
“تداعيات المواجهة الروسية الأوكرانية
على دول الخليج العربي”
أمجد أحمد جبريل
مثَّلت الحربُ الروسية على أوكرانيا أزمةً دوليةً ذات انعكاساتٍ استراتيجيةٍ بسبب طبيعتها المركَّبة؛ التي تداخلت فيها عوامل داخلية وحسابات جيواستراتيجيةٍ دولية، ومصالح محليةٍ وإقليميةٍ ودولية، على نحوٍ أفرز سلسلةً من المواقف المتباينة إلى حدِّ التناقض، ناهيك عن تداعياتها الاستراتيجيةِ التي تظهر تدريجيًّا.
ولعلَّ من أبرز سماتِ هذه الأزمة الأوكرانية، هو توقيت اندلاعها، الذي تزامنَ مع استمرار التنافس الدولي والإقليمي في “مرحلة انتقالية” لا تزال تهيمنُ على النظامَين الدولي والإقليمي، ما يعكس حالةً من السيولة واحتمالات التغير المتسارعِ في السياساتِ والتحالفاتِ الدولية والإقليمية، ويؤكد أهمية دراسةِ تداعيات الأزمة الأوكرانية على إقليم الشرق الأوسط عمومًا، ودول الخليج العربي خصوصًا.
أولًا- التداعيات الدولية للأزمة الأوكرانية
بغضِّ النظر عن النتائج العسكرية المباشرةِ للحرب الروسية على أوكرانيا، وإمكانيَّة حسمها من عدمه في المدى المنظور أو المتوسط، فإنَّها تشكل صراعًا على طبيعة النظام الدولي ومستقبله، واتجاهات سياسات القوى الدولية الكُبرى، واحتمال تصاعد صراعاتها أو تنافسها في عدةِ مناطق في العالم، لاسيما في ثلاث قضايا بارزة؛ أولاها: إعادة تكتيل دولِ حلف شمال الأطلسي “الناتو” والدول الأوروبية خلف زعامةِ واشنطن، لاسيَّما بعد اهتزاز الصورة الأمريكية إثر “الانسحاب المرتبك” من أفغانستان صيف عام 2021م. ثانيها: احتمال نجاح روسيا في شقِّ صفوف الناتو، وربما جذب بعض المواقف الأوروبية المهمة، تحديدًا ألمانيا وفرنسا؛ للابتعاد النِّسبي عن تأييد المواقف الأميركية والبريطانية الأكثر تشددًا في المسألة الأوكرانية، واستمرار إمداداتِ الغاز الروسي للقارةِ العجوز، وتشديد مستوى العقوبات الأمريكية وحزم العقوبات الأوروبية على موسكو، بُغيةَ إجبارها على وقفِ حربها على أوكرانيا، وثالثها: رغبة واشنطن في التأثير على العلاقات الصينية الروسية؛ لقطعِ الطريق على محاولات الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” استخدام البوابةِ الصينية لتقليص آثار العقوبات الغربية التي تمَّ فرضها بعد الأزمة الأوكرانية.
وعلى الرغم من رفض بكين إدانة السلوك الروسي في الأمم المتحدة، وتفهُّم الصين “المخاوفَ الأمنية الروسية”، فإنَّ موقف بكين بقيَ حذرًا وقادرًا على الإمساك بأوراقٍ متعددة، بهدف تعزيز مكانة الصين “منافسًا وحيدًا” لواشنطن، مع توظيف تداعيات الأزمة الأوكرانية في دعم الدُّبلوماسية الصينية، والاستفادةِ القصوى من حاجة روسيا إلى تصدير النفط والغاز إلى الصين والهند.
ثانيًا- دول الخليج العربي في سياق استراتيجي متغير
أوجدت تداعياتُ الأزمة الأوكرانية سياقًا استراتيجيًّا جديدًا بالنسبة لإقليم الشرق الأوسط عمومًا، ولدولِ الخليج العربي خصوصًا، على نحوٍ يترواح بين إتاحةِ فرصٍ محدودةٍ لبعض الدول، وبين تشكيل مخاطر أو تحدياتٍ وتهديداتٍ على أغلبية الدُّول العربية.
ويبدو أنَّ قدرات الدول الإقليمية غير العربية في الشرق الأوسط، أي: تركيا، وإيران، و”إسرائيل”، في توظيف تداعيات الحدث الأوكراني، تبقى أكبر بكثيرٍ من القدرات الخليجيةِ والعربيةِ في الاستفادة من المتغيرات الاستراتيجية التي تولَّدت في خِضَم الحرب الروسية على أوكرانيا، وربما يمكن تفسير ذلك بأزمات السياسات الخارجية الخليجية والعربية، وانكشاف أوضاعِها الداخلية، بالتوازي مع تآكل القدرات العربية في بناء تحالفاتٍ دوليةٍ وإقليمية، على نحوٍ يخدم مكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.
واستطرادًا يمكن الإشارة إلى نموِّ المصالح الروسية الاقتصادية والجيوسياسية والنفطية في الشرق الأوسط؛ نتيجةَ تعاون موسكو مع طهران وأنقرة؛ اللتين أصبحتا بوابتين لدورٍ روسيٍّ ناشطٍ متعدد الأطراف في نُسق شراكات استراتيجية ثنائية، وتطور هذا التعاون إلى نوع من “بركس الشرق الأوسط – روسيا” إذا صحَّ التعبير، على نحو ما يتجلَّى في المسألةِ السورية خصوصًا، التي يغيبُ عن التأثير الحاسم فيها أيُّ فاعلٍ عربي مثل: مصر، أو السعودية، أو الإمارات، ما يؤكد أنَّ العلاقات العربية – الروسية تفتقرُ إلى تفاهماتٍ حقيقية، ناهيك عن مستوى الرُّؤى والقيمِ الاستراتيجية، والشراكاتِ الاستراتيجية، والتحالفاتِ الدائمة، ما دفع موسكو إلى أداء دورٍ ناشطٍ ومبادر في حلِّ النزاعات دبلوماسيًّا، مع إعطاء أولويةٍ لملف إيران النووي على حساب قضية فلسطين؛ فقد أفسح هذا الملف لروسيا فرصَ تدخلٍ أكثر، وأداء دورٍ أنشط من القضية الفلسطينية، ما عزَّز حضور موسكو في السياسات الإقليمية، وعزّز تأثيرها في علاقاتها مع الأمريكيين والإسرائيليين والعرب، خصوصًا الخليجيين” [1].
وعلى الرغم من أنَّ البعض قد يجادلُ في أنَّ قمةَ جدة للأمن والتعاون (16 يوليو/تموز 2022م)، قد أعطت لدولِ الخليج هامشًا نسبيًّا من مساحة المناورة بين القطبَين الأمريكي والروسي، فإنَّ دول الخليج لا تملك خيارات استراتيجيةً حقيقيةً في مجال صناعة النفوذِ أو قلب الحقائقِ الجيوبوليتيكة الجديدة التي تشكَّلت، ولا تزال، بعد الأزمة الأوكرانية، ومنها تعزيز مواقع تركيا وإيران في إقليم الشرق الأوسط؛ كما اتضحَ من قمة طهران في (19 يوليو/تموز 2022م)، التي جمعت كلًّا من الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” ونظيره التركي “رجب طيب أردوغان”، مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”.
وعلى الرغم من انعقاد قمة طهران تحتَ عنوان “الدول الضامنة لمسار أستانة حول سوريا”، فقد كان واضحًا انشغالها بقضايا أكثر إلحاحًا مثل: حرب أوكرانيا، وملف إيران النووي، وقضايا الطاقة والغذاء، فضلًا عن تعويل روسيا عليها لتوسيع تفاهماتها مع طهران، على نحوٍ يؤكد دخولَ موسكو لاعبًا أساسيًّا في الخليج العربي من بوابةِ التعاون الاستراتيجي والاقتصادي مع إيران، على الرغم من قلق واشنطن من تطور التعاون الروسي الإيراني عسكريًّا ونوويًّا، واستمرار السعودية والإمارات في الالتزامِ بتفاهمات “أوبك بلس” النفطية، وعدم امتثالهما لطلبات واشنطن في تعديل موقفيهما ليكون ضاغطًا بصورةٍ أكبر على روسيا، كما كانت تأمل واشنطن.
في هذا السِّياق، يبدو أنَّ زيارةَ الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى الشرق الأوسط (13-16 يوليو 2022م)، لم تحرز نجاحًا كبيرًا في تحقيق اختراقٍ يسمح لواشنطن باستمرار دور “اللاعب الدولي الأوحد المُهيمن” على الشرق الأوسط، وإبعاده عن نفوذ المشروعاتِ الصينية والروسية والإيرانية المنافسةِ لواشنطن.
وعلى الرغم من نشاط الدبلوماسيات: السعودية، والإماراتية، والقطرية، في محاولةِ تأديةِ أدوار الوساطةِ في الأزمة الأوكرانية، وإرسال إشاراتٍ متنوعةٍ بالاستياء من سياسات إدارة “بايدن” في الشرق الأوسط، خصوصًا التخفيف من دعمِ أمن الدُّول الخليجية، فإنَّ الخيارات الخليجية تبقى محدودة، حتى مع محاولاتها المستميتة في الاستقواءِ بالحكومات العربية القريبة من واشنطن أي: مصر، والأردن، وحكومة مصطفى الكاظمي في العراق.
وإجمالًا لما تقدم، يمكن القول إن ثَمةَ ثلاثة متغيراتٍ جوهريةٍ في عملية إعادة تشكيل النظام الإقليميِّ في الشرق الأوسط، بعد الأزمة الأوكرانية، أولها: استمرار رغبةِ واشنطن في تشكيل نظامٍ دفاعيٍّ أمنيٍّ جديد، تحت عنوان “تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي” (Middle East Strategic Alliance)؛ إذ تُقلِّص أمريكا وجودها العسكري المباشرَ في الخليج تدريجيًّا، وتُحيل أمنَ الدول الخليجية إلى تقويةِ نفسها، والاكتفاء بتزويدها ببعض الأسلحةِ الدِّفاعية الأمريكية، مع تحويل “إسرائيل” إلى قائدِ النظام الإقليميِّ في الشرق الأوسط، خصوصًا بعد قرار الرئيس السابق “دونالد ترامب” توسيع القيادةِ العسكريةِ الأمريكيةِ الوسطى (U.S. Central Command) في الشرق الأوسط لتشمل “إسرائيل”؛ لتعزيز التعاون بينها وبين الدول العربية ضدَّ إيران، كما نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” في 14/1/2021م [2].
ويتعلق المتغير الثاني: بتأسيس نظام طاقةٍ جديد، يحاول توظيفَ الثروات النفطيةِ والغازيةِ العربية لخدمة المصالح الأمريكية والأوروبية في الضغطِ على موسكو، عبر إيجاد بدائل عن النفط والغاز الروسيَّين، وهو سيناريو يضع العديدَ من الدول العربية المصدِّرة للطاقة في موقفٍ سياسيٍّ مُلتبِس، لكنَّه يعزِّز مركزيتَها في اقتصاد الطاقةِ العالميّ، وربما يؤدي إلى مكاسب سياسيةٍ واقتصاديةٍ خصوصًا في المديَين القصير والمتوسط، وهذا يتيح فرصةً للسعودية والإمارات حيث تتركز الطاقةُ الإنتاجية البترولية الفائضة في دول منظمة “أوبك”، إضافةً إلى استفادةِ الدول العربية المصدِّرة للغاز، مثل: قطر، والجزائر، ومصر، وربما ليبيا [3].
أمَّا المتغير الثالث: فهو محاولةُ واشنطن إدخال الهند حليفًا استراتيجيًّا مع “إسرائيل” والإمارات ضمن ما يسمى ” مجموعة I2 – U2″؛ لموازنةِ تصاعد النفوذ الصينيِّ في الخليجِ العربي والشرق الأوسط إجمالًا؛ إذ تريد واشنطن رعايةَ تعاونٍ هندي-خليجي-إسرائيلي، وربطه بشبكةٍ واسعةٍ من المصالح الاقتصادية والاستراتيجية والأمنية، واستثمار تقارب نظرة هذه الأطراف حِيال العديد من القضايا الإقليمية والدولية [4].
يبقى القول إنَّ تداعيات الأزمة الأوكرانية أدَّت إلى تأجيجِ الاستقطاب الإقليمي في الشرق الأوسط، مع ترجيح تعزيز مكانةِ إيران الإقليمية وعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين، واحتمال تآكل الدور الأمريكي المباشرِ في الشرق الأوسط، وتحوله إلى نمطٍ من الاعتماد على تعزيز مكانة الحلفاء الخليجيين ودمجِهم أو إلحاقهم بالدور القيادي “الإسرائيلي” والسياسات الهندية الإقليمية والعالمية.
[1] – كاظم هاشم نعمة، روسيا والشرق الأوسط بعد الحرب الباردة: فرص وتحديات، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016، ص 88- 90.
[2]– Michael R. Gordon and Gordon Lubold, “Trump Orders Military Shift to Spur Israeli-Arab Cooperation Against Iran”, The Wall Street Journal, Jan. 14, 2021. https://on.wsj.com/35IV3Ex
[3] – ناصر التميمي، “تداعيات الحرب الأوكرانية على الدول العربية المصدِّرة للطاقة”، ورقات تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات 19/4/2022. على الرابط:
https://bit.ly/3vH2Ajp
[4] – وحدة الدراسات السياسية، “الرباعية الأميركية – الإسرائيلية – الهندية – الإماراتية: خلفيات التحالف وأهدافه”، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 19 يوليو 2022. على الرابط:
https://bit.ly/3PmzUVw