تقارير

العلَّامة محمد عاكف أرصوي … حياته الثقافية والدينية

محمد عاكف أرصوي: شاعر الاستقلال وحادي الأمة • بقلم: سمير عطية

  • العلَّامة محمد عاكف أرصوي … حياته الثقافية والدينية
  • محمد عاكف أرصوي: شاعر الاستقلال وحادي الأمة
  • الأديب والكاتب محمد عاكف أرصوي: رحلة استثنائية في حياة الأمة

بقلم: سمير عطية

 

هل كان يدور في خُلد كاتبِ الأحوال المدنيَّة في “إسطنبول” وهو يسجل ميلادَ الطفل محمد عاكف أرصوي أنَّ هذا الطفل ستُخلَّد سيرته في حياته وبعد وفاته بأعوامٍ وأعوام؟ سنُجيب حتمًا إنَّ هذا المستحيل بعينه فعالِم الغيب هو الله تعالى وحده، ولكن من هو هذا الطفل الذي نتحدث عنه؟

  • بين يَديّ الشعر:

يزخَر المشهد الشِّعري في تركيا بالعديد من الأسماء المُهمة التي أثَّرت في أدبه وثقافته فباتت أيقوناتٍ أدبيةً، غير أنَّ للشاعر محمد عاكف أرصوي استثناءً نوعيًّا في هذا المشهد، إذ نُقش اسمه الشعريُّ في سجل الشعراء الأتراك، وعرفه شعراء المشرق والمغرب، فحاز على لقب “شاعر الإسلام” و”شاعر الأمل”، وفوق هذا وذاك كان أهلًا ليكون شاعرًا للنشيد الوطني لبلاده تركيا.

  • شاعر نشيد الاستقلال:

في 12 مارس عام 1921م أقرَّ البرلمانُ التركي قصيدتَه لتكون نشيدًا رسميًّا لتركيا، محطَّةٌ ثقافيَّةٌ لم تكن خاصةً بالشاعر محمد عاكف أرصوي فحسب، وإنّما باتت إعلانًا بأحقيَّته كشاعرٍ وطنيٍّ وقوميّ، إذ اعتُمد نصُّه الشعري ليكون نشيد الاستقلال لتركيا، محفِّزًا على القتال ضد المحتلين، نشيدٌ سجل معانيه منذ مائة عامٍ حضوره في نفوس عشرات الملايين من الأتراك، يقول في مَطلعه:

لا تخف، لن تخمدَ الرايةُ الحمراءُ في شفقِ السماءْ

قبلَ أن تخمدَ في آخرِ دارٍ على أرضِ وطني شعلةُ الضياءْ

وحول هذا النَّشيد أجاب الشاعر على من سأله عن كيفيَّة كتابةِ نشيد الاستقلال قائلًا:

“إنما يُكتب هذا الكلام بالإيمانِ والأُمةِ المؤمنة فقط، فكروا معي قليلًا: هل كان بإمكاني أن أكتبَ كل هذا لو لم أمتلك الإيمانَ الراسخ آنذاك، ولا بدَّ لي أن ألفت الانتباه إلى أنَّه لا قيمة لنشيد الاستقلال على اعتبار أنَّه مجرد شعرٍ، وإنما تكمنُ قيمته في كونه انعكاسًا لصفحةٍ من صفحات تاريخنا بما فيها من آلام.”

ولعلَّه من المفيد هنا أن نُشير إلى أنَّ ” أرصوي” رفض المشاركة في مسابقةٍ شعريةٍ لاختيار نشيد الاستقلال، وتمَّ وضع مبلغ 500 ليرة مكافأةً لذلك، ورغم مشاركة ما يربو على 700 شاعرٍ إلا أنَّ اللجنة لم تجد ما تطمح إليه في نصٍّ شعريٍّ يليق بالاستقلال، حيث كُلِّف بكتابته من وزير التعليم، وتبرع بثمن المكافأة.

  • كيف بدأ الطريق؟

لأبٍ تركيٍّ ترجع أصوله لـ”كوسوفو” في أوروبا، وأُمٍّ من “بُخارى” وسط آسيا، عرف محمد عاكف مبكرًا المعنى الحقيقي لأمَّة الإسلام، بمكوناتها المتعددة جغرافيًّا وعِرقيًّا ولغويًّا، وخاصةً حين يكون تلميذًا وابنًا في آنٍ واحدٍ لمعلِّمٍ في “مدرسة الفاتح”، المنطقة التاريخية الشَّهيرة في “إسطنبول”، علمًا ومعرفةً وتاريخًا، مكوناتٌ أهَّلته سريعًا لتعلم لغته التركية والعربيَّة والفارسية ومن ثمَّ الفرنسية.

ورغم أنَّ وفاة والد محمد عاكف جاءت في وقتٍ مبكرٍ من عمر شاعرنا، إذ كان يومها في التاسعةِ من عمره فقط، إلا أنَّ العائلة حرصت على تنشِئته كما أراد له والده فتابعت والدته ذلك، واضطرَّ للانتقال لمدرسةِ البيطرة لكن ذلك لم يمنعه من مُواصلة سعيه الجاد والحَثيث، فإذا كان قد درس اللغةَ العربيةَ على يد والده، فها هو يحفظ القرآن الكريم على يد إمامِ “جامع الفاتح”، ويدرس الحديث الشَّريف كذلك.

كيف حارب بالقلم؟

وجد محمد عاكف وطنه وأُمته يعيشان في مرحلةٍ زمنيةٍ صعبةٍ للغاية، تواجههم فيها مؤامراتُ الغرب وسعي الأوروبيين لاحتلالِ العالم الإسلامي وتقسيمه، والدولةُ العثمانية تحت هذا التَّهديد الخطير، فشرعَ قلمه ليقومَ بدوره في نشرِ الوعي وتحفيزِ الجماهير والوقوفِ أمام الأخطار، بصوته وقلمه وجُهده، وكان مما كتبه في ذلك في مجلته “الصراط المستقيم” والتي صار اسمها بعد ذلك “سبيل الرشاد:”

“لم يكن أمام مُسلمي الأناضول التركي بعد أن رأوا حجم مصيبةِ الاعتداء على حُرمة أراضيهم غير العودة مجددًا لحمل السِّلاح، والعمل على صدِّ الحملات في حضارة القرن العشرين”.

كما حذَّر مِرارًا من خطورة الدَّعوات القَومية على أمَّته، مُحذراً من انكفاء القوميَّات في بلدانٍ محددةٍ على حساب مشروع الأمة الواحدة، وداعيًا في الكثير من المقالات والخُطب وعبرَ نصوصه الأدبية وقصائده الشعرية إلى الانتباه إلى خطورةِ ذلك، لما فيه من خدمةٍ للأعداء الذين يتربَّصون بالأمة للانقضاضِ عليها وتقسيمها وبَسْط نفوذهم عليها.

ومن هذا ما كتبه في آخر ما أصدره من دواوين شِعرية، وكان هذا في مصر، فكتب في نصٍ بعنوان ” الأقصر” التي زارها فوجد فيها سُياحًا أجانب فرنسيين وإنجليزيين وألمانيين يحتسون الخمر، ورأى أمامه آثار الفراعنة فقال:

“رأيت أمامي نحو ثلاثة عشر نفرًا من السَّائحين ما بين فرنسيين وإنجليز وألمان، مُجتمعين زُرافاتٍ ووحدانًا وللكؤوس بينهم رنين، فالفرنسيون يضحكون لأنَّ كيسهم المملوء يهزُّ الدنيا المدينة لهم هزًّا عنيفًا، وليس في الدنيا ما يحزنهم إلا هزيمة “سيدان”، ومع ذلك فإنَّ الرغَد والرَّفاهية يُنسيان الإنسان أنكى الجروح، والإنجليز يضحكون وما أجدرهم بالضَّحك لأنَّ الدنيا كلها رهنُ إشارتهم… يُؤلِّبون شعوب الأرض بعضها على بعضٍ وينظرون عن بُعدٍ فرحِين، والألمان يضحكون لأنَّ قوة عضدهم كفيلةٌ بأن يصدِّق العالم جميع ما يقولون، وما دام البشر لا تُعطى الحق إلا للقوة، فما الحِيلة في الوصول إلى الحقِّ بغير القوة.

كيفَ أثر الدين في شخصيته؟

ساهمت التَّنشئةُ المبكِّرة في بيئةٍ تمتدُّ جذور وعيها إلى بِشارة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الجيش الذي سيفتح “القسطنطينية” في حديثه الشهير الذي رواه أحمد والحاكم: “لتُفتحنَّ القسطنطينيَّة، فلنعم الأمير أميرُها ولنعمَ الجيش ذلك الجيش”، ومن المعلوم أنَّ السُّلطان “محمد الفاتح” الذي أخذ هذا اللقب لأنَّه حازَ على هذا الشرف، موجودٌ ضريحه في ساحة الجامع، الأمر الذي يُشعرنا جيِّداً بالأجواء التي عاشها أورصوي في ذلك المكان، وعُمق الأثر الذي تلقَّاه في التربية والتكوين الديني، فما كان منه إلا أن اهتمَّ بأمور المسلمين، فسافر إلى أوروبا وبلاد الشام والحجاز، ولم تكن إقامته في مصر بعد أن رأى في توجه السُّلطةِ السياسيةِ في تركيا مع الدِّين بما لا يرضى عنه ولا يقرُّه، أسفارٌ تركت في نفسه وأدبه وثقافته وكتاباته الشيء الكثير، فكتب عن المدينةِ المنوَّرةِ على صاحبها أفضل الصَّلاة والسَّلام، وظلَّ ينظر في أحداثِ يومه فيعكسها وعيًا للقارئ، الذي كان يثق جيدًا بأنَّ الكاتب ذو شأنٍ كبيرٍ في الصِّدق والوعي والمعرفة، والأكثر من هذا وذاك أهمية أن يكون للكلمة أثرها الحقيقيُّ والفاعِل في حماية الأُمة ونهوضها مِمَّا هي فيه.

وكان من اهتمامه بالقرآن الكريم، وإدراكه لخطورة ما تُقبِل عليه الأمة أنْ عملَ على ترجمة معاني القرآن إلى التُّركية، إذ أخذ من وقته في مصرَ لإنجاز ذلك، لكنه على اهتمامه كان حذرًا من أن لا تكون الترجمةُ بمستوى الرسالةِ العظيمةِ التي أراد أن ينجزها، صنع ذلك في مصر أيام مَنفاه فيها، فتراجعَ عن نشر الترجمة وبقيت عملًا مخطوطًا لم يُكتب له النَّشر.

وعلى ما كان للكاتب والأديب محمد عاكف من تأثيرٍ ثقافيٍّ ودينيٍّ ومعرفيٍّ، إلا أنه كان متابِعًا مهتمًّا بالشخصيات العربية والإسلامية المؤثرة المِعطاءة، كان قد تأثر كثيرًا بالأستاذ “جمال الدين الأفغاني” ودعوته لنبذ الاستبداد ونَيْل الحُريَّات ولو بالقوة، وكان يردد آراءَه وآراء تلميذه الأستاذ “محمد عبده“، وترجم كثيرًا من تلك الآراء إلى اللغةِ التركية،

كما تأثر بالشَّاعرِ القدير “محمد إقبال” وموقفه السياسي ودوره الأدبي والثقافي الذي انعكس شعرًا رَقراقًا في نفوس الأمة وصدورِ الجماهير.

  • قالوا عنه:

كثيرةٌ هي الشَّهادات الإيجابية في شاعرنا وأديبنا وأستاذنا الراحل محمد عاكف أرصوي، وحَسْبنا في هذه السُّطور أن نختمَها بكلماتٍ قالها عنه الأستاذ الألماني “ريتشارد هرتمان“: “مع إحاطته بالحياة الثَّقافية والسِّياسية يتعمق من الوُجهةِ الإصلاحيةِ في الدين، وما يعنيه من الرجوع إلى الإسلام يعني به الرجوع إلى الإسلام القديم، لا بإبعاد الأمور التي غيَّرت منه أثناء تطوره التاريخي فحسب؛ بل أيضًا وقبل كل شيء يريد الوقوفَ ضد هؤلاء العصريين المُندفعين في تيَّار الغرب، وضد دُعاة المذهب القومي، فهي حركةٌ دينيةٌ تريد أن يكون الدين قوةً تخضع لها كلُّ الحياةِ المدنيةِ في غير إضرار بحركة الفرد”.

  • تواريخ في حياته: 

وُلِد في “إسطنبول” في 20/ ديسمبر/ 1873م، وتخرَّج في مدرسة البيطرة عام 1893م، وصار مدرِّسًا في ذات المدينة سنة 1906م، أمَّا في 1908م عمل في “جامعة إسطنبول” أستاذًا للأدب العثماني.

وعن نشاطه الأدبي فقد شارك عام 1908م في إصدار “مجلة الصراط المستقيم“، وفي عام 1911م أصدر ديوانه الأول “صفحات”، أمَّا في عام 1912م صدر ديوانه الثاني “في منبر السليمانية”، والثالث “أصوات الحق” في عام 1913م، وتابع فأصدر ديوانه الرابع “في منبر الفاتح” عام 1914م، وفي عام 1917م صدر ديوانه الخامس “الخواطر”، فيما صدر ديوانه السادس “عاصم” عام 1919م.

أما في مجالِ السياسة فقد أصبح نائبًا في مجلس النُّواب في دورته 1920-1923م، وفي 12/مارس/1921م أقرَّ البرلمانُ التركي قصيدتَه لتكون نشيدًا رسميًّا لتركيا، وقد غادر “إسطنبول” للإقامةِ في “القاهرة” عام 1925م، وعاد في عام 1933م ليصدرَ في مصر ديوانَه الأخير بعنوان “ظلال”.

وفي عام 1935م سافر إلى “بيروت” وعاد إلى مدينته للعلاج، وقد تُوفِّي الشاعر الأديب والكاتب محمد عاكف أرصوي في “إسطنبول” يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 1936م.

ووفاءً لمسيرته الثقافيةِ النوعيةِ وجهوده المَعرفية في بناء وعي الأمة؛ فقد قررَّ مجلسُ الأمة التركي في 4/مايو/2007م اعتبارَ يوم 12/مارس من كلِّ عام يومًا وطنيًّا للاحتفال رسميًّا بذكرى قبول النَّشيد الوطني التركي والاحتفاء بشاعره.

 

محمد عاكف

* لم يمت محمد أرصوي:

في كلِّ لحظةٍ يرفرف فيها العلم، في الثَّكنات والمدارس والمؤسسات، تترنمُ الألسنة بكلماته، وتحلِّقُ القلوب بمعانيها، وترتسمُ على الشِّفاه ابتسامات حبٍّ للوطن ولأبنائه، فكيف حين يكونون مثل الشاعر أرصوي؟ إنه يعيش في كل كلمةٍ سطَّرها، ونبض فيها لوطنه ولأمَّته ولدينه.

*********

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى