
في الوقت الذي عاد فيه (بنيامين نتنياهو) بفوزٍ لافتٍ في الانتخابات الأخيرة مطلعَ نوفمبر/2022م، تتوقع الأوساطُ السِّياسية والدبلوماسيَّة الإسرائيليَّة أن يستأنفَ نشاطَه التطبيعيَّ الذي بدأه في عام 2000م، مع عددٍ من الدولِ العربية؛ لتوسيع دائرته باتجاه ضمِّ دولٍ إسلاميةٍ أخرى، والعينُ الإسرائيليةُ هذه المرة باتجاه دولٍ ثقيلة العِيار، تتصدرها إندونيسيا بصفةٍ خاصَّة، باعتبارها أكبرَ دولةٍ إسلاميةٍ من حيث عدد السُّكان.
ولم يتردد وزيرُ الخارجيةِ الإسرائيلي ورئيسُ الحكومة المُنتهية ولايته (يائير لابيد) بالإجابةِ على سؤالٍ لإذاعة الجيش أنَّه ”إذا سألتني من الدُّول المُهمة التي نتطلَّع إليها، فإن إندونيسيا واحدة منها»، مع العلم أنَّ الطريقَ الإسرائيليةَ تجاه جاكرتا ليست معبَّدةً في ضوء جُملة من العراقيلِ والمُعيقات التي تَحول دون نجاحِ هذا المُخطَّط.
تبقى إندونيسيا ذات الـ230 مليون مسلمٍ، وسبعة عشر ألف جزيرة، الجائزة الكُبرى التي يسعى نتنياهو للحصولِ عليها وهو يترأس حكومتَه السَّادسة، بزعم وجود تصدُّعاتٍ آخذةٍ في الاتِّساع في جدار التَّطبيع معها، حيث يسمح لمزيدٍ من الإسرائيليين بزيارتها، وإقامة المزيد من الشَّراكاتِ الثُّنائية، والانخراط الإندونيسي في التكنولوجيا العالية الإسرائيلية، مما يكشف عن جهدٍ هادئٍ وحازمٍ في الوقت ذاته لتعزيزِ علاقاتهما نحو عضويتها في اتِّفاقات التَّطبيع، لكنَّ «إسرائيل» بحاجةٍ لمساعدة الأمريكيين، وجاراتها المحيطةِ بها مثل: أستراليا، واليابان، والهند.
الاتصالات السياسية
شهدت إندونيسيا خِلال العقود الأخيرة عدةَ مبادراتٍ باتجاه إمكانية التَّقارُب مع «إسرائيل»، وتحققَ أول تقدُّمٍ كبيرٍ في هذا المجالِ بعد توقيع اتِّفاق (أوسلو) مع منظَّمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ في 1993م، حين زار رئيسُ الوزراء الرَّاحل (إسحاق رابين) الرئيسَ (محمد سوهارتو) في منزلهِ بجاكرتا، وفي العامِ التَّالي 1994م، سافر (عبد الرحمن وحيد) رئيسُ الجمعيةِ الإسلاميةِ المُعتدلة، ورئيس إندونيسيا لاحقًا، إلى القدسِ المحتلة؛ ليشهدَ توقيعَ معاهدةِ السَّلام بين الأردن و»إسرائيل»، التي زارها ثانيةً في 1997م، ودعا للتَّقاربِ بين العرب واليهود حتَّى وفاته، وفي 1999م عبَّر مع وزير خارجيَّته (علوي شهاب) عن رغبتِهما بفتح العلاقاتِ مع «إسرائيل»، وإن كان فقط على المستوى الاقتصاديِّ والتجاريّ.
بعد عزلِ وحيد من منصبه في 2001م، لم يتم بذل أيِّ جهدٍ لتحسين العلاقاتِ مع «إسرائيل»، وفي 2005م عقد وزيرُ خارجيتِها الأسبق (سيلفان شالوم) أولَ لقاءٍ سريٍّ مع نظيره الإندونيسي (حسن ويراجودا)، خلال قمةِ الأمم المتَّحدة في (نيويورك)، وزارها الوزير الراحل (شمعون بيريس) عام 2005م، لكنَّ الرئيسَ الإندونيسيَّ السابق (سوسيلو بامبانغ يودويونو) استبعد إقامةَ علاقاتٍ دبلوماسيةٍ رسميَّةٍ، رغم تبنّيه حل الدولتين للمرةِ الأولى عام 2012م.
وفي 2008م، نشرت صحيفةُ (جاكرتا بوست) رسالةً من نائبِ وزير الخارجيةِ الإسرائيلي (مجلي وهبي «الدرزي»)، تحثُّ إندونيسيا على القيام بدورٍ بعملية السَّلام في الشَّرقِ الأوسط، وزعمَ نتنياهو في 2016م أمام فريقٍ زائرٍ من الصحفيين الإندونيسيين أنَّ الأسبابَ المانِعةَ للتَّقارب لم تعد قائمةً، وحثَّ جاكرتا على النَّظر بإقامة علاقاتٍ ثُنائية، لكنَّها في مايو/ 2018م منعت حاملي جوازات السَّفرِ الإسرائيليةِ من دخولها.
أما (يوسف كالا) نائب الرئيس السَّابق فقد تجاوز الحدودَ بدعوته للتَّعاملِ مع «إسرائيل»، وفي 2018م تحدث مع نتنياهو على هامشِ اجتماعات الجمعيَّة العامَّة للأُمم المتحدة، وفي العامِ نفسه، التقاه (يحيى ستاقوف) رئيسُ جمعيةِ (نهضة العلماء) خلال زيارته لـ»إسرائيل»، مع أنَّ انتخابه رئيسًا للجمعية -أكبر منظمةٍ إسلاميةٍ في إندونيسيا- شكَّل بارقةَ أملٍ كبيرةٍ للإسرائيليين بحدوث تغييرٍ يخدم حضورَهم داخل البلاد، فهو المعروف باتصالاته الجيِّدةِ مع الغرب، ولم يستبعد إمكانيةَ التَّعامل مع «إسرائيل» خارج إطار «الدبلوماسية الرسمية»، وترددت أنباء غير مؤكدةٍ عن زيارةِ وزير الحرب (بيني غانتس) لجاكرتا سرًّا في 2021م.
لعب يهود إندونيسيا دورًا مهمًّا بتعزيز العلاقات الثُّنائية، حيث ساعد (بنيامين كنتانغ) اليهوديُّ الإندونيسيُّ الذي درس في «إسرائيل» عبر منحةٍ من الرئيس وحيد، بإنشاءِ لجنة الشُّؤون العامةِ الإندونيسيَّة الإسرائيليَّة (IIPAC) عام 2002م، وتضمُّ نحو 4450 عضوًا، وفي يناير/2022م، أقام المركزُ العالميُّ لإحياء ذكرى المحرقة (ياد فاشيم) -ومقره في القُدس المحتلَّة- أولَ متحفٍ دائمٍ مُخصَّصٍ لذكرى ضحايا «الهولوكوست» في كنيسٍ يهوديٍّ بمقاطعة (شمال سولاويزي بإندونيسيا).
التنسيق الأمني
تتحدث بعضُ التقارير الشَّحيحةِ عن تعاونٍ أمنيٍّ ثُنائيٍّ بين (تل أبيب – وجاكرتا) غير علنيّ، وغالبًا ما يُنظر للسفيرِ الإسرائيليِّ في (سنغافورة) على أنَّه مبعوثٌ غير رسميٍّ لجاكرتا، وفي 2012م وافقت «إسرائيل» على افتتاح قُنصليةٍ إندونيسيةٍ في الأراضي الفلسطينية، على أن يكون الدبلوماسيُّ الذي يترأسها ممثلًا فعليًّا لديها، لكن الخطةَ تعثَّرت عندما أصرَّ وزيرُ خارجيتها السابق (أفيغدور ليبرمان) على مبدأ المُعاملةِ بالمثل.
كما يتمُّ الحديث عن تعاونٍ بين (برابوو سوبيانتو) وزير الدِّفاعِ الإندونيسي، وبين أطرافٍ إسرائيليةٍ خلال الأشهرِ الماضية في مجالاتِ الزراعة والأمن الغذائي، لأنه يعتزم الترشُّحَ لمنصب الرئيس في 2024م، ويرى في «تل أبيب» بوابةً لجاكرتا نحو تحسين العلاقاتِ مع (واشنطن)، وفي نوفمبر/2021م تواصل (إيتاي تاغنر) القائم بأعمالِ السَّفير الإسرائيليِّ في البحرين، ومستشارُ الأمن القومي الإسرائيلي (إيال حولاتا) مع (سوبيانتو) بشكلٍ علنيٍّ نادرٍ، على هامشِ مؤتمر (حوار المنامة السنوي) في البحرين، وتأمل «إسرائيل» أن تُغيِّر انتخاباتُ 2024م في إندونيسيا الوجوهَ السياسيةَ على نحوٍ يُعيد ترتيبَ السياساتِ الخارجية.
السياحة والسفر
بدأ الحديثُ عن إندونيسيا تحديدًا، بعد أن نشطت الدبلوماسيةُ الإسرائيليةُ في الآونةِ الأخيرة باللجوء لما يُعرف بـ»السياحة» الإقليمية والدولية، من خلال التنازلِ عن استخراج تأشيرات السَّفر كشرطٍ لدخول «إسرائيل»، لاسيَّما بين الدولِ الآسيوية، وإزالة التَّحذيرات الأمنية المُتلاحِقة عن زيارة بعضها، مع أنَّ تسييرَ الرحلاتِ الجوية المُباشِرة بين «إسرائيل» ودول آسيا يعدُّ مصدرًا اقتصاديًّا كبيرًا لها.
بلغةِ الأرقام، وصل «إسرائيل» في السنةِ الأخيرةِ فقط من قارةِ آسيا 450 ألف سائحٍ، وهو معدلٌ غير مَسبوق وِفق المعدَّلاتِ التالية: 21% من الهند، و31% من الفلبين، و15% من اليابان، ونِسبة شَبيهة من كوريا الجنوبية، فضلًا عن سُياح آسيويين آخرين يأتون من دولٍ لم تُفصِح «إسرائيل» عنها لأسبابٍ تخصها، لكنها في النهاية تُسهم بتسويقِ صورتها في القارة، وتقويةِ علاقاتها الاقتصاديةِ معها، مما قد يُشكل انقلابًا في الصُّورةِ الذهنية المأخوذةِ عنها، ولذلك لا يتردد الإسرائيليون في الحديثِ عمَّا يعتبرونه تغيرًا إيجابيًّا تجاههم بنظر الآسيويين، رغم عدم وجود علاقاتٍ دبلوماسيةٍ بينهما، ولكن ثبت أنَّ العلاقاتِ السياحيةَ ليست أقلَّ أهمية، وربما أكثر منها، بدليل أنَّ عددَ السياح الإندونيسيين الذين وصلوا «إسرائيل» في 2018م أكثر من أربعين ألفًا، ولنا أن نتصورَ أعدادَ السُّياح القادمين من ماليزيا وباكستان، فيما لو ازدادت أعدادُ الرحلاتِ الجوية المباشِرة من آسيا إلى «إسرائيل».
هناك توجهٌ إسرائيليٌّ لاستقدام عشراتِ الوفود من الزُّعماء الشَّبابِ من تلك الدولِ الآسيوية، ممن يعملون في مجالات: الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والتكنولوجيا، والإعلام، وهؤلاء سيقودون بُلدانهم في المستقبل، ويعني استثمارًا إسرائيليًّا على المدى البعيد، بجانب الجُهد في استجلابِ استثماراتٍ من الدُّول الآسيوية، وإبرام المزيد من الصَّفقاتِ التجاريةِ معها، وزيادة الصَّادراتِ إليها.
ويقوم عددٌ متزايدٌ من السُّياح الإسرائيليين بزيارة إندونيسيا سنويًّا، رغم القيود المفروضةِ على التأشيرات التي يجبُ عليهم الحصول عليها عن طريقِ (سنغافورة)، أمَّا رجالُ الأعمالِ والسُّياح الإسرائيليين الراغبين بدخولها، فيمكنهم التَّقدم بطلبٍ للحصول على تأشيرةِ دخول من خلال قنصليَّتها في (دبي)، ويتم عادةً الحصولُ عليها، وبالمثل يزور عشراتُ آلافِ المسلمين والمسيحيين الإندونيسيين الأماكنَ المقدسةَ في فلسطين كل عام، وقد تزداد هذه الأعدادُ مع ظهور روابط جويةٍ أقصر وأرخص عَبر دولةِ الإمارات بعد اتِّفاقيات التَّطبيع عام 2020م، ويسعى المسؤولون الإسرائيليون لإقناع جاكرتا بتخفيض قيمةِ التأشيرةِ السياحيةِ البالغة 800 دولار، حتى يتمكَّن سيَّاحُها من تكثيف زياراتهم لهذه الوجهةِ التي تستأثرُ باهتمامهم.
الاقتصاد والتجارة
رغم افتقارِهما للعلاقاتِ الدبلوماسية؛ فإنَّ «إسرائيل» وإندونيسيا لديهما علاقاتٌ اقتصاديةٌ متصاعِدة، ففي 2018م بلغ حجمُ تجارتهما الثُّنائية 100 مليون دولار، رغم القيودِ الإندونيسيةِ الكبيرةِ على التِّجارة المباشرة مع «إسرائيل»، وارتكزت علاقاتُهما التجاريَّة على تصديرِ إندونيسيا للكثير من المُنتجات الزراعيةِ: كزيت النخيل، والورق، والأخشاب لـ»إسرائيل»، مستفيدةً بالمقابل من التكنولوجيا الإسرائيليةِ وبرامجها الإلكترونيةِ المُتقدِّمة، كما أُنشئت غرفةُ التجارةِ الإسرائيلية الإندونيسية في «تل أبيب» عام 2009م؛ لتعزيزِ شراكتهما الاقتصاديَّة.
وقد زار وفدٌ إسرائيليٌّ من «مركز إسرائيل-آسيا» مكونٌ من المستثمرين والتِّقنيين والمسؤولين التِّجاريين إندونيسيا؛ للتعرُّفِ على فرص التواصُل من خلال الاستثماراتِ والمشاريعِ والشَّركات الناشِئة ومبادرات التَّأثيرِ الاجتماعي، بزعم أنَّ هناك إمكانات هائلةً غير مُستغَلةٍ فيها في مجالات: التَّعليم، والتكنولوجيا الماليَّة، والأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والتنقُّل، والصِّحة، والتكنولوجيا الزراعيَّة، وتقنيات المياه، فضلًا عن موقعها الجيو-سياسي، ولما تحتويه من موارد طبيعيةٍ هائلةٍ، وكشف رئيسُ لجنة التَّعاون الدولي بالبرلمانِ الإندونيسي (فضلي زون)، أنَّ الولايات المتَّحدة عرضت مليارَيّ دولارٍ لتحسين الأوضاعِ الاقتصاديةِ مقابل التطبيعِ مع «إسرائيل».
وتأمل «تل أبيب» في التَّعاون مع جاكرتا في قطاعِ الطَّاقة الذي تمتلِك فيه تقنياتٍ تُتيح الوصولَ الفوريَّ لموارد الغاز الوفيرة، وقطاع التَّعليم الذي طوَّرت فيه «إسرائيل» أساليبَ وبرامج فعالةً للتعلُّم عن بُعد، حيث تعاني إندونيسيا من انخفاض جودةِ التَّعليم في أجزاءٍ كثيرةٍ منها.
ويبقى التَّعاون في القِطاع الزراعيِّ أحد أبرز المجالاتِ التي يتفاخرُ الإسرائيليون بأنَّه يلعب دورًا كبيرًا في التَّطور الأخير الذي شهِدته علاقاتهما، ويشكل فرصةً مهمةً بالنسبة لبلدٍ يوظِّف 40% من أياديه العاملةِ في الميدان الزراعي، ففي مجال زراعةِ الأرز تُتيح التكنولوجيا الإسرائيليةُ استخدامَ الريِّ بالتنقيط عِوض إغراق حُقول الأرز بالماء، وسيمنح التطورُ التكنولوجي الإسرائيلي للمزارعين الإندونيسيين فرصةَ زراعة المحاصيل في غير مَوسِمها، مما يعني انعكاسًا مباشرًا على معدلاتِ الفقر في بلدٍ يستورد ما يُقدَّر بـ5 مليارات دولارٍ سنويًّا من المُنتجاتِ الزراعية.
وما فتئت «إسرائيل» تحاول استغلالَ الصعوباتِ الكبيرةِ التي يُعاني منها القطاعُ الطِّبي في إندونيسيا، حيث تكاد تقتصرُ الرِّعايةُ الصحية الجيدة على الأثرياءِ فقط، عبر اقتراحِ استخدام تقنيَّة الطِّب عن بُعد، من خلال أجهزةِ الاستشعار الطبيةِ التي تُشغَّل عن بُعد، التي تُعَدُّ «إسرائيل» رائدةً فيها، ويمكن من خلالها توفير الرعايةِ الطبيةِ الأساسية لشريحةٍ كبيرةٍ من الإندونيسيين، وشهد عام 2008م توقيعَ منظَّمة «نجمة داود الحمراء» الطبية «الإسرائيلية» ونظيرتها الإندونيسية اتفاقيةَ تعاونٍ في «تل أبيب» شهدها نائبُ رئيس منظمة «المحمدية»، ثاني أكبر منظمةٍ إسلاميةٍ في إندونيسيا.
وخلال فترةِ كورونا (2020-2021م)، وصل وفدٌ رسميٌّ إندونيسيٌّ لـ»إسرائيل» لدراسة سُبل التَّعاملِ مع الوباء، وتخلَّلت الزيارة -التي تمَّت تحت عباءةٍ من السِّرية- لقاءاتٌ سياسيةٌ مع مسؤولين بوزارةِ الخارجية الإسرائيلية مما يكشف عن اتصالاتٍ غير رسميةٍ بينهما منذ سنواتٍ عديدةٍ، وعلاقاتٍ تجاريةٍ مُستقرَّة.
العوائق والتحديات
رغم التحمُّسِ الإسرائيليِّ للتطبيع مع أندونيسيا، لكنَّها ترصد جملةً من التحدياتِ المُهمة، لعلَّ أهمّها المشاعر الشَّعبية تجاه «إسرائيل»، فهي بعيدةٌ كل البُعدِ عن كونها دافئةً، ووفقًا لاستطلاعٍ أجرته هيئةُ الإذاعةِ البريطانيةِ عام 2017م، يرى 9% من الإندونيسيين أنَّه يُمكن التواصل مع «تل أبيب»، فيما ينظر 70% إليها بصورةٍ سلبيةٍ، لتكون واحدةً من أكثر التصوراتِ سلبيةً تجاهها في قارةِ آسيا بأسرها، وهذا الفتور يعود جزئيًّا لتاريخ إندونيسيا الحديث.
فقد تبنَّى (سوكارنو) أول رئيسٍ لها سياسةً خارجيةً مُناهِضةً بشدة للاستعمار، وأسَّس مع آخرين «حركة عدم الانحياز» في 1961م، ومنع «إسرائيل» من المشاركةِ في دورةِ الألعاب الآسيويةِ عام 1962م؛ بناءً على طلبٍ من الحُلفاء العرب، وبعد أن جاء خليفتُه (سوهارتو)، وغيَّر مَسار سياستهِ الخارجية، وأصبح أكثر شراكةً مع الولاياتِ المتَّحدة والغرب، دون القفزِ باتجاه «إسرائيل»، التي تبقى إقامة علاقاتٍ معها محفوفةً بالمخاطر، وتكتنفها جملةٌ من العقباتِ الكبيرة، فإندونيسيا المعروفة بمواقفها الدَّاعمةِ للقضيةِ الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي ستكون مطالَبةً بتعديل موقفها التقليديِّ تجاهه، والحيدِ عن سياستها الخارجيةِ المُناهضةِ له، مُتخلِّيةً عن أهمِّ المبادئ التي ينصُّ عليها دستورها وهو أنَّ «الاستقلال حق جميع الشعوب».
كما أنَّ التَّضامنَ الشعبي الإندونيسي الكبيرَ مع الفلسطينيين، الذي يظهرُ في خروج الشَّارعِ في جاكرتا إِثر كل اعتداءٍ إسرائيليٍّ عليهم، قد يعيق أيَّ علاقةٍ متوقَّعةٍ بين جاكرتا و»تل أبيب»، إذ تحظى القضيةُ الفلسطينيةُ بتأييدٍ ساحقٍ من قِبَل الإندونيسيين، وتُظهِر آخر أرقام استطلاعاتِ الرأي في مايو/2022م؛ أنَّ الغالبيةَ العُظمى بنسبة 71% منهم يُحمِّلون «إسرائيل» المسؤوليةَ عن الصِّراعِ في الأراضي المُحتلة، وغالبًا ما أدانت إندونيسيا بين (2008-2021م) العدوانَ الإسرائيلي المتكرِّر ضِد الفلسطينيين في قطاع غزة.
وتعلم القيادةُ السِّياسيةُ في إندونيسيا أنَّها ستصطدم بمواقف الأحزابِ السياسية نافذة السُّلطةِ في البرلمان، لأن أي تحوُّلٍ في سياستها الخارجية يتطلَّب موافقتها أولًا، وسيكون بإمكانها تأخير عمليةِ التطبيع، أو التأثير على شكلها النِّهائي على أقلِّ تقدير، وتدرك أنَّ اتفاقَ التطبيع مع «إسرائيل» لن يتمَّ عبر قفزةٍ واحدةٍ نوعيةٍ تُعيد تعريفَ العلاقات، لكنَّ الأخيرةَ تُعوِّل على الخطواتِ التَّدريجية المُتَّخذة بحذرٍ لتقليل الاستياء العام تجاهها في إندونيسيا، على أمل أن تُساهمَ التغيرات في الداخل الإندونيسيِّ وتطورات الشَّرق الأوسطِ بتغيير السياسات في نهايةِ المَطاف، والفوز بالجائزةِ الكبرى لضمِّ أكبر دولةٍ إسلاميةٍ لقطار المُطبِّعين.
وختامًا من الواضحِ أنَّ التَّطلعَ الإسرائيليَّ لضمِّ إندونيسيا إلى قِطار التَّطبيعِ سيتصدَّر اهتمامات الحكومةِ اليمينيةِ الجديدة، مستفيدةً في ذلك من علاقاتها مع الدولِ العربيةِ المطبِّعة معها، وهي التي تحتفظ باتصالاتٍ وثيقةٍ مع جاكرتا، والضَّغط الأمريكي على الأخيرةِ للاستفادةِ منها في تَطويق النُّفوذ الصيني المُتزايدِ في هذه المنطقةِ التي باتت تشهد تنافسًا لا تُخطئه العين بين (بكين) و(واشنطن)، مما سيجعل جاكرتا أمام سلسلةٍ من التَّرهيب والتَّرغيب لا يُعرَف بعد كيف ستتعامل معه، وإلى أي حدٍّ سوف تصمدُ في مواجهتها.
مع العلم أنَّ جملةَ المعيقات الدَّاخلية لن تقِفَ مكتوفةَ الأيدي أمام أيّ محاولةٍ إسرائيليةٍ عربيةٍ أمريكيةٍ لإلحاق إندونيسيا بقطار التَّطبيع، في ظلِّ المُعارضة الشعبية وشبه الرسميةِ لهذه المحاولات، إلّا إذا حصلت تطوراتٌ داخليةٌ في البلاد زادت من أسهُمِ المؤيدين للتطبيع على حساب المعارِضين له، حينها قد يتمُّ بدء العدِّ التنازلي لانضمام جاكرتا للعواصمِ العربية والإسلامية المُنخرطةِ في مسلسل التطبيع مع «إسرائيل»، مما سيترك آثارَه السلبيةَ على أندونيسيا نفسها، ومحيطها الآسيوي الأوسع، ويفسح المجالَ أمام مزيدٍ من النفوذ الإسرائيليِّ في هذه المنطقةِ الحيويةِ من العالم.