت الصين على علاقة وطيدة مع القضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية، وكانت من أكثر الدول التي تقدم مساعدات انسانية لفلسطين، إن تقدم المصالح للصين على الأيدلوجيا كان مرجعية رسم السياسة الخارجية الصينية في كل تقاطعاتها مع مناطق العالم. وذلك يشمل التقارب مع الاحتلال الإسرائيلي حيث كان هناك تقدماً كبيراً في العلاقات بين الصين وإسرائيل مع ازياد في حجم التبادل التجاري بينهما, وتمثل الصين الآن ثالث شريك تجاري لإسرائيل، وأول شريك تجاري في منطقة آسيا لإسرائيل.
المصالح تتقدم على الأيديولوجيا في سياسة الصين الخارجية تجاه القضية الفلسطينية
بدأت الصين منذ منتصف الثمانينيات تتراجع عن مواقفها المؤيدة علناً للدول العربية في صراعها مع إسرائيل، ورغم تكرار الصين للمبادئ التي يقوم عليها السلام في الشرق الأوسط، وهي حق الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل استرجاع حقوقه المغتصبة، حق العودة إلى وطنه، وحق تقرير المصير، وحق إقامة دولته، واسترجاع أراضيه المحتلة، إلا أنها وبنفس الوقت استمرت وبشكل متسارع في بناء وتطوير علاقاتها مع إسرائيل.
سياسة الإنفتاح وأثرها على مستوى الدعم الصيني للقضية الفلسطينية
لقد كان لسياسة الإصلاح والإنفتاح التي تبنتها الصين أواخر سبعينيات القرن العشرين، وتراجعها عن موقف التشدد الإيديولوجي الذي شهده عهد “ماوتسي تونغ” ورفعها شعار «مصالح الصين قبل كل شيء»، أثراً بالغاً على مستوى وقوة الموقف والدعم الصيني للقضية الفلسطينية، حيث أرادت الصين توجيه سياستها الخارجية نحو الغرب للإستفادة من رؤوس أمواله بغية النهوض بالإقتصاد الصيني الذي أنهكته تجارب “ماو”، خاصة بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس “نيكسون” إلى بكين في العام 1972، والتي انتهت بتصفية الخلافات حول “تايوان” من خلال توقيع بيان “شانغهاي” الذي تمسكت بموجبه واشنطن بسياسة الصين الواحدة. وبذلك زال من أمام اسرائيل أكبر عائق اعترض بناء علاقات متطورة مع الصين، والذي تمثل بالرفض الأميركي المستمر لقيام هذه العلاقات. والتقت المصالح الأخرى بين الدولتين من خلال العداء المشترك للإتحاد السوفييتي، فقد أدركت الصين أن إحدى أهم الوظائف التي أوكلت لإسرائيل، هي مكافحة المدّ السوفياتي، وإضعاف علاقات موسكو مع الدول العربية. وفي هذا المجال التقت المصالح الصينية مع إسرائيل، حيث رأت الصين في الكيان الاسرائيلي حليفًا محتملا لإضعاف الإتحاد السوفياتي كما أنه مصدر من ضمن المصادر التي تمكن بكين من تأمين المشتريات العسكرية المتطورة والتكنولوجيا العالية، لذلك يشكل هذا العنصر مفتاح العلاقة بين إسرائيل والصين، فضلاً عما أنتجته الصين حديثا تحت عنوان مبادرة ” الحزام والطريق ” والتي تقوم بالأساس على الشراكة بين الدول التي تخطط الصين لأن يمر بها خط سكة الحديد التجاري فائق السرعة والحزام البحري والذي سيضمن تحرك أساطيل القوافل التجارية الصينية بحرية الى دول العالم ، مما سيعزز من مكانة ودور الصين وقوتها ويجعل منها أكبر وأعظم قوة اقتصادية في العالم .
تطور العلاقات الصينية الإسرائيلية بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993م
تعتمد الصين في سياستها الخارجية على تطويرعلاقات سياسية تهدف إلى خدمة الصين أو الإقتصاد الصيني كأولوية استراتيجية للدولة، وقد استطاعت بحكم تطور واتساع علاقاتها التجارية ومصالحها مع إسرائيل أن توقف احتجاجات إسرائيل على استمرار علاقاتها مع الفلسطينيين، ليس هذا فحسب بل أبدت في بعض الأحيان مواقف متقدمة تجاه إسرائيل لصالح الفلسطينيين، ففي عام 2013 رفضت بكين استقبال بنيامين نتنياهو، حتى تُسقط إسرائيل دعوة رفعت في نيويورك، ضد بنك “أُف تشاينا” وهو أحد أكبر أربعة بنوك مملوكة للدولة الصينية بزعم انه يقوم بغسل أموال لصالح تنظيمات فلسطينية، وقد استجابت إسرائيل وأسقطت الدعوة، وهذا ينسحب أيضاً على سكوت إسرائيل على قيام الصين بالتصويت المستمر في الأمم المتحدة لصالح الفلسطينيين، في الوقت الذي لا يفعلون ذلك مع دول أخرى.
لقد أدركت الصين أن تطور علاقاتها مع إسرائيل لن يؤثر سلباً على علاقاتها مع العرب في ظل تزايد الاعتراف العربي بإسرائيل، وخاصة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1979 مروراً باتفاق “أوسلو” عام 1993، وانتهاء فكرة المقاطعة العربية لإسرائيل، وتأكد ذلك بشكل عملي خلال السنوات الفائتة، وهذا ما توج بتوقيع اتفاق بين الطرفين عام 1992 ليُخرج العلاقات من السر إلى العلن، حيث وقع وزيرا خارجية البلدين آنذاك “دافيد ليفي” و “تشيان تشي تشنغ” بياناً مشتركًا يعلن إقامة علاقات بينهما على مستوى السفراء، ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن أصبحت الصين من أكبر الشركاء التجاريين عالمياً مع إسرائيل، والأولى في القارة الآسيوية.
وهنا وجب التنويه الى أن لإسرائيل دور محوري في مخططات الصين المستقبلية، فالصين تخطط لإنشاء طريق بين البحر الاحمر والبحرالمتوسط وطريق اخر بين خليج العقبة في إيلات وميناء إسدود. وبالفعل تعمل الشركات الصينية بهدوء وصمت في تطوير البنى التحتية في إسرائيل لإستيعاب هذا الأمر مستقبلاً. بالتالي نستطيع أن نستنتج أنه لا يمكن للصين أن تذهب بعيداً في تأييد الفلسطينيين بشكل قد يضر بمصالحها ومخططاتها الإقتصادية التي ستمكنها مستقبلا من السيطرة على التجارة الدولية في العالم، ومن ثم الهيمنةِ كأكبر قوة اقتصادية في العالم، ولذلك فهي تحرص على أن تكون مواقفها متوازنة تجاه أطراف الصراع العربي – الإسرائيلي، كما أنها تضع في حسبانها القيام في مرحلة ما بالوساطة، ولذلك فهي حريصة على علاقاتها التقليدية مع البلدان العربية من جانب والتعامل مع إسرائيل من جانب آخر.
ولكن أحيانًا يعاب على حيادية موقف الصين من الصراع العربي – الإسرائيلي أنها غير ظاهرة في بعض المواقف وإلتزامها الصمت في وقت الحاجة إلى الكلام، على عكس الأعضاء الأربعة الدائمين في مجلس الأمن الدولي، الذين يلعبون دوراً مهماً في عملية السلام، وبغض النظر عن أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الوسيط الأساسي بالرغم من تحيزها للموقف الإسرائيلي، إلا أن الدول الأوروبية الرئيسية بما في ذلك فرنسا وبريطانيا تتحملان المسؤولية في الإتحاد الأوروبي عن تقديم حوافز ومساعدات إقتصادية كبيرة لكلا الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي.
فما الذي يمنع الصين التي تتبنى وتدعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة من أن تساهم في دعمه بالمستوى والقدر الذي تفعله الدول الأوروبية، وترفع من مستوى مشاركتها السياسية والدبلوماسية على المستوى الدولي لصالح قرارات الشرعية الدولية؟
وختاماً نسأل سؤالاً هامًا، هل كان لتراجع الأيديولوجيا وتقدم المصالح الاقتصادية للصين أثراً كبيراً على طبيعة الدعم والمساندة للقضية الفلسطينية؟
مثلت الاعتبارات الأيديولوجية السياسية القائمة على فلسفة التحرر الرافضة للإستعمار مرتكزاً أساسياً هاماً ومحددًا بارزاً في توجهات الصين التاريخية الداعمة للقضية الفلسطينية، ظهر ذلك في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حيث تجسد ذلك الدعم بعد الزيارة الأولى لوفد من قادة الثورة الفلسطينية بقيادة الشهيد ياسر عرفات في مارس 1964 للصين، بعدها تم افتتاح مكتب فلسطيني في بكين، وأُلحق باعتراف الصين بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً للفلسطينيين عام 1968، تبع ذلك نماذج متعددة من الدعم المالي والعسكري لقوى الثورة الفلسطينية، بالتوازي مع الموقف السياسي والإعلامي المساند للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وقد عبّر الرئيس الصيني “ماو تسي تونغ” عن أهمية القضية الفلسطينية باعتبارها وسيلة مهمة لمكافحة الإمبريالية في الشرق الأوسط.


