
العلاقات الأمريكية مع «آسيان» في ظلال الاستقطاب مع الصين
حسام شاكر - خبير في الشؤون الأوروبية والدولية - فيينا/ بروكسيل
كان نفوذ الولاياتِ المتَّحدةِ في جنوب شرق آسيا من تجلِّيات صعودها مع نهايةِ الحرب العالميَّةِ الثانية إلى القيادةِ العالمية في هيئة قوَّةٍ عُظمى، وكانت هذه المنطقةُ في زمن الحرب الباردةِ مسرحًا لأواصر تحالفيةٍ وثقى مع (واشنطن) من جانب؛ ولمغامراتٍ عسكريةٍ أمريكيةٍ باهظة الكُلفة أيضًا من جانبٍ آخر.
ثمَّ فرض الصعودُ الصينيُّ في القرن الحادي والعشرين على الولاياتِ المتحدةِ أن تُعيدَ تكييف علاقاتها مع رابطةِ دول جنوب شرق آسيا «آسيان»، التي تضمُّ كلًا من: إندونيسيا، وماليزيا، وتايلند، والفلبين، وسنغافورة، وفيتنام، وكمبوديا، وميانمار، ولاوس، وبروناي، على نحوٍ يُراعي هذا التحدِّي المُستجدّ، مع ملاحظةِ أواصر الصين مع الرابطةِ ذاتها ودولها الأعضاء، خاصةً أنَّ شراكةَ «آسيان زائد ثلاثة» تضمُّ الصينَ واليابانَ وكوريا الجنوبية.
أولويات أمريكية
تسعى الولايات المتحدة اليومَ من خلال علاقاتها مع دولِ آسيان، إلى الحفاظِ على نفوذها ومصالحها في المنطقة، ومحاولةِ الإبقاء على ريادتها العالميَّة في عالمٍ يوشك أن يصيرَ متعدِّد الأقطاب، وضمان قدراتها في مجالاتِ التَّأثير والتحكُّم والسَّيطرة في خطوط المِلاحةِ والتجارةِ الدولية، وتزداد أهميةُ هذه العلاقات بالنسبةِ لـواشنطن بالنَّظر إلى سعيها إلى تحجيمِ الصُّعود الصيني، وعرقلةِ تمدده في محيطه الآسيوي بالأحرى، وهو ما يفرض عليها محاولةَ توظيف دول المنطقةِ في التَّنافس المتصاعدِ مع (بكين) وفي سياق أي تصعيدٍ مستقبليٍّ بهذا الشأن.
على هذا الأساس، أظهرت الإدارةُ الأمريكيَّة خلال سنة 2022م اهتمامًا متزايدًا بتطوير العلاقاتِ والتَّعاون مع دول آسيان، وتجلَّى ذلك في استضافةِ واشنطن في مايو قمةً مشتركةً مع زعماء دولِ الرابطة، ثمَّ تأكَّد هذا المَسعى عندما حضر الرئيسُ الأمريكيُّ (بايدن) «قِمةَ آسيان» التي انعقدت في العاصمةِ الكمبوديَّة (بنوم بنه) في نوفمبر، وتخلَّل هاتيْن القمَّتين تأكيدٌ أمريكيٌّ على السَّعي لتطويرِ العلاقات والشَّراكةِ مع دُول المنطقة.
ويبدو التَّحرك الأمريكي نحوَ دول آسيان مسبوقًا نسبيًّا من جانب الصِّين التي لديها شراكةٌ مع الرابطةِ من خلال صيغة «آسيان زائد ثلاثة»، فبينما أعلن بايدن خلال كلمته في قمةِ آسيان في كمبوديا، أنَّ الولايات المتحدة ودول الرابطةِ سترفع العلاقاتِ المُتبادلةَ إلى مستوى «الشراكة الاستراتيجية الشَّاملة»؛ فإنَّ بكين سبقت في الواقع إلى رفعِ العلاقات مع دول الرابطةِ إلى هذا المستوى في سنة 2021م. ومقارنةً بتعهُّد الإدارةِ الأمريكيةِ في «قمةِ واشنطن» بإنفاق (150) مليون دولارٍ للمساعدة في مجالاتٍ منها: تحسين البُنيةِ التَّحتيةِ في دول آسيان، وتعزيز أمنها، ومواجهة عواقب جائحة كورونا؛ فإنَّ الصين سبقَ أن تعهَّدت في نوفمبر/2021م، بتقديم مليار ونصف المليار دولارٍ لدول الرَّابطةِ للدَّعم الإنمائي، والتَّعافي الاقتصادي على مدى ثلاثِ سنوات.
ولا تبدو الشَّراكة التي تتعهد واشنطن بتطويرها مع دولِ آسيان مؤهلةً حتى الآن لإقصاء بكين عن نهج تعزيزِ علاقات الشراكةِ والتَّعاون مع دولِ الرابطة، ومن ذلك الاستثمارات الصِّينيةُ الضخمةُ في السِّكك الحديديةِ للقطارات فائقةِ السُّرعة، ومشروعات البُنى التحتيَّةِ في السُّدودِ والطُّرق، التي من شأنها تعزيز الترابطِ ضمن آسيا على نحوٍ ينسجم مع مَساعي الصين في مجالاتِ خُطوط النقل وطرقِ التِّجارة الخارجية، وتبقى الصين الشريكَ التجِّاريَّ الأول لدولِ آسيان، دون أن يقلِّلَ هذا من أهميةِ شراكة هذه الدُّول التجاريةِ مع الولايات المُتحدة بطبيعةِ الحال؛ التي تأتي غالبًا في المرتبةِ الثَّانية.
التنافس الأمريكي الصيني في الإندوباسيفيك
يتجسَّد التنافسُ الأمريكي-الصيني في منطقة المحيطَيْن الهندي والهادئ (الإندوباسيفيك) بشكلٍ واضحٍ، ويتَّخذ ذلك منحى التَّسابق إلى إبرامِ علاقات شراكةٍ وتعاونٍ مع دول المنطقة.
تبدو الصين حاضرةً بوضوحٍ في توجُّهات واشنطن نحو دُول آسيان، فالولايات المتَّحدة التي تسعى إلى تحجيمِ الصُّعود الصيني، تدرك أهميةَ التَّحرك متعدِّد المَساراتِ في هذا المسعى، ومن ذلك محاولةُ كسب دول المنطقةِ في إطار السَّعي إلى تطويقِ الصين أو إضعاف فُرص تمدُّدِها في محيطها، مع ضمان النُّفوذ الأمريكي في منطقةِ المحيطيْن الهندي والهادئ، مع النَّظرِ إلى أنَّ الولايات المتحدةَ تقدِّم نفسها إلى دول آسيان أيضًا بصفتها دولةً مُطلَّةً على المحيطِ الهادئ أيضًا.
يمنح التسابقُ الأمريكي - الصيني على تسجيلِ الحضور وتعزيزِ النفوذ في المنطقةِ وتطويرِ العلاقات معها؛ فرصًا لدول آسيان في مُحاولة الاستفادة متعدِّدةِ الأوجه من هذا التنافس، مع إدراك مَحاذير مُجاراة أولوياتِ القطبَيْن المتنافسيْن وعواقب استخدام دول المنطقةِ كأدواتٍ في هذا الاستقطاب المُتصاعِد؛ خاصَّةً من جانب الولايات المتَّحدة التي تتبنَّى خطابًا مُحذِّرًا من الصين حتى خلال تواصلها مع دول آسيان، علاوةً على وعي عواصم الإقليم بمخاطر تدحرُجِ هذا التَّنافس إلى صراعٍ دوليٍّ على حِساب مصالح المنطقة.
ولبعضِ دول آسيان احتياجاتُها الاقتصاديَّة والإنمائيَّة المُلحَّة، خاصَّةً أنَّ جائحة «كوفيد 19» جرَّت أعباء اقتصاديةً على دول المنطقةِ وغيرها، حتى صار التَّعافي من عواقب الجائحةِ الاقتصادية ضمن أولوياتِ حكوماتها، وهو ما يلقى اهتمامًا في التوجُّهات الصينيَّة والأمريكيَّة الرَّاميةِ إلى تدعيمِ مصالحها مع دول إقليم آسيان؛ وهذا ما يمثِّل أحدَ مجالات المنافسةِ بين بكين وواشنطن على تعزيز النفوذِ في دول الرَّابطة.
تبقى منطقةُ آسيان عرضةً للتأثُّر متعدِّد الجَوانب بالحربِ التجارية المرشَّحةِ للتَّصاعُد بين الولايات المتحدةِ والصين، وقد تحاول بعضُ هذه الدول الاستفادةَ من موجةِ رحيلٍ تدريجيَّةٍ تباشِرها شركاتٌ أمريكيةٌ وغربيةٌ من الصين باجتذابِ هذه الشركات إليها ضِمن خياراتٍ أخرى، وهو اتجاهٌ يتَّضح لدى فيتنام مثلًا، علاوةً على دولٍ آسيويةٍ أخرى تتصدَّرها الهند.
كيف ستدير «آسيان» العلاقات والتناقضات الإقليمية والدولية؟
تَقع منطقة جنوب شرق آسيا في مركز المُنافسةِ بين الولايات المتحدة والصين، ويفرض هذا الواقعُ تحدِّياتٍ معقدةً على دول المنطقةِ التي لا غنى لها عن علاقاتٍ حيويةٍ مع الجانبَين الصيني والأمريكي، مع حذرِ دول المنطقة من تطوير العلاقاتِ مع أحد الطرفَين إلى درجة الانزلاق إلى استقطابٍ يستعملها في مواجهة الطَّرفِ الآخر، أو الوقوع في قبضة نفوذٍ إقليميٍّ أو دوليٍّ يُهيمن عليها. وتحمل دولُ جنوب شرقِ آسيا خبرةً تاريخيةً مديدةً في التَّعامل مع تنافسِ القوى الإقليميَّة والدوليَّة على هذه المنطقةِ التي تتداخل فيها المصالحُ الخارجيَّة.
يُلاحظ أنَّ خطابَ واشنطن نحو المنطقة -كما يتجلَّى في مؤتمراتِ القمَّة المشتركةِ واللقاءات الثُّنائية- يستحضرُ إشاراتٍ واضحةً إلى التنافس مع الصين دون مُراعاة طبيعةِ علاقاتِ عواصِم الإقليم مع بكين وحساسيتها أيضًا، وقد يُفهم أحيانًا من بعض مَضامين هذا الخِطاب أنَّ واشنطن تتوقَّع من شُركائها الآسيويين اصطِفافًا خلف أولويَّاتها في تحجيمِ الصُّعود الصيني، ويُدرك القادةُ الآسيويون أنَّ أنظار أمريكا التي تحرص على استمالتِهم تبقى مركزةً على الصِّين أساسًا.
وفي المقابل تحاول الصين التوسُّعَ في التَّشبيك الاستراتيجيِّ مع دول المنطقة مُتحلِّيةً بخطابٍ يركِّز على مفاهيم التَّعاون المتبادَل والمصالحِ المشتركة، لكنَّ هذا التوسعَ يستثير مكامِنَ قلقٍ في محيطها الآسيوي الذي لا يُبدي ارتياحًا لصعودها المُتعاظِم وقوتها العسكريةِ المُتضخِّمة، تمتدُّ بواعثُ القلق التي تعتري دولَ آسيان من الصين إلى المَخاوفِ من تنامي العَسكرةِ الصينية في بحرِ الصِّين الجنوبيّ، وكذلك الإشكالات الثُّنائية المُرتبطة بالحدودِ البحريَّة ومجاري الأنهار، وصولًا إلى الهواجسِ من قُدرات بكين على التَّأثير في الطَّبقةِ السياسيةِ، وشُبهةِ سعيها إلى استمالةِ دوائر النُّفوذ في دولِ جنوب شرق آسيا، علاوةً على مفعول النَّزعات القوميةِ في بعض دول المنطقةِ التي تتحسَّس من المكوِّنات الإثنية الصِّينية، وتخشى أن تُستعمَل جيوبًا للنفوذ الصينيِّ فيها، ومن شأن مكامِن القلقِ هذه -في العموم- أن تُضافَ إلى بَواعث حِرص دول المنطقة على تنمية علاقاتٍ استراتيجيةٍ مع الولايات المتَّحدة تساعدها على إضفاء قدرٍ من التَّوازنِ إزاء الصُّعود الصيني في الإقليمِ والعالم، ويُرجَّح على هذا الأساس أن تتراجعَ التحفُّظاتُ التقليديَّة في دول آسيان عن تنميةِ شراكاتٍ دفاعيةٍ مع الولايات المتحدة كلَّما أسفرت الصينُ عن قدراتٍ عسكريةٍ أكبر، واستعرضت قوتَها في المُحيط البحريّ، لكنّ التحفُّظات من نفوذِ الولايات المتحدةِ وتأثيراتها لا تغيب في هذا المَقام أيضًا، وهي تمتدُّ إلى المخاوفِ من إضرار ذلك بحيويَّة العلاقاتِ التي لا غنى عنها مع الصين، والمكاسِب التي يُمكن تحقيقها من خلال مشاريع واستثماراتٍ صينيةٍ واعدة، وصولًا إلى الهواجسِ من قدراتِ واشنطن على التَّأثير في الواقعِ السياسيِّ لبعض دول المنطقة خاصةً من خلال إثارة ملفَّات الدِّيمقراطيةِ وحقوق الإنسان.
سيتعيَّن على رابطةِ آسيان أن تحافظَ على إدارة التَّوازنات والتَّناقضات بين مصالح دولِ الإقليم، وتوجُّهات القُطبيْن الأمريكي والصيني المتنافسَيْن على النفوذِ في المنطقة، ولا ينبغي في هذا الشَّأن إغفال طبيعةِ رابطة آسيان وتقاليدها في إدارةِ العلاقات والتناقضاتِ بين دُولها الأعضاء، ومع الأقطابِ الإقليمية والدولية أيضًا، فالمنظَّمةُ ليست بمثابة منصَّةٍ مشتركةٍ للتواصل والتَّنسيقِ ورعاية المصالح المتبادَلة ودَرء النِّزاعات المُحتمَلة، وليست اتحادًا يتحرَّى توحيدَ مواقف دُوله الأعضاء بالأحرى، وليس من طبيعةِ آسيان الاصطفافُ مع قُطبٍ دوليٍّ أو في مواجهة قطبٍ آخر، حتى على صعيد الخِطابات، وتبقى للدُّول الأعضاء في الرابطةِ حساباتها المُتباينة فيما يتعلَّق بالعلاقاتِ مع قُطبَي التنافس الأمريكي والصيني على أيِّ حال، وهي ليست سَواء في مدى التَّفاهم مع بكين أيضًا أو التَّساوقِ معها.
أي تأثيرات على العالم العربي والإسلامي؟
كان التَّنافس على نَسْج العلاقاتِ وتعزيز النُّفوذ من سِمات حقبةِ الحرب الباردةِ التي انتهت بتفكُّك الكتلةِ الشَّرقية وانهيارِ الاتحاد السُّوفيتي، وهو يبدو اليوم -من جديد- أحدَ ملامح الوُلوجِ في عالمٍ متعدِّد الأقطاب بعد ثلاثة عقودٍ تقريبًا من أُحاديَّة القطبيَّة الأمريكية، هذا يعني أنَّ التسابقَ الأمريكي-الصيني على المصالح لا يقتصــرُ على دولِ رابطــــة آسيـــــــــــــــــــــــــان، كما يُلاحَظ مثلًا في سَعي إدارةِ بايدن إلى التَّقاربِ مع القارَّةِ الأفريقيَّة بعد سنواتٍ من التجاهل، إذ تجلَّى في عقدِ قمَّةٍ مع خمسين من القادةِ الأفارقة في واشنطن في ديسمبر/2022م، وليس خافيًا أنَّ هذه القمةَ جاءت بعد تراخٍ أمريكيٍّ استمرَّ ثمان سنواتٍ منذ عقد القِمة الأمريكيَّة-الأفريقيَّة الوحيدة، التي التأمت خلال ولايةِ (باراك أوباما) سنة 2014م، وأظهرت إدارة (دونالد ترامب) بعده تجاهُلًا نسبيًّا لأفريقيا، واستمرَّ ذلك تقريبًا خلال النِّصف الأول من ولايةِ بايدن، فهو لم يقُم بأي زيارةٍ إلى البُلدان الأفريقيةِ حتى نهاية سنة 2022م. ومن الواضحِ أنَّ عقدَ القمة التي تخلَّلتها تعهّداتٌ ماليةٌ لفائدةِ الدول الأفريقيةِ بمقدار 55 مليار دولار، يأتي في سِياق سَعي واشنطن إلى تعزيزِ حضورها العالميِّ في مواجهة التَّنافس الصِّيني والرُّوسي مع الولاياتِ المتحدة، خاصةً بعد أن تمكَّنت روسيا من تسجيل حضورٍ خاطفٍ وغير متوقَّعٍ في بُلدانٍ أفريقيَّة، وامتنعت دولُ القارَّة عن الانخراط في العُقوبات الأمريكية-الغربية المفروضةِ على (موسكو) بعد اندلاعِ حرب أوكرانيا، علاوةً على إدراك واشنطن تعاظُم النفوذِ الصيني المُزمِن في القارَّة السَّمراء.
مِن شأنِ هذه التوجُّهات نحوَ البُلدان الآسيويةِ والأفريقيةِ أن تمنحَ انطباعًا بشأن امتداد تنافس الأقطابِ الدوليَّة إلى العالمِ العربي والإسلامي، والمَلمح الجديد في هذا الشَّأنِ على المستوى العربي هو التَّوجُّه الصَّريح نحو تعزيز العلاقاتِ مع الصين دون التخلِّي عن العلاقاتِ مع الولايات المتَّحدة أو الشُّركاء الأوروبيين، كما تجلَّى في عقدِ القمَّة الخليجية-الصينية في الرياض في ديسمبر/2022م، وهو حدثٌ نوعيٌّ في هذا الشَّأن جاء بعد قرابةِ نصف سنةٍ على عقد مؤتمر قمة في (جدة) بحضورِ بايدن مع قادةِ دول الخليج والعراق ومصر والأردن، وقد ألمحَ الرئيسُ الأمريكي خلالَ «قمة جدة للأمن والتنمية» التي انعقدت في يوليو إلى تنافُس الأقطاب الدوليَّة والإقليميَّة على المنطقةِ بقوله: «لن نترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران»، وهي إشارةٌ تُعيد إلى الأذهان -من الناحية اللَّفظيةِ على الأقل- استراتيجيةَ «ملء الفراغ» التي تبنَّتها الولاياتُ المتحدة خلال الحربِ الباردة، بعد أن طرحَها الرئيسُ (أيزينهاور) سنة 1957م؛ لإحلال النُّفوذ الأمريكي محلَّ القوتَين الاستعماريَّتين البريطانيةِ والفرنسيَّة. في المُحصِّلة، لم تفرز «قمة جدة» عن نتائج ملموسةٍ وبدت حصيلتُها فاتِرة، بل إنَّ التَّطورات التي أعقبت القِمة أوحَت بقناعة قادةِ الإقليم بتراجُع نفوذِ الولايات المتَّحدة على مستوى المنطقةِ والعالم، وبأنَّ واشنطن لا تمثِّل شبكة أمانٍ مضمونة لعواصم الإقليم في التَّعاملِ مع التَّهديداتِ الأمنيَّة، ومن شأن هذا أن يُفسِّر تعبيرَ عواصم خليجيةٍ وعربيةٍ عن نَزعة استقلاليةٍ نسبيَّة غير مسبوقةٍ منذُ نهاية الحربِ الباردة في إدارةِ علاقاتها الخارجيَّة، مثلًا على مستوى تطوير العلاقاتِ مع بكين، أو إبطاء الاندفاع التَّطبيعي نحوَ الاحتلال الإسرائيلي، أو الإحجام عن الانخراط في سياسةِ العقوبات الغربيَّة على موسكو، بل والإقدام على خطواتٍ تحمل طابعَ التحدِّي في مجال إنتاج النِّفط وسقوف الأسعارِ ضمن آليَّة «أوبك بلس» مع روسيا، دون الاكتراث بالإلحاحِ الأمريكي في هذا الشَّأن.
سيتعيَّن على الأقطابِ الدَّوليةِ التي تسعى إلى تعزيزِ المصالح والنفوذ حول العالم أن تتنافسَ في تقديم خياراتٍ محفِّزةٍ لشركائها حول العالم، ومن شأن هذا أن يتيحَ مزايا أفضل وهوامشَ مناورةٍ أوسع لهؤلاء الشُّركاء في إبرام الاتِّفاقات والتَّفاهُمات دون الاضطرار إلى المُكوثِ في حالة تبعيةٍ لقطبٍ أُحادي، وعلى هذا الأساس فمن المرجَّحِ أن يتزايدَ المَنحى الاستقلاليُّ النسبيُّ في السياساتِ الخارجيَّة للدول العربيَّة والإسلاميَّة، ولدولٍ آسيويةٍ وإفريقيةٍ أيضًا، وأن تجتهدَ بعضها في مُحاولة توظيف التنافسِ بين الأقطاب المتنافسةِ أو الصَّاعدة في رعايةِ مصالحها، وتوفير شبكات أمانٍ بديلةٍ لها في حال سَعَت إلى تغيير وجهةِ علاقاتها الخارجيَّة، أو تنويع شبكةِ علاقاتها على الأقل، وقد تجلَّى هذا المنحى بوضوحٍ مع عجزِ الولاياتِ المتَّحدة خلال سنة 2022م عن تعميمِ نهج العُقوبات التي فرضتها في مواجهةِ روسيا على بلدانٍ أخرى، كانت تُعَد حليفةً لها أو مقرَّبةً منها خارج النِّطاق الأوروبي-الغربي.
بوسع القضيَّة الفلسطينيَّة أن تستفيدَ من هذا التَّطور أيضًا إن سجَّلت هذه القضيةُ حضورًا متصدِّرًا ضمن أولوياتِ الدول العربيةِ والإسلاميَّة، وتماسكت المواقفُ الرسميَّة العربية بهذا الشَّأن، وهو ما لم ينضج حتى حينه بوضوح، ومن شأنِ تراجُع النُّفوذ الأمريكي في المنطقة أن يُلحِق أضرارًا بنهج الانزلاقِ التطبيعيِّ الذي اكتسب أحدَ مبرِّراته من الضُّغوط التي تمارسها واشنطن لنسجِ علاقاتٍ تطبيعيةٍ بين الاحتلال الإسرائيلي والعالم العربي، ومن محاولةِ كسب الولايات المُتحدة عبر التقارُبِ مع «دولة» الاحتلال التي يُفترَض أنَّها محظيةٌ لديها.