
بدا واضحاً مع قدوم الرئيس الأمريكي إلى السلطة، أنّه يتبنى أيدولوجيةً يمينيةً تميل إلى تعزيز الهوية الوطنية وتغليب المصالح الذاتية على حساب حتى أقرب الحلفاء كالأوروبيين واليابانيين، وقام بالضغط عليهم ليتوقفوا عمّا يصطلح عليه «بالركوب المجاني» Free Riding، مطالباً إياهم بدفع حصتهم المستحقة كشركاء ومستفيدين من حلف شمال الأطلسي، والتوقف عن الاستفادة المجانية والاعتماد على القوة الأمريكية لضمان أمنهم بينما يقومون هم بصرف الأموال على أغراض غير عسكريةٍ وإلقاء العبء المالي الكامل على كاهل الولايات المتحدة الأمريكية.
أمّا على الصعيد الآسيوي فقد ألغى التجارة العابرة للمحيط الهادىء ( The Trans-Pacific Partnership (TPP والتي وقّعها سلفه الرئيس أوباما مع مجموعة من الدول الآسيويّة والتي تمنحهم شروط تفضيلية بغيّة جذبهم بعيداً عن الصين التي يمكن أنّ تقدم لهم الإغراءات الاقتصادية، وهو ما أحدث شرخاً عميقاً في الثقة بين هذه البلدان والولايات المتحدة الأمريكية، وسرعان ما أشعل حرباً تجارية مع الصين خلافاً لأنظمة منظمة التجارة الحرّة، متهماً إياها بالتجسس وسرقة حقوق الملكية الفكرية والتلاعب بقيمة اليوان، داعيّاً إياها إلى تعديل الميزان التجاري المختل بشدة لصالح الصين على حد قوله، ويبدو أنّ هذا الموقف يتناسب مع التوجه اليميني الذي يتبناه ترامب كما أسلفنا، والذي يرفع شعار «أمريكا أولاً»، ويميل إلى الإنكفاء على الذات، وقد ظهر ذلك جلياً منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها الحكم حين أعلن عن حظر دخول رعايا ست من الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبناء جدار مع المكسيك، لمنع المهاجرين من دخول الولايات المتحدة، ولا شك أن وباء كورونا قد جاء في جو مليء بالشك بين الطرفين، فاتهم كلٌ منهما الآخر بتصنيع الفيروس والإضرار بالآخر، ما أوجدت صدىً شعبياً في كلا البلدين رغم عدم ثبوت صحة ادعاء أن الفيروس مصنع من حيث المبدأ، بغية إلقاء مسؤولية التقصير والعجز عن مواجهة الفايروس على قوة خارجية تريد تدمير الحضارة الأمريكية، في الحالة الأمريكية وهو يتناسب مع طروحات اليمين عادة، وتهديد استعماري غير مستبعد، في حالة الصين.
بات مزيد من أصحاب الرأي مقتنعين اليوم بحصول مواجهة كبيرة بين البلدين في مدى منظور، نتيجة للتصريحات الأمريكية التي لم تعد تخفي ضيقها وتبرمها من الصعود الصيني، وتدعو لوضع حدٍ له قبل فوات الآوان، ولكنّهم يختلفون في شكل هذه المواجهة وحجمها وتوقيتها وآثارها، ويرون أنّ كورونا ربما يكون عاملاً مسرّعاً لهذه المواجهة المرتقبة والتي أول إرهاصاتها ستكون الحرب التجارية القاسية بين الطرفين.
الصين كقوة خيّرة
بالمقابل فإنّ الصين ترد على الاتهامات الموجهة إليها بالعمل بصمت وعدم محاولة استفزاز القوى الكبرى خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، وتقديم نفسها على أنّها قوةٌ غير استعمارية مستشهدة بتاريخها الطويل الذي يميل إلى الإنكفاء على الذات إلى درجة بناء سور الصين العظيم حول نفسها، وتعزيز علاقاتها مع الآخرين من خلال عدم استخدام القوة العسكرية لتسوية الخلافات، والتعاون الاقتصادي القائم على مبدأ «الجميع رابح»، وعدم التدخل في سياسات الدول الداخلية، أو دعم الثورات والحروب بالوكالة كما تفعل الدول الغربية، وأبعد من ذلك تسهل نقل التكنولوجيا الصناعية وخطوط الإنتاج إلى الدول الفقيرة وتساعد في مشاريع التنمية وتقدم القروض والمساعدات عند الحاجة دون شروط صعبة.
هل سيميل العالم نحو الانكفاء على الذات؟
سلّط تقطّع خطوط المواصلات في العالم، نتيجةً لإجراءات الوقاية من كورونا، الضوء على أهمية الاكتفاء الذاتي في تأمين الحاجات الأساسيّة للدول، أو على الأقل الإبقاء عليها في متناول اليد في دول مجاورة، ولذا فإنّ العديد من المفكرين يرون أنّ ذلك سيكون له تأثير مباشر على الاقتصاد الصيني وخصوصاً قطاع الصناعة، بحكم أنّ أية استعادة للصناعات إلى الداخل سينقص –على الأرجح- من حصة الصين والتي يُطلق عليها لقب «مصنع العالم»، إذ تعتبر الصين أكبر مصدر للمنتجات الصناعية، غير أنّ هذا التوقع أمامه مجموعة من التحديات، أهمها أنّ تحوّلاً من هذا النوع سيحتاج بعض الوقت، كما أنّ له تأثيراً سلبياً على الاقتصادات المحليّة.
على الجانب الآخر، تعمل الصين دون كَلَل على رفع مستوى دخل الفرد، حتى وصل حسب آخر الأرقام إلى قرابة 14 ألف دولار سنوياً، وهو ما سيؤدي إلى تفعيل السوق الداخلي الهائل والأكثر أمناً، كبديلٍ عن السوق الخارجي الذي تكتنفه عادة الصعوبات والضغوطات، بالإضافة إلى ذلك فقد عملت الصين على إنشاء أكبر شبكة قطارات سريعة في العالم، مما سيسهم دون شك، في شد أواصر مناطق الدولة الداخليّة وتمكنيها وتفعيل طاقاتها، ويسهّل العمليات التجارية من خلال التواصل الرخيص مع العالم، وهو ما سيعطي الاقتصاد الصيني دفعةً إضافية.
كما يجب لفت النظر إلى أنّ “مستوى التمدن Urbanization ” في الصين ما زال أقل من نصف عدد السكان، وهذا يشكل فرصة للتطور والنماء، وسيصب أيضاً في خانة الاقتصاد في النهاية، فضلاً عن أنّ الصين اليوم تسعى أصلاً للتخلص من الصناعات غير المتطورة، والتي تستهلك الكثير من الطاقة وتلوّث الجو، وتسعى إلى التركيز على “الصناعات المتقدمة Hi-tech”، وتطوير قطاع الخدمات.
بالمقابل، فإنّ الصين قد استعادت عافيتها سريعاً وسارعت عجلة الإنتاج فيها للدوران مجدداً قبل أن يصحو الآخرين من وطأة الوباء وما زالت كثيراً من الدول الآسيوية والإفريقية ودول أمريكا الجنوبية وشرق أوروبا، ترى مصلحتها بالتعاون مع الصين، والاستفادة من قوتها الاقتصادية، والتي عادةً ما تأتي خالية من الشروط المعقدة، والضغوط السياسيّة، خلافاً للعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية والتي تعاني بدورها من أزمة اقتصاديةٍ من المتوقع أن تزداد عمقاً عقب الخروج من أزمة كورونا.
إدارة الصين لأزمة كورونا بين الداخل والخارج
أظهرت الصين خلال تعاملها مع أزمة كورونا قدرات إدارية أثارت الكثير من الإعجاب، اعتمدت مبدأ التحكم الكامل، حيث استفادت من نظامها الذي يتسم بالمركزية الصارمة وقدرته على الإدارة شبه الميكانيكية للمجتمع ومؤسسات الدولة، في وقت كانت نظيراتها من دول أوروبا كإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية في حالة من الذهول، مما ساعد على استشراء الوباء وسط شعور ٍمن العجز والخلاف حول سبل التعامل مع الجائحة، بل وإلقاء اللوم على الآخرين، وهو ما طرح سؤالاً كان أبعد ما يكون عن التصور فيما مضى، حين كان العالم يناقش نظرية فوكويا عن نهاية التاريخ وتفوق الديمقراطية الليبرالية، وهو هل النموذج الصيني كنظام حكم وإدارة، نظام ناجح ينبغي اقتفاءه والاستفادة منه؟
يبدو أن الدول التي حذت حذو الصين في تسخيرها لقوة الدولة الإدارية والأمنية والمزاوجة بينهما، مثل سنغافوره وكوريا الجنوبية و»إسرائيل»، استطاعت أن تحقّق نجاحاً مشابهاً، وبالتالي جعل السؤال التقليدي حول مدى مشروعية وأخلاقية استخدام هذه الأساليب الأمنية التي عادةً ما تصنّف على أنها تنتهك الخصوصيّة الفردية، يتراجع ويبرز طرحٌ متصلٌ بحتمية التضحية ببعض ثمرات وجوانب الحرية الفردية والديمقراطية للحفاظ على بقاء النوع البشري، والذي هو بالطبع الأولوية الأولى، وبذا تحوّل النموذج الصيني الشمولي من نموذج مقلق للكثيرين إلى نموذجٍ مثالي أو على الأقل يمكن تفهمه، وهو انتصارٌ كبيرٌ للصورة الذهنية الصينية.
تأثير صعود الصين على منطقتنا العربية والإسلامية
إنّ أبرز ما يميز النموذج الصيني هو اعتماده مبدأ هيمنة الدولة على رأس المال وجعله في خدمتها، خلافاً للنموذج الغربي القائم على تسخير الدولة لخدمة رأس المال، ولذا فإنّ قدرة الصين على توجيه ثروتها باتجاه المشاريع التي تخدم رؤية الدولة وخططها أمر مثير للإعجاب، وكذلك قدرتها على تحويل هذه الثروة إلى قوة سياسيّة ضاربة عند اللزوم، كل ذلك كان نتيجة ما يسمى بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وهي يراد لها أن تكون في خدمة مشروع يشابه مشروع دولة الرخاء الموجهة مركزياً، أمّا على مستوى الخارج فإنّ الحضور الصيني سيأخذ منحنى تصاعدياً، ولو بعد حين، وذلك لحماية خطوط الطاقة والمواد الخام والتجارة بشكل عام، وستكون المنطقة العربية وجوارها في القلب من هذا الحضور بحكم الجغرافيا السياسية وتركّز مصادر الطاقة فيها، ولذا فإنّها تعدّ الخاصرة الرخوة للصين، التي وإن كانت تحاول تنويع مصادر الطاقة إلا أنّها ما زالت تعتمد بشكل كبير على نفط المنطقة، لذا فقد تتحول المنطقة إلى ميدان مواجهة بين الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وتضع دولها أمام تحد كبير يمكن أن يحدد مستقبلها.