
الصين والعرب بعد المؤتمر العشرين خُطى جادة نحو عالم أكثر توازنًا
د. شريف أمين أبو شمالة - رئيس مؤسسة القدس ماليزيا
شهدت الصين خِلال شهر أكتوبر من عام 2022م، أهمَّ وأكبر حدثٍ سياسيٍّ على مستوى الدَّولة الصينية والحزب الشُّيوعي الصيني، تمثَّل بانعقاد المؤتمر الوطني العشرين للحزبِ الشيوعي الصِّيني، الذي تُعدُّ نتائجه محلَّ اهتمامٍ وترقُّبٍ لصانعي السِّياسات في مُعظم دولِ العالم، وخصوصًا الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة التي تضع الصينَ على رأس خُصومها، حسب استراتيجيَّة الأمن القوميِّ الأمريكي لإدارة (بايدن) التي أعلنها البيتُ الأبيض، والتي تتَّخذ من الصُّعود الصيني المُتنامي على الساحةِ الدولية تهديدًا لها، وتسعى بكلِّ قوتها لمُحاصرة نفوذها، وتحجيم قوتها، وفرض العقوباتِ عليها، بالتَّزامن مع شنِّ حملاتٍ إعلاميةٍ دائمةٍ ضدها.
جرت خلال ذلك المؤتمر الذي يُحدد ملامح سياساتِ الصين لخمس سنواتٍ مُقبلة، نِقاشاتٌ وقراراتٌ تناولت الشَّأنَ الداخلي الصيني بصورةٍ رئيسةٍ، والأوضاعَ الدولية المُختلفة، تركزت في كلمةٍ مُطولةٍ للرئيس الصيني (شي جين بينغ) بعنوان «رفع الراية العظيمةِ للاشتراكيَّة ذات الخصائص الصينيَّة عاليًا، والتضامن والكفاح في سبيل بناء دولةٍ اشتراكيةٍ حديثةٍ على نحوٍ شامل»، وقد استهلَّ الرئيس شي كلمتَه بالحديث عن التقدُّم الذي شهدته الجمهوريةُ فترة حكمهِ الذي ابتدأ عام 2013م، على مُختلف الصُّعد، الاقتصاديَّة منها والتِّقنية والتَّعليم والصِّحة والرِّعاية الاجتماعيةِ وغيرها، كما أشار بفخرٍ إلى نمو النَّاتج المَحلي الإجماليِّ للصين الذي بلغ 18.5% من الاقتصادِ العالمي، بزيادةٍ وصلت إلى 7.2 نقطة مِئوية خلال السَّنوات العشرِ الماضية، أي أنَّه يقترب ليُشكِّل خُمس الناتج المحلي للاقتصاد العالمي، ويَحلُّ في المرتبةِ الثَّانيةِ بعد الولايات المتَّحدة.
واستعرض شي الخُطةَ الخمسية التي تهدف إلى بناء دولةٍ اشتراكيةٍ حديثةٍ، والدفع باتِّجاه ديمقراطيةٍ شعبيةٍ كاملةٍ، وممارسة الحَوكَمةِ القائمة على القانون بصورةٍ مُتكاملةٍ، وتناول في خطابه الأهدافَ التنمويَّة العامة للصِّين حتى 2035م، والتي شملت أبعادًا داخليةً وخارجيةً بما في ذلك تعزيز القوةِ الناعمةِ الوطنيَّة، وتعزيز قُدرات الأمنِ الوطني، ومُعارضة أشكال الأُحادية، والابتعاد عن الهيمنةِ والتوسُّع الخارجي.
كانت مُخرجات المؤتمر واضحةَ الدلالةِ على مدى تجذُّرِ وتمدد نفوذ الرئيس شي جين بينغ في الحزب، وفي عُمق السياسةِ الصينية ومستقبلها، فانتُخِب أمينًا عامًّا للحزب لدورةٍ ثالثة، إلى جانب اختياره رئيسًا لِلَّجنةِ العسكريَّة المركزية، وبذلك ضمان بقائه رئيسًا للصين بحُكم نظامِ الحزب الواحد المطبق، وتأهيله لدورةٍ رئاسيةٍ ثالثة؛ نتيجة تعديل الدستور عام 2018م الذي ألغى حدودَ الدورتين للرئيس الصيني، كما وافق الحزبُ الشُّيوعي الصينى على إجراء تعديلاتٍ على ميثاقه، تهدفُ إلى ترسيخ المكانة الجَوهرية للرئيس شي، وللدَّور الإرشادي لفكره السِّياسي، مما يعني بكلِّ الأحوال نفوذًا أوسع للزعيمِ الصيني الذي يسعى لمكانةٍ أكبر لدولته.
على صعيدِ السياسة الخارجيَّة للصين، كان المؤتمر قد حدد بشكلٍ واضحٍ المبادئَ التي تعمل بها الصين في سياستها الخارجية، وقد أكد التَّقرير الذي قدَّمه الأمينُ العام للحزبِ الشيوعي شي على أن تظلَّ الصين ملتزمةً بهدف سياستها الخارجية المُتمثِّل في صَون السَّلامِ العالمي، وتعزيز التنمية المُشترَكة، والسَّعي إلى بناء مجتمعٍ ذي مصيرٍ مُشتركٍ للبشرية، وأنَّها تحترم سيادةَ جميع البُلدان وسلامةِ أراضيها، وتلتزم بكون كلِّ الدول على قدرِ المساواة، سواء كانت كبيرةً أو صغيرةً، قويةً أو ضعيفةً، فقيرةً أو غنيَّةً، ولن تسعى الصِّين وراءَ الهيمنةِ أبدًا، ولن تنخرطَ في التَّوسعِ الخارجي، وفي كلمةٍ ألقاها أمام الصحافةِ في قصر الشَّعب عقب المؤتمر، صرَّح شي بكثيرٍ من الثقةِ بالنَّفس وبقدراتِ دولته أنه «لا يُمكن للصين أن تتطورَ بدون العالم، والعالم أيضًا بحاجةٍ إلى الصين». ه
الصين والعالم العربي بعد المؤتمر
تدرك الصين جيدًا حجمَ التحدياتِ التي تواجهها على الصَّعيد الدولي، وقدرةَ الولايات المتَّحدةِ الأمريكيَّة الكبيرة على استفزازها وخلق المُشكلات لها، ودَعم خصومها، ومحاولةِ عزلها، والضَّغط عليها بكلِّ وسيلة، ونقل المعاركِ إلى حدودها، مثلما حدث قُبيل المؤتمر الوطني العشرين، وتحديدًا في أغسطس/ 2022م، عبر الزيارةِ الاستفزازية لرئيسةِ مجلس النُّواب الأمريكي (نانسي بيلوسي) لجزيرةِ تايوان، رغم ما أطلقته الصِّين من تحذيراتٍ شديدة اللَّهجة، وتصعيدٍ إعلاميٍّ سبق الزيارة، مضى دون كبيرِ جَدوى ملموسة، لكنَّ الصين التي فوَّتت تلك الجولة في إطارِ تركيزها على إنجاح مؤتمر الحِزب العشرين، والتَّمديد للرئيس شي؛ تعي أيضًا أنَّه لا يزال هناك الكثيرُ من الفرص لكسرِ هيمنة القُطب الواحد، ولتصنعَ لنفسها دورًا ومكانةً دوليةً تتناسب مع قوتها وإمكاناتها واقتصادها، في عالمٍ يتَّجه منذ سنواتٍ بخُطىً جادةٍ نحو نظامٍ دوليٍّ متعدد الأقطاب، ممَّا يعني تطورات قادِمة في مُبادرة «الحزام والطَّريق»، أو «مجموعة البريكس» أو «منظمة شنغهاي».
في هذا الإطار، كانت أبرز تحركاتِ الرئيس الصيني عقب فوزه التَّاريخي بولايةٍ ثالثة، توجُّهه إلى الرياض -في أول زيارةٍ لدولةٍ بعد نجاح المؤتمر- لعقد ثلاث قمم، هي: السعودية-الصينية، والخليجية-الصينية، والعربية-الصينية.
ومما يجدر استدعاؤه هنا، أنَّ المملكةَ العربيَّة السعوديَّة كانت آخر الدولِ العربية في إقامتها لعلاقاتٍ دبلوماسيةٍ رسميةٍ مع الصين، وذلك عام 1990م، وتُعرف تقليديًّا بأنَّها الحليفُ الأبرز للولاياتِ المتَّحدة الأمريكيةِ على المستوى العربي، لذلك فإنَّ طبيعة الزيارةِ ومستواها، وتعدُّد القِمَم على أرضِ الرياض، يُعد تحديًا لواشنطن وللرئيسِ الأمريكي بايدن، الذي لا يُخفي غضبه من نفوذ الصين في المنطقة، وقد صرَّح سابقًا خلال زيارته للسعوديةِ في يوليو/ 2022م قائلًا: «لن نغادرَ ونترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران».
عُقدت القمَّةُ العربيَّة الصينيَّة بمشاركةٍ واسعةٍ من القادة العرب، مما عكس رغبةً وسعيًا مُشتركًا من الطرفين العربي والصيني نحوَ تنويع الشَّراكاتِ الاستراتيجية، والحدِّ من الهيمنةِ الأمريكيَّة والأحاديَّة القُطبية، خاصةً في ظلِّ ما يشهده العالمُ من أزمات.ه
الصين والقضية الفلسطينية
كما كان متوقعًا، لم تغِب القضيةُ الفلسطينية عن القِمَّة العربية-الصينية، التي شارك فيها رئيس السُّلطةِ الفلسطينية (محمود عباس)، إذ تدركُ الصين أهميةَ القضيةِ الفلسطينيَّةِ للمنطقة، وهي فرصةٌ لتجدد التذكير بـ»الرؤية الصينية ذات النِّقاط الأربع» التي طرحها الرئيس الصيني؛ لحلِّ القضيَّة الفلسطينيَّة، كما جاء في البيانِ الخِتامي للقمةِ، والذي أكد على مركزيةِ القضية الفلسطينية في الشَّرق الأوسط، وأنَّها تتطلَّبُ إيجاد حلٍّ عادلٍ ودائمٍ لها على أساس حلِّ الدولتين، من خلال إنهاءِ الاحتلال الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيَّة، وإقامةِ الدَّولة الفلسطينية المُستقلَّة على حدودِ عام 1967م، وعاصمتها القدس الشَّرقية، وذلك وفقًا لقراراتِ الأمم المتَّحدة ذات الصِّلة، والتَّشديد في هذا الإطارِ على عدم شرعيَّةِ المستوطناتِ الإسرائيليةِ في الأراضي الفلسطينية والأراضي العربيَّة المُحتلة، وبُطلان ممارسات «إسرائيل» الأحادية الرَّاميةِ إلى تغيير الوضعِ القائمِ في القدس، والتَّشديد على ضرورةِ الحفاظ على المكانةِ التاريخيةِ والقانونيةِ للقدس الشرقيَّة المحتلَّة، وقد ثمَّن بيانُ القمةِ إلى جانب رؤيةِ الرئيس الصيني لحلِّ القضية الفلسطينية؛ سِلسلة من المبادراتِ والرؤى التي طرحها الجانبُ الصينيُّ حول القضيةِ الفلسطينية، وتثمين وقوف الصين إلى جانب الحقِّ والعدالةِ في القضية الفلسطينية.
بذلك نرى أنَّ الموقف الصيني ظلَّ محافظًا على خطِّه في تأييد القضيةِ الفلسطينية بالحدِّ المُتداول دوليًّا، ومتَّفق عليه على مستوى النِّظام العربيِّ الرسمي، في حين أنَّه لا يتطور بطريقةٍ تُناسب مكانةَ الصين أو رغبتها في تعزيزِ حضورها الدولي.ه