
الاقتصاد المحلي الياباني – التحديات والآفاق
د. عبد الرحمن مقداد أستاذ الاقتصاد في جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم
الاقتصاد المحلي الياباني – التحديات والآفاق
د. عبد الرحمن مقداد
أستاذ الاقتصاد في جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم
اليابان، الواقعة في طرف العالم، كما الدول الأخرى تأثرت بالصراع الروسي مع الغرب تأثرًا مباشرًا وغير مباشر، ويتحمل المواطن تكلفةَ التأثر على شاكلةِ ارتفاع الأسعار في كثيرٍ من المنتجات؛ بسبب الاضطرابات في تصدير البترول والغاز الروسيين، والاضطرابات في تصدير مجموعةٍ مهمةٍ من الحبوب الروسية والأوكرانية للعالم أجمع، ولِما للمحروقات من دورٍ مهمٍ في شحن ونقل البضائع، فأدت هذه الاضطرابات إلى ارتفاع الأسعار في كلِّ دول العالم، وهذا ما يُسمي “بتضخم زيادة التكلفة”.
والجديرُ بالذكر أنَّ اليابان تستورد معظمَ حاجتها من المحروقات من الشرقِ الأوسط، فروسيا ليست شريكًا كبيرًا، كذلك حاجة اليابان من المواد الغذائيَّة فمن الصين، والولايات المتحدة، وبعض الدول الآسيوية، وتأتي أوكرانيا في المرتبة الخامسَ عشرة تقريبًا، فيما تكاد تغيب روسيا عن القائمة. واليابان بلدٌ اقتصاده قويٌّ جدًا، لكن مع هذا فإنَّ تأثير الصِّراع الروسي-الياباني مع الغرب على قارةِ آسيا والاقتصاد الياباني المحلي بالتحديد، ليس تأثيرًا بسيطًا.
أُناقِش في هذا الطَّرح طبيعةَ العلاقة اليابانية-الروسية وبعدها طبيعة المكوِّن الاقتصادي الياباني، متبوعًا بالحديث عن حاجةِ اليابان من الطاقة، وأيضًا التضخم العالمي في أسعار الموارد، وبهذا تتَّضح التحديات المترتبةُ على الاقتصاد الياباني، وطبيعة تأثير الصراعِ على هذا البلد.
علاقات روسيا – اليابان: تربط اليابان بروسيا علاقاتٌ متقلبة، وهما البلدان الجاران، إلا أنَّ علاقة المصلحةِ المشتركة بين البلدين كانت الغالبة في العشرِ سنوات الماضية، ففي سنة 2021م استوردت اليابان ما قيمته (1.5) ترليون ين ياباني (1$=136 ين ياباني) من روسيا، بزيادة (35%) عن السنةِ السابقة، هذا مقارنةً بـ(188) مليار ين في الربع الأول من 2022م، وما صدَّرته لروسيا يقِلُّ بمقدار سبعة أضعافٍ تقريبًا مما يعني وجود عجزٍ كبيرٍ في الميزان التجاري.
وهذه العلاقاتُ المتوترة والأرقام المتواضعة في التبادلِ التجاري لهذة السنة، يمكن تبريرها بالحرب الروسية-الأوكرانية، والعقوباتِ الاقتصادية المفروضةِ على روسيا من قِبَل الغرب وأتباعهم أو شركائهم، واليابان كما الدولِ الغربية التزمت بفرض عقوباتٍ على روسيا بالرغم من التَّبعات السلبيةِ على اقتصاد البلد.
فمثلًا، بعد بدءِ العملية الروسية في أوكرانيا، وصفت الخارجيةُ اليابانية جزرَ كورال الشمالية بـ”الأراضي المحتلة” بعد أن كانت تصفها بالجزر “المتنازَع عليها”، وقابلتها روسيا بالانسحاب من كلِّ مفاوضات السَّلام والتسوية معَ اليابان، ولأنَّ اليابان انحازت للجانبِ الغربيِّ من اليوم الأول؛ فقد قبلت بنسفِ جهود عقدٍ من الزمن عمِلَ الطرفان فيه على تعزيز الشراكةِ الاقتصادية، وتسهيل إجراءاتِ السفر والسياحة بين البلدين.
العقوبات المفروضة، مَن يعاقب مَن؟ بدأت اليابان سلسلةَ عقوباتِها بوقف إصدار التأشيرةِ للأفراد الساكنين في مقاطعتَي دونياتسك ولوهانسك المتنازع عليهما، ولحِقَ هذا القرار وقف تصدير أي معداتٍ قد تُستخدَم لخدمةِ الحرب لكلٍّ من روسيا وبلاروسيا، ولحقتها عقوباتٌ بزيادة التَّعرفة الجُمركية على الواردات الروسية، باستثناءِ الواردات من البترول، ثم أعلنت نيتَها وقف استيرادِ الفحم، ومنذ البداية توالت العقوباتُ من قبيل تجميد أصولِ بعض المؤسسات والأفراد، ومن أهمِّ العقوبات إعلانُ اليابان نيتها نزعَ صفة كَوْن روسيا أهم شريكٍ تجاري، بعد منحها هذا اللقب لروسيا سابقًا، فهل لليابان مصلحةٌ اقتصاديةٌ أو حتى سياسية؟ في ظني الإجابة بالنفي أقرب منها إلى الصواب.
الاكتفاء الذاتي: لو قمنا بمقارنةِ تركيا باليابان من حيث: المساحة، وعدد السكان، والأراضي الصالحة للزراعة؛ من أجلِ توضيح فكرة إمكانية الاكتفاء الذاتي الغذائي؛ نجد أنَّ مساحة تركيا ضِعف ويزيد عن مساحةِ اليابان، في حين أنَّ عدد سكان اليابان يزيدُ عن عدد سكان تركيا بقرابة 43 مليون نسمة، هذا بالإضافة إلى أنَّ ما يزيد عن (70%) من أرض اليابان جبلية، وأنَّ (11.6%) من أراضيها فقط صالحةٌ للزراعة، أما تركيا فتتمتع بأراضٍ صالحةٍ للزراعة تصلُ لحوالي (65%) من أراضيها الكلية، من خلالِ هذه المعطيات يتَّضح لنا سبب استيرادِ اليابان لمعظم حاجتِها من الغذاء، والتي تصل إلى ما يزيد عن (60%) من حاجتها الكلية، هذا يعني أنَّ اليابان بحاجةٍ كبيرةٍ لشركاء متنوعين لكي تحافظ على استقرارها اقتصاديًّا ومن ثم سياسيًّا.
هل اليابان في مَأمن؟ إذا علمنا أنَّ شركاء اليابان في المجالِ الغذائي هم: الصين، وتايلاند، والولايات المتحدة، وإيطاليا، وكوريا الجنوبية بالدرجة الأساسية، وأنَّ أوكرانيا تأتي في المرتبةِ الخامس عشرة، وروسيا تكاد تكون غائبةً من قائمة مُورِّدي الغذاء الياباني، فلعلَّ مثل هذه البيانات تشير لكَونِ اليابان في مأمنٍ من تبعاتِ الصراع الروسيِّ مع الغرب؛ إلا أنَّ التحليل الاقتصادي الكُلي هو الأقربُ للصواب، فاليابان تتأثر بالصراع بدرجاتٍ أكبر من غيرها من الدول لاعتباراتٍ ديمغرافيةٍ داخلية، أولها أنَّ عددَ سكان اليابان يتناقص، وهذا لا يصبُّ في صالح الاقتصاد الوطني؛ لأنه يفيد بتناقص القوى العاملةِ المُتاحة خاصةً إذا علمنا أنَّ اليابان تستعين بالقُوى العاملةِ الأجنبية بشكلٍ محدودٍ جدًا، بالإضافة إلى أنَّ اليابان تعاني من الشيخوخة وبالتالي انخفاض إنتاجيةِ القوى العاملة؛ ومن أجل هذا تسعى اليابان لتوظيفِ التكنولوجيا لتزيدَ من إنتاجية القوى العاملةِ المتاحة، وهذه صناعة مُكلفة، ولم يصل اليابانيون لمبتغاهم بعد، وهذه المتغيرات تزيدُ من تكلفة عناصر الإنتاج الداخلية، وهذا يعني أنَّ اليابان ستعاني أكثرَ من غيرها جرّاء صراع الغرب مع روسيا الذي يسببُ ارتفاعًا في أسعار عناصر الإنتاج الخارجية.
منظومة الطاقة اليابانية التابعة: من أجلِ توفير الطاقة اعتمدت اليابان وهي ثالث أكبر اقتصادٍ في العالم بعد الولايات المتحدة والصين على استيراد الغاز والبترول؛ تعويضًا عن إغلاق محطاتِ الفحم والمحطات النووية لضمان ديمومةِ دوران العجلة الاقتصادية في البلاد، مع مراعاة الحدِّ من التلوث البيئي، ومع أنَّ اليابان تتجه بشكلٍ متزايدٍ للطاقة النظيفة، إلا أنَّها لا تستطيعُ الاستغناء عن المحروقات حاليًّا، بل تزيد من الطلب لتأمين احتياطاتها.
صحيحٌ أنَّ اليابان تعتمدُ على النفط الروسي بشكلٍ محدودٍ، إلا أنَّ روسيا ثالث أكبر مصدرٍ للنفط في العالم، مما يعني قدرة الرُّوس في التأثير على العرضِ العالميِّ من المحروقات؛ مما يزيد من أسعار النفط الذي تُنتجه الدول المختلفة، وبهذا تتأثر جميعُ دول العالم حتى من ليس لهم علاقةٌ مباشرةٌ بروسيا، وهذا بدوره يحتِّم على اليابان دفع أسعارٍ مرتفعةٍ عند استيراد النفط والغاز.
حرب روسيا-أوكرانيا رفعت أسعارَ المحروقات في السوق العالمي وسببت اضطرابًا ترتبت عليه تحدياتٌ اقتصاديةٌ لليابان أدخلتها في حالةِ “عجز تجاري” من المتوقع أن يمتدَّ لسنوات، فمثلاً: في الرُّبع الأول من سنة 2022م كان الميزانُ التجاري الياباني بالسالب (-636) مليار ين ياباني، بعد أن تعافى قليلاً في سنة 2021م إثرَ أزمة كورونا، ولعلَّ أهم أسباب هذا العجزِ هو ارتفاع أسعار المحروقات بعد الحرب الروسية-الأوكرانية. وفيما يلى نوضِّح سيناريوهاتٍ لحالة الاقتصادِ اليابانيِّ في السنوات القادمة بالنظرِ إلى تضخم الأسعار في كثيرٍ من دول العالم.
تضخم الأسعار: سيتركز تأثيرُ ارتفاع الأسعار في أعقابِ ارتفاع أسعار الموارد بسبب الصراع الروسي مع الغرب بالتراجعِ في معدلات النُّمو الاقتصادي العالمي في السنوات الأولى من هذا العقد، هذا بحسبِ المركز الياباني للبحوث في الشَّأن الاقتصادي، وقد تنبأَ المركز بأنَّ النمو الاقتصادي الياباني سيكون صِفرًا في منتصف العشرينيات من هذا العقد من الزمن، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الانخفاضَ المستمرَّ في عدد سكان اليابان والصِّفة الغالبة وهي الشَّيخوخة والهِرم، والتي قد تصل لذروتها في 2030م، فهذا يجعل من حالةِ النمو السالب في الاقتصاد الياباني وضعًا مُعتادًا مع بداية العقد القادم.
لكن إذا ما توقعنا سيناريو أكثرَ خطورة، والذي قد يتأتَّى إذا ما طال أمدُ الصراع الروسي مع الغرب، وإذا ما أخذت الحرب طابعًا أعنف، وزادت حِدة العقوبات الاقتصادية على روسيا، فإنَّ أسعار الموارد سوف تزدادُ حدتها، وسعر النفط للبرميلِ الواحد قد يصل إلى حدود الـ140دولارًا بناءً على تحليلٍ تمَّ نشره قبل شهرٍ واحدٍ من قِبَل المركز الياباني للبحوث في الشأن الاقتصادي، وهذا يعني أنَّ اليابان ستعاني من النمو الاقتصادي السالب “كوضعٍ معتادٍ” حتى قبل 2030م.
طبيعةُ الاقتصاد الياباني الصناعي تعتمد بشكل ٍكبيرٍ على مصادر الطاقةِ المستوردة، وبناءً على تحليل تبعات تضخم الأسعارِ في السيناريو الأساسي والسيناريو الأكثر خطورة؛ فإنَّ اليابان تعاني من تضخم الأسعار، وليس بِيَد اليابان ما تستطيع فعله للخروجِ من هذه الأزمةِ التي لو طال أمدها؛ ستؤدي إلى انخفاضٍ في مستويات المعيشة، وليس من المعلوم ما إذا كان المجتمعُ الياباني قادرًا على تحمُّل مثل هذا الوضع لفترةٍ طويلة، ولا أعتقد أنَّ اليابان تستطيع أن تتَّخذَ قراراتٍ تخالف ما ذهبت إليه الولايات المتحدة والغرب بشكلٍ عام، لذلك فاليابان مضطرةٌ لتحمُّل نتائج قراراتها، التي تشكلت بتوجيهٍ أو تحفيزٍ أو ضغطٍ أمريكي، كما الحال في بعض الدُّول الأوروبية.