طارق المصري
شرعت الصين عملياتها في بناء الجزر الصناعية وعسكرتها في بحر الصين الجنوبي على ارخبيلات الجزر المرجانية وبالقرب منها، لتزداد سخونة بحر الصين الجنوبي ،الساخن اساسا، والتي تتنامى فيه بشكل متصاعد حدة التنافس والهيمنة عليه، بين الصين من جهة ودول الجوار(فيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا وبروناي) والولايات المتحدة الامريكية من جهة اخرى، حيث تعتبر الجزر الصينية الصناعية بعد عسكرتها الرد الامثل على تواجد ومرور حاملات الطائرات الامريكية ،التي يصفها الامريكيون على انها “تمثل 100 الف طن من الدبلوماسية” وفق زعمهم.
يقول “سوان زو” في كتابه فن الحرب “التفوق في الحرب يعتمد على التفاوض الفعال والتحرك في الوقت المناسب “
ان تموضع الصين في بحرها الجنوبي عبر عمليات بناء الجزر الصناعية وعسكرتها لم ولن يكون سهلا، بل كانت لديها تكلفتها وصعوبتها ومعاركها الدبلوماسية، ولكن مكاسبها تعتبر كبرى، في حال اصبحت امرا واقعا، وقد تفتح المجال لبداية مشاريع بناء جزر صناعية جديدة، عند بعض الدول التي تراقب هذه المشاريع وتمتلك نفس الدوافع التي تمتلكها الصين.
اتفاقية البحار
في النصف الثاني من القرن الـعشرين، اصبحت اغلب معالم البحار وحدود الدول شبه معروفة، ومنعا للتنازع وتثبيتا لتلك الحدود، وُضعت مبادئ قانون البحار الدولي الذي يحكم المياه الدولية، ثم وقعت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) في الثامن عشر من ديسمبر سنة 1982م،في “مونتيغو باي” في جامايكا، وقعت الاتفاقية باتفاق 157 دولة، ومن بينها الصين، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في سنة 1994م، الاتفاقية كانت تتألف من 320 فقرة تغطي مجموعة واسعة من المواضيع المتعلقة بالبحار والمحيطات، وحرية الملاحة، والصيد، والحفاظ على البيئة البحرية، والعديد من الجوانب الأخرى، ومنها تحديد المياه الاقليمية التي تقع تحت اشرف الدولة الشاطئية بمدى 12 ميلاً بحريًا، بالإضافة لمنطقة اقتصادية لاستثمار الثروات والصيد، تمتد بعمق 200 ميلاً بحريًا، دون تقيد الملاحة الدولية فيها، ولكن القوانين تظل قاصر عن اقامة توافق وفهم كامل بين الدول، خصوصا عند وجود حدود وجزر متنازع عليها اساسا، وعندما اقيمت الجزر الصناعية، زادت عجز تلك القوانين في الاحاطة بكل ما يخص الحدود البحرية، ومنع التنازع فيها.
الفكرة الاولى لبناء الجزر الصناعية
ظهرت عندما بنيت منصة التنقيب “الفالكونري” في خليج المكسيك 1967م، عبر تفجير الصخور البحرية ورفعها ، واحداث ارضية تصلح لبناء منشاة التنقيب واستخراج النفط، وجاء بعدها مشروع جزيرة “جميرا” في الامارت العربية المتحدة 2001م التي تعرف باسم “جزيرة النخيل” والتي بنيت لعدة اسباب اهمها سياحية وتنموية، الا ان التفكير بأنشاء جزيرة صناعية لأغراض عسكرية واستراتيجية بعيدة عن البر الرئيس للدول، لم يبدأ به الا الصينيون، وكان هذا بمثابة بعد نظر منهم نحو بحر الصين الجنوبي، الذي تشهد مياه اكبر ساحات الصراع والتنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
الوضع الحالي لجزر بحر الصين
في جزيرة بريتون احدى جزر أرخبيل “بارسيل”، المكون من مجموعة من الجزر المتنوعة. بموقع استراتيجي يبعد 150 ميلاً بحريًا عن البر الرئيس للصين، كشفت صور الأقمار الصناعية الملتقطة في 10 أغسطس من هذا العام عن وجود مطار جديد يجري إنشاؤه. وان مواصفات مدرج المطار تبدو مخصصة للطائرات ذات الأجنحة الثابتة على اختلاف احجامها، رغم وجود مهبط للطائرات العمودية سابقًا، وكشفت ايضا عن وجود مصنع للإسمنت مستحدث على نفس الجزيرة ، الصور التي التقطت قبل أربعة أشهر لنفس الجزيرة، لم تكشف عن هذه الأعمال الإنشائية والتحولات التي تخضع لها، والواضح ان الصور تبين سرعة انجاز بعض الأعمال الإنشائية في تلك الجزر، وأهمية الاستثمار والتطوير الذي تجريه الصين في هذه المنطقة من البحر، الا ان هذه الصور لا تقل عن الصور الواردة من ارخبيل “إسبراتلي” الأبعد، والاكثر تعدادا للجزر والاكثر تسليحا والاسرع في عمليات إنشاء الجزر الصناعية والتدعيم اللوجيستي والعسكري، حيث اصبحت الصين تملك أكثر من 27 بؤرة عسكرية في أرخبيل باراسيل و سبراتلي، ناهيك عن جزيرة “سكاربوروشول” الطبيعة والقريبة من الفلبيني والتي استحوذت عليها الصين في 2012م، فالمواقع الحيوية الثلاثة والتي اصبحت عسكرية اكثر منها لوجستية، اثارت انتبته العالم ليس لأهميتها فقط، ولكن بسبب سرعة استصلاحها وبناء الجزر الصناعية فيها، ففي مارس/آذار 2022، نشرت وكالة “أسوشييتد برس” تقريراً، عن قائد عسكري أميركي “الأدميرال جون سي أكويلينو” إن الصين نجحت في التسليح بشكل كامل لثلاث جزر صناعية على الأقل، من بين العدد الكبير من الجزر التي بنتها، وتعمل على عسكرتها في مياه بحر الصين الجنوبي، بأنظمة صواريخ مضادة للسفن ومضادة للطائرات ومعدات ليزر وتشويش وطائرات حربية.
جميع التقارير تجمع على أن الصين بدأت بإنشاء الجزر الصناعية سنة 2014م، عبر كراكات عملاقة (وهي سفن ضخمة تعمل على تجريف أراضي البحر وضخها فوق النتوآت الصخرية الموجودة)، وان عددها بازدياد بشكل متسارع لإنشاء الجزر الجديدة، أو توسعة الجزر الطبيعية الموجودة في الأرخبيلات الممتلئ بالجزر الصغيرة والنتوآت الصخرية، وبناء المرافق اللوجستية والعسكرية المهمة لتلك الجزر، حتى أتى عام 2016م والذي سجل خلاله الهبوط الأول لطائرة على في تلك الجزر، لتتحول بعض هذه الجزر لقواعد عسكرية ومراكز دعم ومراقبة، ومراكز تنموية لعمليات التوسعة والبناء لحوالي خمسين جزيرة تسعى الصين بنائها حتى عام 2030م واستكمال توسعة الجزر الصغيرة. ولتعرف مدى اهتمام الصين في ذلك، فقد زادت الصين نفقاتها على تلك الكراكات منذ عام 2018م لتصل لحوالي 4 مليارات دولار، حيث تعتبر هذه الكراكات الأداة الأهم في بناء واستصلاح الجزر.
المحفزات الصينية لاستحواذ الجزر
من محفزات الصين على استثمار الحالة الحالية للجزر وبناء الجزر الصناعية كثيرة، وعلى رأسها، أهمية بحر الصين الجنوبي الاستراتيجية والتجارية، فحجمه تقريبا حجم البحر المتوسط، وتموضعه بين الدول الكبرى في التجارة الدولية، وبين الدول المصدرة والمستهلكة للنفط، حيث يمر خلاله 40 % من تجارة الصين، وثلثي الشحن العالمي عبر مضيق ملقا، وما يقارب 90 % من نفط جنوب شرق آسيا، وهذا يعادل 15 ضعفا من حجم النفط الذي يمر عبر قناة بنما في أمريكا الوسطى، وثلاث اضعاف ما يمر عبر قناة السويس.
ومن المحفزات الطبيعة، وجود ارخبيل “براسيل” و “اسبراتلي” باعداد كبيرة من الجزر المتفاوتة بالحجم، يمكن استخدمها كنقاط ارتكاز لبناء الجزر الصناعية وانشاء قواعد عسكرية متقدمة ومتطورة، ونقاط حفظ الملاحة والإنقاذ، وتوفير قواعد وموانئ الدعم اللوجستي.
الجزر لا تشكل مجرد امتداد طبيعي لأراضي الدولة فقط، بل ويضيف مساحة سيادية لتلك للدولة، يمتد منها، وصولا إلى سمائها ويمتد حولها بمئتي ميل بحري، وتلحق بالمياه الإقليمية الاساسية، الذي تسري فيه قوانين الدولة المشرفة عليه، ومنطقة اقتصادية تمنح الدول حق استغلال واستثمار الموارد الطبيعية من معادن نادرة والثروة السمكية الموجودة فيها، وهذا الحافز لم تهمله الصين بل شعرت باهميتها، وكيفية استغلاله.
المحفز العسكري كان واضحا للصينيين وتمثل بالاستخدام الامثل للجزر كقواعد عسكرية متقدمة، لتعزيز قوتها الإستراتيجية عبر مطاراتها والبنية التحتية العسكرية، لكونها أكثر كفاءه من وجود حاملة الطائرات عائمة، معرض للغرف في أي صراع، فالموقع الذي يتمتع في بحر الصين تنظر له بكين على أنه فناؤها الخاص، وعدم وجود قوة ردع في مياهه لن تمكنها من حمايته، فهو ان لم يكن لها فهو لغيرها من اعدائها، ولذلك تنفق الكثير وتغامر باحتمالية نشوف حروب، اغلب المحللين الاستراتيجيين يتوقعونه، بحدث عسكري بسيط.
بداية الاستحواذ وفرض الحدود
رغم وجود الكثر من النزاعات الحدودية بين الصين ودول الجوار، يبقى بحر الصين الجنوبي القضية الأكثر أهمية وحساسية، وحديقتها الامامية، التي خسرتها هي والكثير من اراضيها في القرن التاسع عشر، والذي تسميه الصين “قرن الاذلال” في حقبة اسرة تشينغ. استحواذ الصين على الجزر في بحر الصين لم يكن في يوم وليلة، بل له تاريخ، ففي البداية لم توليه اهتماما كافيا بعد انهيار القوة اليابانية نهاية الحرب العالمية الثانية، بسبب ضعفها وقت اذ، بعدها وفي سنة 1947وضعت الصين يدها على المنطقة عن طريق رسم خط من تسع شرطات، الذي يحدد مياها الاقلمية والتي تقارب 80 % من مياه بحر الصين الجنوبي. بعدها شهد البحر العديد من المناوشات، التي وصفها البعض بأنها اقرب ما تكون لحروب صغيرة، بدأت مع فيتنام قبل توحيد شطري البلاد في عام 1974، حينما خسرت فيتنام 75 جنديا في مواجهة في جزر “بارسيل”، وتكررت هذه الأحداث في سنة 1988م في مجموعة جزر اسبرتلي، عندما وصلت قوات فيتنامية تتألف من سفينتي محملتين بمواد البناء وسفينة إنزال عسكرية تحمل 100 جندي، ورفع العلم الفيتنامي على الجزر بعد نزولهم، الأمر الذي أدى على الفور لتدخل قوات العسكرية الصينية، واغرقت جميع السفن، وقتل 64 جنديا فيتناميا وأسر البقية ثم اطلقتهم، دون حدوث أي إصابات من جانب الصيني، وبعدها الاحداث التي وقعت لمدة شهر كاملا، في جزيرة “سكاربورو شول” القريبة من الفلبين سنة 2012م، والتي بدءت عندما منعت القوات الصينية خفر السواحل الفلبينية من اعتقال الصيدين الصينيين المتواجدين في الجزيرة، لتنسحب بعدها القوة الفلبينية وتترك الجزيرة لصالح الدعوة التي سوف ترفعها لاحقا ضد الصين. كسبت الفلبين الدعوة التي رفعتها ضد الصين سنة 2013م وحصلت على الحكم من محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 2016م، حيث اقرت المحكمة، بعدم احقية الصين بما تدعي في تمتلكها في بحر الصين الجنوبي، وهو ما رفضته بكين وادعت ان هذه القضية ليست من تخصص هذه المحكمة.
تدعي الدول التي تشارك الصين بحرها الجنوبي على ان الصين تتبنى منهجية يعد اقرب للاستراتيجية في احتلال تلك الجزر وحمايتها، عبر تشجيع الصيادين المدربين على استيطان تلك الجزر ويحرضونهم على البقاء فيها، وحمايتها من الصيادين الاخرين بالترهيب دون اسلحة، والذين ينسقون بينهم وبين خفر السواحل الصيني، وقوات الجيش الصيني، ففي حال تعرض الصيادون للمضايقة يتدخل خفر السواحل الصيني، واذا تطور الوضع اكثر، تقوم القوات الصينية بحسم المسألة، وتثبيت الوضع المطلوب، باستراتيجية تعرف باستراتيجية “ورق الملفوف”.
فرض الصين للواقع الجديد
زاد اهتمام الصين بعد ذلك وتصاعد تأكيد شرعيتها على البحر وجزره عبر دبلوماسيها، ومنها زيارة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” لجزيرة “هينان” سنة 2013م، وتكريم الصيادين الذين أصبحوا أبطالا بعد حادث جزيرة “سكاربورو شورل” مع الفلبين، وكلماته في عام 2015م، أثناء زيارته ل سنغافورة، حينما قال: إن الجزر الصينية في بحر الصين هي من أرضي الصين منذ العصور الوسطى، ورغم وجود بعض الجزر محتلة من الآخرين إلا أن الصين ملتزمة بحل المشاكل سلميا، إلا إن الواقع يعاكس هذا.
في عام 2018م بدأت ملاحظة حدة وقوة ردات الفعل الصينية ضد أي تجاوزات أو إشارات تحول فرض واقع لا ترغب فيه الصين، فرادات حوادث التصادم، والتحذيرات من انزلاقات وتطور الأمور لما هو أبعد، ولا ننسى أخبار التحذيرات الصينية لطائرات أمريكية تجسسية ضمن مجال هذه الجزر وأمرتها بالمغادرة وتجنب سوء الفهم. وحوادث كثيرة منها اعتراض طائرات المراقبة الأمريكية التي تراقب تحركات عسكرية صينية، ومانزال نسمع بين الحين والآخر أخبارا عن تلك المناوشات حتى اللحظة. إن ردات الفعل الصينية هذه تخلف كثيرا عن الوضع السابق، خصوصا عام 2012م والتي أجبرت الصين على إنهاء مناوراتها التي أعلنتها، بعد تصاعد التوتر بينها وبين تايوان، نتيجة الانتخابات التي جرت في تايوان من نفس العام، وطلب الرئيس التايواني بتأشيرة دخول إلى واشنطن، فقامت أمريكا على الفور بإرسال اثنتين من حاملات الطائرات الأمريكية مع بعض القطع الحربية، لتتدخل الوساطات الدبلوماسية وانتهاء تلك الفترة، إلا أنها زادت من دوافع وحوافز الصين في الأطباق على أغلب بحر الصين عبر الجزر الموجودة، وباستحداث جزر جديدة بجانب الجزر الموجودة في أرخبيل اسبراتلي وبراسيل، واتخاذها قواعد حربية تستخدمها وتفرض منطقه تمنع فيها الولايات المتحدة من التواجد والتحرك بسهولة في بحر الصين، سمتها الصين “منطقه حظر الوصول”.
ختاما
من الملاحظ أن الصين استغلت واقعا، أن العالم أعقد من أن تنظمه القوانين الدولية، والتي بقيت قاصرة ومتأخرة عن الإحاطة بكل ما يتم التنازع عليه، خصوصا مع القضايا المستحدثة مثل “الجزر الصناعية، والقطب المتجمد، ومسارات الأقمار الصناعية الفضائية، خصوصا عندما أصبح العالم أكثر تطورا ونشاطا وارتباطا وتشابكا بين الدول، فهناك نزعات حدودية على اليابسة لم يبت بها ولم يتم التوافق عليها، فما بالك ببعض الجزر الصغيرة في الخلجان وأعالي البحار. من المتوقع أن قضية” الجزر الصناعية “سوف تزاد في قادم الأيام، والتي ما زال العمل على إنشائها وبنائها وعسكرتها، في زمن تعقد بالنزعات، وفرض أساليب الهيمنة الاقتصادية والتقنية والعسكرية وتضارب المصالح.
وتبقى فكرة بناء جزر صناعية بعيدا عن البر الرئيسي وإمدادها بكل البنى التحتية المدنية والعسكرية فكرة لها أبعادها وصعوباتها، فبعض الدول انتهجت نهج تنموية، عبر بناء جزر صناعية من مخلفات النفايات والبلاستيك، وبناء المطارات والمعامل فوقها، كما فعلت اليابان في خليج طوكيو عبر إنشاء جزيرة” اداليا “، والبعض فشل بذلك مثل الجزر التي بنتها فيتنام ردا على جزر الصين الصناعية، ودمرتها الأعاصير، وبغيابك التفاهم الدولي قد يدفع الكثير من الدول في تبني نفس النهج، في مناطق قد ترسم حدود ومصالح بحرية كبيرة لتلك الدول، بغض النظر عن الضرر الكبير الذي يلحق بالشعب المرجانية في مناطق الأرخبيلات التي لا يلتفت لها أحد، مع النظر إلى الامتيازات المحققة من تلك الجزر.
قسم الدراسات والابحاث في المنتدى
لا تعليق