
إندونيسيا بين التغلغل الأمريكي وطبيـــعة الشَّـــراكة مع إيــران «قراءة الميزان الإقليمي والدولي»
د. خالد هنية - باحث في الشؤون الاستراتيجية والدولية
حيث تنظر إيران دومًا إلى الفُرص في بناء رؤيتها الاستراتيجيةِ في الحفاظِ على بقاء ممراتها حيويَّة وفاعِلة على قاعدة تحقيق المداخل والمنافِذ البديلة؛ بهدف تخفيف سَطوة الحِصار الأمريكيِّ عليها، على اعتباره أحدَ مخاوف الأخيرةِ المهمة، وهنا تمثل إندونيسيا مركزَ ثقلٍ وقوة هائلة مُتدفِّقة عالميًّا وفي مركز قوى الآسيان العشرة، وكدولةٍ في مجموعةِ الـ (20)، ومجموعة من المُنظماتِ الدَّوليةِ الكُبرى، وحجم مساحتها الجغرافيَّة البالغةِ نحو (1.905.000) كم2، بواقع (17508) جزيرة، وعدد سكانها البالغ نحو 275 مليون نسَمة، على اعتبارها رابعَ أكبر دولةٍ في العالم من حيث عددِ السُّكان، بالإضافةِ للمواردِ والثَّروات ووزنة العمل المرسومةِ لحدود نفوذها ومواردها، حيث يمثل الأرخبيلُ الإندونيسيُّ إلى حدٍّ ما مركزَ ثقلٍ جنوب شرق آسيا نظرًا للمساحةِ الجغرافية، وعددِ السكان، وحجمِ الموارد، وطبيعةِ تداخُلات حدودها؛ مما يجعلها محطَّ أنظارِ القوى الكبرى جميعًا.
مؤشر التعليم كعملية تبادلية في تدفق المصالح:
يمثل دعم وتمويل المجال التَّعليمي والثَّقافي مادةً حيويةً تساهم فيها القوى في التَّعاطي مع الملفِّ السياسيِّ الإندونيسيِّ إذا ما اقترن بأهداف وأجنداتِ تعزيز العلاقة، وهذا يتمُّ في فترةٍ سابقةٍ من قِبَل بعض القوى لهذا الهدف، فالولاياتُ المتَّحدة الأمريكيَّة وفي عهد الرئيس (بوش الابن) عام 2003م، أعلنت عن مُبادرةِ التَّعليم الإندونيسيّ بقيمة (157) مليون دولارٍ للفترة (2004-2009م)، بهدف تحسين جودةِ التَّعليم في إندونيسيا، هذه المبادرةُ هي حَجَر الزاويةِ في برنامج مساعدةِ الحكومة الأمريكيَّة في إندونيسيا، إذ تستجيب بشكلٍ مباشرٍ لأولويات إندونيسيا وتعكس التزامًا مشتركًا للعلاقةِ بين إندونيسيا والولايات المتحدة، بهدف تنشيطِ التَّعليم للجيلِ القادمِ من قادةِ إندونيسيا، وبذلك يظهر حجمُ النَّشاطِ والأولوية التي تعملُ عليها القوى في هذا المِضمار.
أما بالنِّسبة لإيران، فتشير الأرقام والمؤشِّرات إلى تعاونٍ إيرانيٍّ إندونيسيٍّ وثيقٍ في مجالَيّ: التعليم، والطاقة كملفَّين مُهمَّين يخدمان الاستراتيجيةَ الإيرانية في علاقتها مع إندونيسيا، فالتعليم يُظهر تعاونًا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يحقِّق ارتباطَ الطلبة بصورةٍ إيجابيةٍ مع إيران، لتسابق طهران بذلك دولًا عربيةً منها السُّعودية، وسط تأكيداتٍ على أنَّ رفعَ العُقوبات عن طهران من شأنه مضاعفةُ حجم التَّبادلِ التِّجاريِّ بين البلدين.
أما بالنِّسبة للطَّاقة: كما نعلم إن ملفَّ الطاقةِ يمثل أحدَ أوراق النُّفوذِ والقوة الإيرانية كدولةٍ مُنتجةٍ ومصدرةٍ للنفط، فهي بحاجةٍ لتنويع مصادر التدفُّق، الذي يحتاجُ إلى تجاوز العُقدةِ الأمريكيةِ في الحصار الأمريكيِّ عليها، فهي تعمل على التَّصدير لإندونيسيا بهدف تحقيق ميزانٍ تجاريٍّ متبادلٍ في هذا الإطار، فقد قال المديرُ التنفيذيُّ لمعهد بحوث المعادنِ واقتصاد الطَّاقةِ في جاكرتا (كوميدي نوتونيغورو): «إنَّ إيران تبدو أكثر اندفاعًا لدخول سوق الطاقةِ الإندونيسيّ، وقد يكون ذلك عبر مساراتٍ عِدة مقارنةً بمساعي المملكةِ العربية السُّعودية، رغم أنَّ الرياض كانت قد بدأت التواصلَ مع جاكرتا مبكرًا».
التعاون الجيوسياسي والميزان الإقليمي والدولي:
الولاياتُ المتَّحدة الأمريكية تنظر إلى التمدُّدِ الإيرانيّ في آسيا كمحل تهديدٍ حقيقيٍّ وفعليٍّ، ناهيك عن الخطر السابق، لا سيَّما بعد الصعود الصيني والروسي وتدفق الاستراتيجيةِ الإيرانية في هذا المُعسكر، والتي ازدادت معالمه بعد الحربِ الروسية الأوكرانية من أبرزها دعم روسيا بالمُسيَّرات، خاصةً وأنَّ إيران منذ فترةٍ تتطلَّع إلى تركيز جهدها في الموانئِ والمضائق، فهي التي لها موطئ قدمٍ في باب المَندب، ومركزيةٌ في هرمز، وصولًا إلى تحقيق تعاونٍ مع حلفائها للامتدادِ نحو مضيق (مالاغا).
ولحداثةِ السِّياق الذي نتحدث فيه، نذهب إلى أحدث النَّشاطاتِ بين البلدين، والتي تُعبر عن ماهيَّةِ تلك العلاقة وأهميَّة التطور الحاصلِ فيها بما يخدم استراتيجيَّاتٍ مختلفةً لعدَّةِ دول، نذهب إلى المُناورةِ البحريةِ التي جرت بين الجيش الإيرانيِّ والإندونيسيِّ حديثًا، فقد أعلن قائدُ أسطول (السَّلام والصداقة) في البحريةِ الاستراتيجيةِ للجيش الإيراني الذي يرسو في جاكرتا، عن إجراء مناورةٍ بحريةٍ مشتركةٍ بين إيران وإندونيسيا، حيث رسا الأسطولُ الإيراني في ميناء العاصمةِ جاكرتا، وحظِيَ باستقبالٍ رسميٍّ من قِبَل المسؤولين العسكريين الإندونيسيين، والمسؤولين السِّياسيين للجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ في هذا البلد.
من جانبه اعتبر قائدُ الأسطول الأول للبحريَّةِ الإندونيسيَّةِ (الأدميرال يايان سفيان) استضافةَ المجموعةِ البحريةِ الإيرانية مبعثَ فخرٍ لبلاده وقال: «إنَّ النقطةَ اللافتة بالنِّسبةِ للجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ هي إتقان خبرائها العلوم والتُّكنولوجيا، لا سيَّما في مجال الصِّناعاتِ الدِّفاعيةِ المُتقدِّمة، الأمر الذي يشكل عنصرَ ردعٍ بوجه التهديدات الخارجية ضدَّ إيران»، وقد وصف الأدميرال الموقعَ الجغرافيَّ لإيران وإندونيسيا بأنَّه استراتيجيٌّ في العالم فقال: «إنَّ إيران لديها إدارةٌ استراتيجيةٌ بسبب إشرافها على مياه الخليجِ العربيِّ، ومضيق هُرمز، وبحر عمان، وإندونيسيا أيضًا بامتلاكها أربعة ممراتٍ مائيةٍ مهمَّة -خاصةً مضيق مالاغا- تشهد مرورَ جزءٍ كبيرٍ من الأسطول التِّجاري العالمي عبرَ هذه المنطقة.
وختامًا يشكِّل ملف السَّيطرةِ على المَضائق وتحقيق خطوط المِلاحة والجسور عنصرًا مهمًا في بَسْط النُّفوذِ الإقليميِّ والدوليِّ، كما تحدثنا في بادئِ السِّياق على أنَّ مركبات التَّنافس بين أمريكا وحلفائها من جهة، والصين وعلاقاتها الاستراتيجيةِ (روسيا، إيران، كوريا الشمالية)من جهةٍ أخرى، تُمثل محطَّ تعزيز أوراق القوةِ بينهما، فإيران تسعى للتغلُّبِ على الحصار الأمريكي عليها عبر التَّفاوضِ لإعادة الاتِّفاق النووي، أو من خلال فتح أسواقٍ جديدةٍ إما بطُرقٍ مشروعةٍ أو غيرها، تظهر معززة لمراكز القوةِ أمام الصِّين وروسيا؛ بهدف تعظيم تقاطُع استراتيجيَّات ما نُسمِّيها شراكاتها الاستراتيجية، والتي تَتجلَّى بإزاحتها نحو آسيا والقوى المُحيطةِ بالصين، فيما تسعى الأخيرةُ من خلالِ خُطةِ «الحزام والطريق» وعبر شَراكاتٍ مختلفةٍ مع إيران أن تؤمِّنَ ممراتها ومضائقها وفق استراتيجيَّة حمايةٍ تَقِيها من الخروج عن سلامةِ الصُّعود الآمن، والتي تقدمُ فيه إيران نفسَها بديلًا حيويًّا يعزز ثقةَ الحلفاء بها، مما يزيدُ من مراكز القوة، خاصةً في ظلِّ هدفٍ استراتيجيٍّ تُشارك فيه لإضعاف الهَيمنةِ الأمريكيةِ في الشرق الأوسط، والمتَّسق مع هدف أُحاديَّةِ النِّظام القُطبي.
وتبقي إندونيسيا دولةَ تجاذبٍ فاعلةً بين القوى والأقطاب الدولية، يحاول الجميع الوصولَ إلى شراكةٍ فاعلةٍ معها بما تمتلكه تلك الدولة من موقعٍ ومكانةٍ حيويةٍ وصعودٍ مُستقبليّ، خاصةً في ظلِّ ضعف الوسائل الحديثةِ للتَّنميةِ هناك، والاستثمار الفِعلي للمُقدَّرات الموجودة.