
العلاقات الصينية العربية تغيّر ظرفيّ أم تحوّل استراتيجي
د. محمد مكرم بلعاوي رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط توفيق حميد محرر صحفي وكاتب محتوى
د. محمد مكرم بلعاوي
رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط
توفيق حميد
محرر صحفي وكاتب محتوى
شكَّلت زيارةُ الرئيس الصِّيني (شي جين بينغ) إلى السُّعوديةِ خلال شهر ديسمبر/2022م، منعطفًا تاريخيًّا في العلاقاتِ مع المنطقة، في ظلِّ توتر العلاقاتِ بين السعودية والولاياتِ المتَّحدة، وتطوراتٍ عالميةٍ تُنذر بتشكُّل نظامٍ عالميٍّ جديد، وأزماتٍ في مجال الطَّاقة والغذاء والحرب الأوكرانية الروسية، وتأتي أيضًا بعد أشهرٍ من تصريحات الرئيس الأمريكي (جو بايدن) في لقاء القِمة الأمريكية العربية خلال يوليو الماضي التي عُقدت في السعودية، والتي خلصت الى أنَّ (واشنطن) لن تترك فراغًا تملؤه الصين في الشَّرق الأوسط، الأمر الذي ردَّت عليه الصين بالقول إنَّ شعوبَ الشرق الأوسط هم سادةُ المنطقة، والشرق الأوسط ليس باحةً خلفيةً لأحد، ولا يمكن أيضًا اعتباره «فراغًا».
عُقدت خلال الزيارة قِممٌ سعوديةٌ وعربيةٌ وخليجيةٌ بمشاركةِ الرئيس الصيني، في العاصمةِ السُّعودية (الرياض)، وهي الأولى من نوعها التي يحضرها الرئيسُ الصيني، القمَّة الأولى كانت «سعودية-صينية»، وقَّع خلالها اتفاقياتٍ مع الرياض بقيمةِ ثلاثين مليار دولار، خاصةً في مجال الطَّاقة النَّووية السِّلمية والاقتصاد، تنسجم مع رؤيةِ المَملكة 2030، وتنطلق من أنَّ الرياض جزءٌ مهمٌ من مبادرة «الحزام والطريق»، والثانية قمة «الرياض الخليجية-الصينية للتعاون والتنمية» بمشاركة قادةِ دول مجلس التَّعاون الخليجي، والأخيرة قمة «الرياض العربية-الصينية للتعاون والتنمية»، بمشاركةِ قادة دولٍ عربية، تمَّ خلالها مناقشة سُبل تعزيز العلاقاتِ المشتركةِ في المجالات كافةً، والتأكيد على بذل جهودٍ مشتركةٍ في الدفاع عن مبدأ «عدم التَّدخل في الشُّؤون الداخلية للدول»، وتعزيز التعاون في الطَّاقة والدِّفاع والرُّؤى المشتركة.
الرئيس الصيني وصف الزيارةَ بأنَّها ستفتتح «عصرًا جديدًا» للعلاقاتِ بين الصين والعالمِ العربي ودول الخليج والسعودية خلالَ كلمته في القِمة، فيما أعلن وليُّ العهد السعودي أنَّها تؤسِّس لما وصفها بانطلاقةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ للعلاقات، العلاقات التي اتَّخذت شكلها الرسميّ بين الرياض وبكين قبل 32 عامًا، بعد اتِّفاق البلدَين على تبادل السُّفراء، وإقامة علاقاتٍ دبلوماسيةٍ كاملةٍ، وتشكيل اللجنةِ السعودية الصينية المشتركةِ عام 2004م، والبدء بحوارٍ سياسيٍّ مُنتظم، تلاها الاتفاقُ على إقامة علاقات صداقةٍ استراتيجيةٍ عام 2008م، والكثير من الزياراتِ رفيعة المستوى والاتِّفاقيات في مجالاتٍ عِدة.
تعتبَرُ العلاقاتُ بين الصين والسعودية حديثةً نسبيًّا، فالرياضُ لم تعترف بجمهوريةِ الصِّين الشَّعبية بعد قيامها في 1949م، وانحازت للموقفِ الأمريكي الدَّاعم للصين الوطنية «تايوان»، ولم تعترف بها إلَّا في 1975م، وبعد 15 عامًا تمَّ تبادل السُّفراء.
وفي تاريخِ العلاقات بين الصِّين والسُّعودية، كان المُحرِّك الأساسيُّ لتطور العلاقات هو الخلافُ مع الولاياتِ المتحدة، فتطوُّر العلاقاتِ قبل 32 عامًا كان بعد أزمةٍ بين واشنطن والرياض عام 1980م، على إثر رفض الولايات المتَّحدة بيع خزانات وقود بعيدة لطائرات «إف 15 إيغل» للسُّعودية، ما دفع الأخيرة للبحثِ عن بدائل، وكانت الصين أحدَ هذه الخيارات.
وشكلت الخِلافات مع الولايات المتَّحدة عام 1988م بداية الانطلاق الفِعلي للتَّعاون التِّجاري بين الصين والسعودية، عندما اكتشفت واشنطن وجود قاعدة صواريخ صينيةِ الصُّنع في الرياض ما أدى إلى أزمةٍ بين البلدين، وتفعَّلت العلاقاتُ الرسمية بين البلدين عام 1990م، بعد أن قطعت الرياضُ علاقاتها بتايوان، التي استمرت لأكثر من أربعة عقود، وهذه القممُ تأتي أيضًا في ظل خلافٍ واضحٍ مع الولايات المتَّحدة وإدارة الرئيس بايدن خلال 2022م.
وعربيًّا، تعود علاقاتُ الصين بالمنطقةِ العربيةِ إلى ما قبل أكثر من 2000 سنة، حيث كانت تتواصل مع المنطقةِ عبر طريق الحرير والتَّبادل التجاري، وانتقل الخزفُ، وصناعة الورق، والطِّباعة الصينية غربًا، وانتقل عِلمُ الفلكِ، والتَّقويم، والطب، والصَّيدلة العربية شرقًا.
وخلال السنواتِ العشر الماضية، ازداد حجمُ التَّبادل التِّجاري بين الصين والدُّول العربيةِ بــ(100) مليار دولارٍ أمريكي، وتجاوز إجماليه (300) مليار دولارٍ أمريكي، وبلغ رصيدُ الاستثمار المباشِر الصيني في الدُّولِ العربية (23) مليار دولارٍ أمريكي بزيادةِ 2.6 ضِعف؛ وتمَّ تنفيذ أكثر من (200) مشروعٍ في إطارِ التَّعاون في بناء «الحزام والطريق»، الأمر الذي عاد بالخير على قُرابة مِلياريّ نسَمة.
وقفز التَّبادلُ التِّجاري بين السُّعودية والصِّين من ثلاثة ملياراتِ دولارٍ في عام 2000م، إلى (67) مليار دولارٍ في 2020م، أي أنَّه تضاعف أكثر من 22 مرةً خلال عقدين، حيث تعدُّ الصين الشريكَ التجاريَّ الأول للسعودية، تليها الولاياتُ المتَّحدة، بينما تمثِّل السعودية أكبر شريكٍ للصين في غربِ آسيا وشمالِ إفريقيا.
تأتي القممُ في توقيتٍ سياسيٍّ مهمٍ للصين، على الصَّعيد الداخلي، حيث تأتي بعد أشهرٍ قليلةٍ من تعزيز الرئيس الصيني مكانتَه كأمينٍ عامٍّ للحزب الشُّيوعي الصيني الحاكم، خلال المؤتمر العام للحزبِ في أكتوبر الماضي، وتعزيز مكانته رئيسًا للصين خلال مارس المقبِل، وخارجيًّا يريد الرَّئيس الصيني تعزيزَ مكانة بلاده، في نِطاق مبادرةِ «الحزام والطريق»، ويطمح لتعزيزِ استثمارات الشَّركات الصينيةِ في السُّعودية وتأمين احتياجات الطَّاقة لبلاده.
وهناك رسائل مبطنةٌ من الزيارةِ للرئيس الأمريكي بايدن، حيث عقِدت قمم مُشابهة لتلك التي عُقدت لـ(ترامب)، وبعد أشهرٍ فقط من القمةِ التي حضرها بايدن في الرياض مع القادةِ العرب وتحذيره من النُّفوذ الصيني في المنطقة، والسعودية قدمت للزعيم الصيني تقريبًا نفسَ ما قدَّمته لبايدن من مظاهر الاستقبال، وجدولِ الزيارة، وجعلها قمةً إقليميةً ضمَّت رؤساءَ دول المنطقة.
وإذ يُنظر إلى زيارةِ الرئيس الصيني إيجابيًّا وأنَّها حققت نجاحًا، وتمَّ خلالها توقيع اتفاقياتٍ بين الصِّين والسُّعودية، والتَّوافق على الرؤى في بعض الجوانبِ خاصةً الاقتصادية مع الخليجِ والمنطقة، إلا أنَّ زيارةَ بايدن على النَّقيضِ لم تحقق الكثير، وفشل خلالَ زيارته في إقناع الرياض بعدم خفض إنتاج النِّفط، حيث اتفقت السعوديةُ وروسيا في إطار (أوبك بلس) على خفضِ الإنتاج، وهو أمرٌ أحرج بايدن سياسيًّا وعبَّر عن استيائه من القرارِ السُّعودي، واضطرَّ لإطلاق كمياتٍ كبيرةٍ من الاحتياطي النِّفطي الاستراتيجي الأمريكي لطمْأنةِ الأسواق، والسيطرةِ على الأسعار.
كما أنَّ الصِّين والسعوديةَ تتوافقان في بعض المصالح، فبكين في حاجةٍ ماسةٍ لتعزيز وجودها في المنطقة لأهميَّتها لمبادرةِ «الحزام والطريق»، ووجود توافقٍ في الرؤى خاصةً مع رؤية السعودية 2030، دون التدخل في الشُّؤون الداخليةِ للدول، وهو ما أكدت عليه خلال القِمم، حيث أعلنت دعمَها التَّمسك بمبدأ عدمِ التَّدخل في الشؤون الداخلية، والدفاعِ عن الحُقوق والمصالح المشروعةِ للدول النامية، ودعمِ الجانب العربيِّ في إيجاد حلولٍ سياسيةٍ للقضايا الشائكةِ بالحكمة العربية، وتحثُّ المجتمعَ الدوليَّ على احترام شُعوبِ الشرق الأوسط باعتبارها أسياد المنطقة.
وهناك ثقةٌ متبادلةٌ بين الجانبين، فالصِّين والدول الخليجيةُ تتبادل دومًا الدعمَ للسيادة، وتحترم الطُّرقَ التنمويَّة لها، وتتمسك بالمُساواةِ بين جميع الدول، والصين تتمتع بسوقٍ استهلاكيةٍ واسعةٍ، ومنظومةٍ صِناعيةٍ مُتكاملةٍ، بينما يتميز الجانبُ الخليجي بموارد الطاقةِ والتَّطور المزدهر لتنويعِ الاقتصاد.
كما تحرص الصين دائمًا على أن تُظهر الدول العربية والإسلامية موقفًا مسانِدًا لها في موضوع الأقليَّات، وذلك لاستشعارها خطورة توظيفِ هذا الملف لتقويضِ الأمن الداخليِّ للبلاد ووحدةِ أراضيها، مع المحاولات الأمريكيَّة إعلاميًّا لدفع الدُّول الإسلامية إلى أخذ منحىً متشددٍ في هذا المجال، والبيان الختامي للقمةِ الصينية-العربية أكدَ على الجهود المبذولةِ لرعاية الأقلِّيات في كلا الجانبين العربيِّ والصينيّ.
وتتَّبعُ بكين مُقاربةً ذكيةً للتَّعامل مع الدُّول النامية، انطلاقًا من كونها دولةً عاشت نفسَ المشكلات التي تُعاني منها تلك الدول وتعرفها عن كَثَب، فهي دولٌ كانت مستعمَرةً سابقًا وتعرَّضت لمحاولاتِ تفكيك وحدةِ أراضيها، وتقويض صعودِها الاقتصادي والتَّنموي، وتنظر إليها الدولُ الغربية نظرةً استعلائيةً، وعاشت تقريبًا حقبةً تاريخيةً مُشابهة، ولذا فإنَّها تعرف جيدًا كيف تُخاطب تلك الدُّول وتتحدث عن مشكلاتها وتحدياتها وأحلامها بشكلٍ حقيقيٍّ ومُقنع، خصوصًا أنَّ سياساتِ الصين أصبحت موثوقةً بعد طولِ تجربة، وهي تقوم على فِكرة المُشاركة في المشاريع التنمويَّة مع الدول الأخرى، مع الحفاظِ على الخصوصية للدُّول الشريكة، ولا تستخدم ملفَّ حقوق الإنسان والديمقراطيةِ أو الأقليات وغيرها من الملفات للتأثيرِ على تلك الدول.
وأما الرياض، فتريد من خِلال القِمم إيصالَ رسالةٍ لبكين أنَّها تستطيع فتحَ أبواب الخليج والدول العربيةِ لها، وإذا كانت لدى الصين طريق الحرير «مبادرة الحزام والطريق»، فالسعوديةُ يمكن أن تكون محطةً لهذا الطريق ولنقل صناعاتِ بكين للمنطقةِ والعالم، ويمكن أن تشكِّلَ صِلة ربطٍ بين أفريقيا وآسيا، بالإضافةِ لوجود مشاريع مشتركةٍ بين البلدين تخدم مبادرةَ ورؤية 2030.
قوةُ الصِّين الأساسيَّة في اقتصادها بحاجةٍ إلى طاقة، والسعودية المصدِّرُ الأول للنِّفط إليها، متفوقةً على روسيا، الجارة الشَّمالية والشريك الاستراتيجيّ لبكين، وتسعى لتعزيز وجودها في المنطقةِ لتأمين مصادر الطَّاقة، والعلاقات مع السعودية مهمةٌ لخدمةِ هذا الهدف، إضافةً إلى أنَّ أهمَّ اقتصادٍ في المنطقة هو الاقتصاد السُّعودي، تليه الإمارات، ولدى الرياض رؤيةٌ لتطوير البلادِ اقتصاديًّا، وأن تكون مركزَ التِّجارةِ في المنطقة، مما يتيح فرصةً للشركاتِ الصينيَّة للاستثمار، وجعلها محطةً قويةً للوصول إلى دولٍ أخرى، خاصةً أنَّ الرياض لديها نفوذٌ وقدرةٌ في التَّأثير على دول الخليجِ وبعض الدُّولِ العربية.
لكنَّ تطور العلاقةِ بين الصين والسُّعودية، ما زال في محاور محدودةٍ، خاصةً الاقتصادية منها، وما زال الملفُ الأمنيُّ حِكرًا على العلاقةِ مع الولايات المتَّحدة -القوى الأولى في العالم- والتي تمتلك قواعد منتشرةً في الخليج، وهي مصدر الأسلحةِ الأكبر لتلك الدُّول، وهي القادرةُ على أن تكون موجودةً أمنيًّا في الخليج، وهو الأمر غير المُتاح حاليًّا في العلاقةِ مع بكين.
ما تقدمه الولايات المتحدة أمنيًّا يستلزم إبقاءَ علاقاتٍ جيدةٍ مع واشنطن، وهناك حدودٌ للعلاقة مع الصين مقارنةً بالعلاقة بالولايات المتَّحدة، وفيما يتعلَّق بالملف الإيراني، لدى بكين علاقاتٌ جيدةٌ مع طهران عدو السعوديةِ الأول في المنطقة، وساعدتها على تجاوز بعض العقوباتِ الأمريكية، وتعلم الرياض أنَّ بكين تُولي أهميةً كُبرى لمشاريعها الاقتصادية ومصالحها، وغير مُستعِدة في الوقت الحاليِّ لممارسة ضغوطٍ سياسيةٍ على أحد الأطراف.