
مقابلة : النهضة العلمية وحدها لا يمكن أن تكون منجزاً حقيقياً بعيداً عن الاستقرار السياسي
مقابلة العدد الاول : د. محمد مكرم - رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط
د. محمد مكرم – رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط :
النهضة العلمية وحدها لا يمكن أن تكون منجزاً حقيقياً بعيداً عن الاستقرار السياسي
خاص – «آسيا-بوست»
عادت الحرب الباردة من أوسع أبوابها بقطبٍ جديدٍ يتصاعد نجمه اقتصاديًا وسياسيًا متمثلًا بالتنين الأحمر، فمنذ تفكك الاتحاد السوفياتي، باتت الولايات المتحدة الأمريكية تعد نفسها الحاكم الأوحد لعالم تريده أن يقاد وفق رؤية واحدة، وتبسط سيطرته عليه.
لكن في السنوات الأخيرة بدأ يبرز نجم جمهورية الصين الشعبية كقوة اقتصادية وعسكرية لها تأثيرها في الوضع العالمي يمكن أن تنهي حال التفرد الأمريكي بالزعامة الدولية.
التقت “آسيا يوست” د. محمد مكرم، رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط في لقاءٍ تناول الأوضاع السياسية الإقليمية والدولية في بداية تشكل النظام العالمي الجديد.
هل تعيد «أزمة كورونا» تشكيل النظام العالمي بعد دخول الصراع بين «واشنطن» و»بيجين» مرحلةً جديدة؟
أزمة “كورونا” سرّعت -إذا جاز التعبير- من حركة التاريخ والأزمة الصينية الأمريكية المستمرة بين البلدين منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات، وهناك داخل مؤسسات صناعة القرار الأمريكي يوجد مدرستان للتعامل مع الصين، مدرسة تدعو إلى استيعابها وجعلها رافدة وقوة إضافية للاقتصاد العالمي الذي تهيمن عليه واشنطن، وأخرى تنظر إلى الصين على أنها العدو البديل للاتحاد السوفياتي والتنين القادم.
ومع مرور السنوات رافق الاقتصاد الصيني نمو في القدرات العسكرية والاستراتيجية، وبروز الطموحات الصينية الى السطح.
ومع نهاية ولاية الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” أصبح ينظر إلى بكين على أنها مهددٌ حقيقي، وعندما تولى “دونالد ترامب” السلطة، بدأ حروبه التجارية والإعلامية على الصين.
وما فعلته جائحة “كورونا”، هي أنها عززت هذا الشعور الأمريكي بالأزمة وجعلت الصين في مرمى النيران بشكلٍ أكبر، مما فاقم الأزمة بين الطرفين.
كيف نفهم طبيعة ومحددات العلاقة الأمريكية الصينية التي تبدو اليوم أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، في ظل تعاونٍ اقتصاديٍ كبيرٍ بين الطرفين؟
خلال القرنين الماضيين حصل تراجعٌ كبيرٌ في دور الصين، وهي اليوم في حالة من حالات بناء الذات من أجل استعادة مكانتها العالمية، بينما الولايات المتحدة تعتبر ما حصل من انهيارٍ للاتحاد السوفيتي وزعامتها للعالم هو مكتسبٌ يجب أن تحافظ عليه، ولا تريد للصين أن تشاركها الزعامة.
لذلك هي تعتبر أي صعودٍ صينيٍ هو صعود على حسابها، وهنا يأتي مكمن الخلاف الصيني الأمريكي، مع فارق أنه خلال العقدين الماضيين أو الثلاثة كان هناك في الإدارة الأمريكية من يعتقد أنه يمكن استيعاب بكين، أما اليوم مع تعمق الأزمة ووصول “ترامب” إلى إدارة البيت الأبيض صار هناك اعتقادٌ أنّ الصين تمثل تهديدًا مباشرًا يجب التعامل معه.
تحدثت سابقًا أنه بمنطق الإمبراطوريات، القوة الاقتصادية تتحول تدريجيًا إلى قوةٍ عسكريةٍ واستراتيجيةٍ وتصبح مهيمنهً، هل ترى الصين مؤهلةً لمثل هذا الدور؟
بمنطق الإمبراطوريات، يعد الصعود الاقتصادي بداية الصعود الاستراتيجي، وهو ما حدث مع الإمبراطورية الإسبانية، والإمبراطورية الفرنسية، وأخيرًا الإمبراطورية البريطانية، ثم الصعود الأمريكي، الذي تبعه صعودٌ عسكريٌ واستراتيجيٌ، والخشية في العالم الغربي من أن يؤدي التراجع الأمريكي والغربي المترافق مع الصعود الاقتصادي الصيني إلى صعودٍ استراتيجيٍ وعسكريٍ صينيٍ يفقد الولايات المتحدة والغرب الهيمنة التي اكتسبتها على مدى القرون الثلاثة الأخيرة على العالم، وهذا كتب عنه كثيرٌ من المؤلفين والكتاب، ولعل أبرزهم “جون مشاريون”.
وهناك كثيرون ينظرون إلى إمكانية وصول الولايات المتحدة والصين إلى حالة يكون الجميع فيها رابح أو ما يعرف بسياسة «الجميع رابح» وليس بالضرورة الدخول في حالة مواجهة، وأن الصعود الصيني لا يمثل تهديدًا حقيقيًا لقيادة الولايات المتحدة حتى في مجال الاقتصاد.
وهؤلاء يدعون إلى التروي ومحاولة الوصول إلى حلولٍ وسطية تفيد اقتصاد الدولتين، كما كان عليه الحال منذ بداية التسعينيات، ولا داع للذهاب إلى حالة مواجهةٍ مفتوحةٍ يمكن أن يخسر على إثرها العالم كله.
تسعى الولايات المتحدة لتحجيم دور الصين باستراتيجياتٍ وأدواتٍ مختلفة، ما أبرز هذه الاستراتيجيات والأدوات؟
واجهت الصين دومًا استراتيجياتٍ متعددة استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لتحجيم دورها من بداية القرن العشرين وربما ما قبل ذلك، ومن هذه الأدوات الوجود العسكري المباشر سواءً في بحر الصين الجنوبي أو في تايوان، أو في كوريا الجنوبية، وأيضًا إرسال حاملات الطائرات وأنظمة الرادارات وأنظمة «ثاد» المضادة للصواريخ، ثم الحرب المخابراتية والإعلامية، واستغلال المشاكل الداخلية والمشاكل الحدودية، كمشكلة الطلاب، أو مشكلة “هونج كونج”، أو وضع “أقلية الإيغور”.
ونرى انعكاس ذلك في الاعلام بشكلٍ واضح، والآن نشاهد الإعلام الأمريكي يركز كثيرًا على قضية “الإيغور” وعلى قضية “هونج كونج”، علمًا بأنه خلال العقود الماضية لم يكترث لها، والأن يريد توظيفها في سياق الدفع بتآكل الصين من الداخل وبالتالي إضعافها خارجيًا، فهكذا يري الصينيون الأمر، والولايات المتحدة لا تخفي خططها في هذا الجانب.
«تشانج جون» مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة أعرب عن قلق بلاده البالغ من التقارير التي تتحدث عن خطة (إسرائيل) لضم أجزاءٍ من الأرض الفلسطينية المحتلة .. داعيًا مجلس الأمن للاضطلاع بالتفويض الموكل له والقيام بدوره في منع هذا التحرك الخطير. كيف ترون الدور الصاعد للصين في خدمة القضايا العربية وخاصةً القضية الفلسطينية؟
الدور الصيني في مساندة الشعب الفلسطيني، هو دورٌ عريقٌ نابعٌ من الأيديولوجية الشيوعية المناهضة للاستعمار منذ عهد الزعيم الصيني “ماو تسي تونغ”.
ولكن لاحظنا خلال العقود الأخيرة من بداية التسعينيات، تحولًا في النظرة الصينية إلى المنطقة، هذا التحول أدى إلى بروز قدرٍ من التعاون بين الصين ودولة الاحتلال، لا سيّما في مجال نقل التكنولوجيا وتطويرها ثم في الاستثمارات، حيث أنها تستثمر المليارات في البنية التحية سواءً في ميناء “عسقلان وحيفا” أو في شراء أسهم بعض الشركات الإسرائيلية، وأعتقد أنّ هذا النشاط هو نشاطٌ يهدف الصينيون منه شد أو جذب «إسرائيل» بعيدًا عن الطرف الأمريكي إلى حدٍ ما، والاستفادة من القدرات التكنولوجية التي يوفرها الغرب لـ”إسرائيل” خصوصًا في مجال البرمجيات.
تسعى الدول الآسيوية بشكلٍ فاعلٍ لتأمين احتياجاتها من الطاقة من مصادرَ متنوعةٍ في ظل تصاعد المخاطر الجيوسياسية بالشرق الأوسط، هل ترون الاستغناء عن استخدام الطاقة التقليدية والتوجه نحو الطاقة المتجددة، مؤشرًا لتحولاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ في العالم؟
بالنسبة لاعتماد الدول الآسيوية على نفط الشرق الأوسط، فأعتقد أنه خلال الفترة القادمة لن يكون هناك تحول كبير في هذا الاتجاه، لكن أظن أن النفط لم يعد هو السبب الوحيد لاهتمام الدول الآسيوية بالشرق الأوسط بل هناك أسبابٌ أخرى، حيث لا يمكن لدولةٍ أن تتبوأ درجاتٍ عليا وأن تكون في مصاف الدول الكبرى إذا تجاهلت قلب العالم وهو الشرق الأوسط وفلسطين والمنطقة العربية وذلك لأسبابٍ استراتيجيةٍ و تاريخيةٍ مختلفة، هناك اهتمامٌ دائمٌ في هذه المنطقة رغم أن بروز الطاقة المتجددة ما زال في طور التطور ولا غنى عن نفط الشرق الأوسط، كونه الذي يحرك عجلة الاقتصاد في الدولتين الأهم في القارة وهما: الهند، والصين.
كيف يمكن للدول العربية الاستفادة من النهضة ببعض الدول الآسيوية وخاصةً فيما يتعلق بالنهضة العلمية؟
فيما يتصل بموضوع النهضة العلمية هو أمرٌ مهمٌ جدًا، ولكن النهضة العلمية لوحدها لا يمكن أن تكون إنجازًا حقيقيًا بعيدًا عن الاستقرار السياسي والنضوج السياسي، وفي هذا المجال المنطقة العربية والشرق الأوسط عمومًا لديه الكثير ليتعلمه من الدول الآسيوية التي تحولت من النظم الشمولية الاستبدادية إلى النظم الديمقراطية، والتي استطاعت أن تطور موضوع التنمية والاستقرار.
الصين على سبيل المثال، نقلت أكثر من نصف مليار شخصٍ في القرن الماضي على مدى خمسين سنة من تحت خط الفقر وهذا يعد إنجازًا كبيرًا، ونحن بحاجة لنتعلم كثير من الدروس من القارة الآسيوية من بلدان مختلفةٍ ليس فقط في مجال البحث العلمي وإنما في كل المجالات كما ذكرنا.
كيف ترى الحضور الصيني في منطقة الشرق الأوسط؟
الحضور الصيني في الشرق الأوسط هو حضورٌ قديم، وخصوصًا أن كثيرًا من دول الشرق الأوسط كانت تتبنى الأيديولوجيات اليسارية أو القومية، وهذا جعلها دولًا قريبةً من الصين، لكن الصين فيما مضى كان دورها دورًا محدودًا واليوم دورها يتوسع ويرى في الشرق الأوسط ممرًا مهمًا لبقية العالم، ذكرنا أهمية هذه المنطقة على الصعيد الاستراتيجي وعلى صعيد أهمية الدور بالنسبة للدول الكبرى، واليوم نرى أن الحضور الصيني لم يعد مرتبطًا بالأيديولوجيات كما كان في السابق، بل هو حضورٌ منفتحٌ على الخلفيات العرقية والدينية والثقافية كافةً، والهدف الأساسي منه هو تدعيم الاقتصاد الصيني، والسياسة الصينية تقوم بالدعوة إلي الاستقرار في تثبيت الوضع الراهن في هذه الدول من أجل أن تخلق مناخًا مناسبًا للاستثمار والتنمية، خصوصًا في سياق مبادرة الحزام والطريق.
ما هو تقييمكم للعلاقة بين الدول العربية ودول جنوب شرق آسيا؟
الاهتمام العربي عمومًا بدول جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا -إن جاز التعبير- هو اهتمامٌ على الصعيد العاطفي، ومشكلته الأساسية أن الأنظمة السياسية في هذه المنطقة ما زالت بحالةٍ من التخلخل وعدم الثبات، إلى درجة أنه لا توجد مشاريع واضحة تقيم علاقات على مبدأ التكافؤ والاستدامة مع هذه الدول لتبادل الخبرات والمنافع.
هناك علاقات مع هذه الدول ربما في الموضوع السياسي والأمني والاقتصادي بعض الشيء، لكنها ليست علاقاتٍ عميقةً بما يكفي كي تفيد الدول العربية، وهذا سببه أن العديد من هذه الأنظمة تتسم بالهشاشة وعدم وضوح الرؤية، وبالتالي لا توجد مشاريع واضحة تعمل عليها كي تستفيد من هذه البقعة النامية في العالم بما فيه الكفاية.
الدول العربية مطالَبة بتنمية موضوع الحريات واستقرار منظومة الحكم ومساهمة الشعب كي تكون دولًا عصريةً قادرةً على أن تتعاون مع بقية الدول الآسيوية ودول العالم بمنطق الندية التي تسعى إلى ترسيخ السلم الداخلي والاستقرار والتنمية.
كيف ترى حجم الاهتمام بالقضية الفلسطينية في الأوساط الشعبية والحزبية في منطقة جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا؟
القضية الفلسطينية لها حضور تاريخي وفي الأوساط الشعبية والحزبية في منطقة آسيا، لكن هناك تحول جذري حصل في دول العالم التي كانت في الستينيات دولًا -إذا جاز التعبير- تنتهج المنهج الثوري، وكانت الأيديولجية الثورية وخطاباتها في ذلك الزمن تلقى تعاطفًا، لكن مع مرور السنوات ثبت أن هذه الأنظمة الثورية التي حكمت البلدان الآسيوية لم تكن ناجحةً في مجال التنمية والاستقرار فتراجع الخطاب الثوري وحل مكانه الخطاب البراغماتي، وهنا أصبح الاهتمام بالشأن الفلسطيني أقل، وتراجع بشكلٍ ملحوظ إلا في بعض الدول وعلى رأسها ماليزيا.
أعتقد أنه هناك حاجة لإدراك الناس أهمية القضية الفلسطينية وخطورتها من منظورٍ مختلف عما كان سائدًا في مرحلة الستينيات والسبعينات على الاستقرار والسلم الدولي، وأن تأثيرها لن يقتصر على الأراضي الفلسطينية والعربية، بل يمكن أن تتسبب في حال عدم التوصل إلى حل عادل وفق القوانين الدولية والحقوق الفلسطينية إلى مزيدٍ من الصراعات وسفك الدماء التي من الممكن أن تشمل العالم بأسره، بناءً على ذلك يجب أن يكون هناك مزيدًا من العمل للتعريف بالقضية الفلسطينية واستعادة الحقوق في هذه البلدان، بما يخدم الدول الآسيوية ويخدم السلم العالمي.
ما الدور الذي يسعى منتدى آسيا والشرق والأوسط للقيام به؟
منتدى آسيا والشرق الأوسط جعل على عاتقه محاولة تقريب الفهم والصورة في منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية على وجه الخصوص لما يجري في الدول الآسيوية المختلفة، لشعور المنتدى أنّ هناك نوعًا من أنواع الفتور أو غياب للصورة الواقعية للقارة الآسيوية ونموها وتصاعد دورها وأنها قارة المستقبل، وللأسف لا يبدو أن هناك اهتمامًا كافيًا بالقدر المناسب لهذه القارة المهمة.
نحن جعلنا على عاتقنا التعليق على التحولات وما يجري في هذه القارة المهمة، ثم التعريف بالمنطقة وتحدياتها، خصوصًا القضية الفلسطينية لجمهور النخبة الآسيوية في البلدان المختلفة.
أما بالنسبة للقضايا الخلافية فنحن لسنا بوارد الدخول في القضايا الخلافية وإن كانت أحياناً تؤثر على السلوك الاستراتيجي لهذه الدول الكبرى، وتنعكس بشكلٍ أو بآخرٍ على سلوك هذه الدولة وعلى منطقتها بشكلٍ من الأشكال.