
في منتصفِ سبتمبر/ 2021م، أعلنت كلٌّ من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأستراليا اتِّفاقيةً أمنيةً تاريخيةً لتعزيز القدراتِ العسكريَّةِ في المحيط الهادئ؛ ممَّا يسمح لهم بمشاركة تقنيَّات الدِّفاعِ المُتقدمة، وتزويد القواتِ الأستراليَّة بالمَعرفة اللَّازمة لبناء غواصاتٍ تعمل بالطاقةِ النَّووية. ومنذ إعلان اتِّفاقية ”Aukus” التي تربط الولايات المتَّحدة والمملكة المتحدة بطموحِ أستراليا في الوصول إلى الخبرةِ النوويَّة الأمريكيَّة، انقسم الرأي حولها، وأثارت الصَّفقة عداءَ العديد من البُلدان، بما في ذلك حُلفاء الولاياتِ المتَّحدة.
يُنظر إلى شراكةِ Aukus -وهي عبارةٌ عن دمج أسماء الدُّول الأعضاء الثَّلاثة- على أنَّها تستهدف الصين، ولكنَّها أثارت غضبَ العديد من الدول الأُخرى أيضًا، فعندما علِمَ المسؤولون الفرنسيون بأمر Aukus، أعلنوا أنَّهم تعرضوا للخيانةِ والطَّعن في الظهر، فلم تكن فرنسا قد بنت علاقتها مع أستراليا على الثِّقة فحسب، بل كانت علاقتها أكثر من مجرَّد اتفاقٍ حول الغواصات وإنَّما ليكون مركزًا لاستراتيجيةِ المشاركة الفرنسيَّة لمدة 50 عامًا في منطقةِ المحيطَين الهندي والهادئ، ومع ذلك تمَّ استبعاد فرنسا من المُحادثات، وتعرضت للخيانةِ أيضًا من قبل دولةٍ تعتبرها حليفًا وثيقًا، وردَّت فرنسا باستدعاءِ سفيريها في أستراليا والولايات المتحدة، وذكرت أنَّها ستعيد تعريفَ علاقتها مع أستراليا، وقد سارعت الولاياتُ المتَّحدة لإصلاح العلاقاتِ مع أقدم حليفٍ لها -فرنسا-، حيث التقى وزيرُ الخارجيَّة الأمريكي (أنتوني بلينكين) بالرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون).
بدورها أعربت الصِّين وكوريا الشَّمالية عن اعتراضهما الشَّديدِ على الصَّفقة، فانتقدت الصين Aukus ووصفتها بأنَّها «غير مسؤولةٍ إلى حدٍّ كبير»، وقالت إنَّها قد تؤدي إلى سِباق تسلُّحٍ نوويٍّ، وهو قلقٌ أعربت عنه كوريا الشمالية أيضًا، فيما صوَّر النُّقاد الاتفاقيةَ على أنَّها تحالفٌ يمكن أن يزعزعَ استقرارَ البُنية الأمنية لمنطقةِ المحيطَين الهندي والهادئ، وأنَّ فكرة انتشار الغواصاتِ التي تعمل بالطَّاقة النووية يمكن أن يدعو فعلًا إلى سباق تسلُّحٍ إقليميٍّ، ويترك الباب مفتوحًا أمام التَّسلح النِّهائي للغواصاتِ الأستراليَّة المستقبليَّة بأسلحةٍ نوويةٍ. وفي المقابل، اكتسبت هذه الاستراتيجيَّة زخمًا بدعمٍ من دول آسيا والمحيطِ الهادئ، مثل فيتنام وماليزيا، اللتَين تشعران بالقلقِ من عُدوان (بكين) المُتزايد بشأن قضايا مثل بحر الصِّين الجنوبي المتنازَع عليه.
على الرغم من أنَّ الأطرافَ لم تقل ذلك، إلا أنَّ المُحلِّلين ينظرون إلى الاتفاقية إلى حدٍّ كبيرٍ على أنَّها محاولةٌ بقيادةِ الولايات المتحدة لمواجهةِ النُّفوذ المُتزايد للصِّين في المنطقة، وقد وصف الرئيسُ الأمريكيُّ (جو بايدن) العلاقات الأمريكيَّة الصِّينية بأنَّها «معركةُ القرن»، مُصوِّرًا إيَّاها بأنَّها اختبارٌ حاسمٌ لمزايا الديمقراطيةِ مُقابل الاستبداد، وفي ضوءِ تلك المنافسة المُتصاعدة بين الولاياتِ المتَّحدة والصِّين، وصفت (واشنطن) قيادةَ المحيطَين الهندي والهادئ بأنَّها «المنطقةُ الوحيدة الأكثر أهميَّة لمستقبل أمريكا» وشددت على ضرورةِ احتواء نفوذ بكين في المنطقةِ من خلال تعزيز وجودها العسكري، وتقويةِ التَّحالفات. وفي أول اجتماعٍ لجو بايدن كرئيسٍ للولايات المتَّحدة مع قادةٍ من: اليابان، والهند، وأستراليا -الدول الثَّلاث الأخرى في تحالفٍ يُعرف باسم «الرباعي»- ناقش بايدن «العدوان» و «الإكراه» من قِبَل الصِّين ضدّ أعضاءِ المجموعة.
بموجبِ مُعاهدة الأمم المتحدة لمنع انتشار الأسلحةِ النَّووية، يُحظَر على أستراليا تصنيع أو حِيازة أسلحةٍ نوويةٍ، لكنَّ المُفاعلات البحرية مُعفاةٌ من الضَّماناتِ النووية، ويُشتبه في قيام دولٍ أخرى باستغلال هذه الثَّغرة من خلال استخدام الوقود المُستخدَم لتشغيل المُفاعلاتِ الفرعية لتَطوير أسلحةٍ نوويةٍ أيضًا؛ ولكن بموجبِ اتفاقية Aukus، ستساعدُ الولاياتُ المتحدة والمملكةُ المتحدة أستراليا في بناءِ ما لا يقلُّ عن ثماني غواصاتٍ تعمل بالطاقةِ النَّووية، وهي المرةُ الأولى التي تشارِك فيها واشنطن ولندن تكنولوجيا الغواصاتِ النووية الحسَّاسة مع (كانبيرا)، ولبدءِ هذه الشَّراكة، سيعمل المسؤولون البحريون والمتخصِّصون الفنِّيون من الدول الثلاثة معًا وعلى مدارِ الـ 18 شهرًا القادمة؛ لتزويد أستراليا بالتكنولوجيا اللَّازمةِ لنشر غواصاتٍ تعمل بالطَّاقةِ النووية، ولكن نظرًا لتعقيد التُّكنولوجيا، قد لا يعمل أسطولُ الغواصات النوويةِ الأستراليَّة حتى عام 2040م تقريبًا.
في هذا الصَّدد، فإنَّ أحد أكثر الافتراضات لفتًا للانتباه حول Aukus هو الإيمانُ بالتكنولوجيا كمفتاحٍ لإطلاق الإمكاناتِ الكاملة للقدراتِ التقليديَّة تحت سطح البحر، من خِلال تحسين الإنذار المُبكر، وإذا لزم الأمر، دقة استهدافٍ لا مثيلَ لها، بالإضافة إلى أنَّ أكبر فائدةٍ للغواصات التي تعملُ بالطَّاقةِ النوويَّة هي كونها قادرةً على البقاء مغمورةً لفترةٍ أطول تحت الماء، مع وقود كافٍ لتشغيلها نظريًّا لسنوات، وهي ميزةٌ في هجمات التخفِّي، بينما يتعيَّن على الغواصات التقليديَّةِ التي تستخدم محركاتٍ كهربائيةً تعمل بالدِّيزل أن تطفوَ على السطح بانتظامٍ؛ حتى تتمكنَ من إعادة شحنِ بطارياتها، مما يسمح برصدها بسهولةٍ أكبر.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الحديثَ عن كون الغوَّاصات تعمل بالطاقةِ النوويَّة، لا يعني بالضرورةِ أنها تحمل رؤوسًا حربيةً نوويةً، ومع ذلك، فإنَّ هذه التكنولوجيا حسَّاسة؛ لأنَّ مُفاعلات الغواصاتِ الأمريكيةِ والبريطانيةِ تستخدم اليورانيوم المُخصَّب بنسبة (93-97) في المائة، وأي شيءٍ يزيد عن 90 في المائة يُعتبر يورانيوم «بدرجة تصنيع الأسلحة» مع تداعياتٍ خطيرةٍ مُحتملة.
وفي خِضم الموضوع، كشفت الجامعةُ الأمريكيَّة في كوسوفو كيف ينظر القادةُ في العواصمِ الوطنية الثَّلاث إلى المجالِ البحري باعتباره ركيزةً أساسيةً لاستقرار منطقةِ المحيطين الهندي والهادئ، والنِّظام الدولي الأوسع، وهذا يقودنا إلى طريق فهم سبب وماهيَّة Aukus وكيف حول الأمور بشكلٍ استراتيجي، فهو مهمٌّ لأنه يُلقي الضوء على نظرةٍ عالميةٍ يكون فيها البحر أمرًا حيويًّا للشُّؤون الدولية، ونتيجةً لذلك؛ فإنَّ التكنولوجيا التي تسمح بالعمل بشكلٍ أفضل في هذا المجال، لها قيمةٌ لا تقدَّر بثمن، وجهةُ نظر الجامعةِ الأمريكيةِ هذه تنبع من الاعتراف بأنَّ الأُسسَ البحريَّة للنِّظام الدولي معرضةٌ للخطر، وقد اعتبرت ممرات الشَّحن الآمنة والكابلات البحريَّة السَّليمة من المُحرِّكات التي تغذي الرخاءَ الاقتصادي والاستقرارَ السِّياسي، وهو أمرٌ ينطبق على المحيطَين الهندي والهادئ، كما في أي مكانٍ آخر حول العالم، لكن في المقابل يُذكِّر الحصارُ الروسي الأخير لمَنفذِ أوكرانيا إلى البحر الأسود، والمناوراتُ العسكريَّة الصينيَّة عبر (مضيق تايوان)؛ بمخاطر تعطيلِ الازدهار العالميِّ على أيدي الدول المُستعدة لاستغلال النِّظام البحري؛ لمُمارسةِ الضغط السِّياسي.
وبطبيعةِ الحال، مثل أيِّ استثمارٍ في القُدرات المستقبليَّة، من المرجَّح أن تتغير Aukus بمرورِ الوقت، بسبب الطَّبيعة الحسَّاسة للقدراتِ المُتقدمة التي تمَّ استكشافها، من الغواصات، إلى الصَّواريخ التي تفوق سرعتها سرعةَ الصَّوت، كما أنها ستدعو إلى تقاربٍ استراتيجيٍّ أكبر بين الشُّركاء، وهذا ما أشارت إليه الأنباءُ الأخيرة التي أفادت بأنَّ الغواصين الأستراليين سيتدربون على قوارب بريطانيَّة، وهذا يجعل Aukus مهمةً من النَّاحيةِ الاستراتيجيَّة، وفي سياقٍ تكون فيه التكنولوجيا المتقدمة ذات أهميةٍ متزايدةٍ للحفاظ على التفوق العسكري، لن يتمكنَ سوى الشُّركاء الموثوق بهم من تحقيق أقصى استفادةٍ من التَّعاون الدِّفاعي.
هذا التَّقارب والتَّعاون المُشترك، لا يعني بالضرورة أنَّ Aukus لن تواجه تحدياتٍ على طولِ الطَّريق قبل أن تنشرَ أستراليا غواصاتٍ تعمل بالطَّاقة النوويةِ في عام 2040م، فتنفيذ الاتِّفاقية سيضع القدرةَ الصناعيَّة الوطنيَّة تحت الضَّغط، وهناك بعض التَّعليقات الأخيرة من كِبار المسؤولين الأمريكيين تشير إلى أنَّ فكرةَ بناء الغواصاتِ الأوليَّة لأستراليا في الولاياتِ المتَّحدة قد تكون مشكلةً.
ومن ناحيةٍ أُخرى، فإلى أن يتمَّ اختيارُ نِظام الدَّفع سيظلُّ تصميمُ وبناء القوارب سؤالًا مفتوحًا، وأيضًا عند النظرِ إلى تأثيرِ التكنولوجيا على التغييرات المُستقبليَّة في الأنظمةِ وأجهزةِ الاستشعار، فمن المرجَّح أن يظلَّ تقسيمُ العمل مُتغيرًا رئيسيًّا، لكنَّ الثابت والمؤكَّد هو أنَّه وبعد مرور عام، بدأت Aukus في رسم مسارٍ واضحٍ لما هو عليه، ولماذا هو مُهم، وتمَّ وضع Aukus على مسارٍ حول رؤيةٍ عالميةٍ مُستنيرةٍ بالبحرية، حيث قد يؤدِّي تسريعُ التَّعاون التكنولوجيّ المتقدم إلى إحداث فرقٍ كبيرٍ في كيفيةِ تأمين المزايا الاستراتيجيةِ، والحفاظِ على الاستقرار البحريّ.