تقارير

دبلوماسية التوسع بين الصين والولايات المتحدة في ظل أزمة كورونا

د. وسام المحلاوي محاضر بقسم الاتصال - جامعة العلوم الإسلامية الماليزية

لم تترك الصين مجالا من المجالات إلا ونافست فيه الولايات المتحدة الأمريكية، ربما يوحي ظاهر الأمر بأن المعركة الفعلية الدائرة رحاها بين البلدين هي حول الهيمنة الاقتصادية على الأسواق العالمية ومحاولة الصين التمدد في هذا الجانب على حساب الولايات المتحدة وغيرها من الدول. في الحقيقة هذا أمر واقع وموجود، ولكن الأمر تخطى الجانب الاقتصادي إلى جوانب أخرى كثيرة، في مقدمتها محاولة الصين زيادة قوتها العسكرية بالحد الذي يسمح لها بحماية مصالحها الاقتصادية، بالإضافة إلى الحراك الدبلوماسي المكثف الذي تقوم به الصين لضمان التمدد الناعم داخل العديد من الدول، من خلال المشاريع الاقتصادية وحزم المساعدات المختلفة التي تقدمها الصين للعديد من الدول وخاصةً الفقيرة منها.

إلا أن  الأمر الذي يدعوا إلى التأمل والذي قد يشكل نقطة تحول كبيرة في تاريخ العلاقات الصينية الخارجية هو محاولة الاستفادة القصوى من أزمة كورونا الحالية على الصعيد الدبلوماسي، في الوقت الذي حاولت فيه دولٌ عظمي كالولايات المتحدة الأمريكية الانكفاء على مصالحها الذاتية وإظهار الأنانية السياسية الواضحة في التعامل مع الحلفاء والأصدقاء، أظهرت الصين التزاماً ومسؤوليةً كبيرةً في هذا الجانب وبدأت في خطب ود عدد من الدول الغربية لتكون في معظم الأحيان الدولة الوحيدة التي وقفت إلى جانبهم في هذه الأزمة التي بدأت تعصف بالعالم، وأظهرت مدى ضعف وهشاشة الكثير من الدول المصنفة ضمن دول العالم الأول.

بدأت الصين تحركها لمساعدة الدول المختلفة مبكرا وقدمت مساعداتٍ طبيةً إلى العديد من الدول دون قيدٍ أو شرط، ولم تكتفِ الصين بإرسال المستلزمات الطبية فقط بل أظهرت نوعاً خاصاً من الالتزام تجاه مساعدة الآخرين من خلال إرسال فرق طبية إلى أكثر الدول تضرراً بفعل الوباء، وفي مقدمتها إيطاليا حيث أرسلت المساعدات والخبراء على دفعات متتالية لمساعدتهم في مواجهة الأزمة الناتجة عن تفشي الوباء، ما دفع رئيس الوزراء الإيطالي إلى إطلاق عبارة «هذا ما يطلق عليه تضامن» بعد أن شكر الصين على مدها يد العون لإيطاليا في إشارةٍ واضحة منه إلي التفاعل المحدود من قبل الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمة، ومن إيطاليا إلى صربيا التي أضاءت مبنى الجمعية الوطنية في “بلغراد” و”جسر نهر سافا” بلون العلم الصيني على مدار ليلتين متتاليتين، تعبيراً عن عميق الشكر للصين التي أرسلت في تاريخ 21 مارس فريقاً طبياً متخصصاً بالإضافة إلى مساعدات طبية، واللافت هنا أن الرئيس الصربي استقبل الوفد بنفسه في مطار بلغراد وقال في كلمة له “إن الصينيين أظهروا لبلاده المعنى الحقيقي للصداقة والحب متمثلا في التضامن الفعلي في وقت الأزمات” وأضاف “إن بلاده لن تنسى هذا الموقف أبداً”، وفي المقابل عبر عن انتقاده للاتحاد الأوروبي الذي أظهر انكفاءه على ذاته خلال هذه الأزمة، بل الأمر تجاوز ذلك إلى انكفاء كل دولة على نفسها. 

لم تتوقف الصين عند ذلك الحد بل استمرت في سياساتها الرامية إلى مد جسور الثقة وإظهار التضامن مع الدول التي ضربها الوباء بشدة في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، مسجلةً حضوراً قوياً في هذا الإطار يضاف إلى رصيد الدبلوماسية الصينية التي تتمدد بهدوء في الفراغات المتاحة والمهملة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، هذا السلوك عزز الحضور الصيني في الكثير من المناطق وأكسب الصينيين حلفاء جدد لم يكونوا لينضموا إلى قاطرة الصين لولا هذا الوباء، لذا فإن الصين ربما تكون الرابح الأكبر من الأزمة العالمية الحالية الناجمة عن تفشي وباء كورونا.

وفي المقابل إذا نظرنا إلى سلوك الولايات المتحدة خلال هذه الأزمة سنلاحظ ظهور درجة عالية من التخبط وعدم الوضوح بل تجاوز الأمر ذلك في بعض الأحيان إلى الأنانية التي تمثلت في عدد من السلوكيات المباشرة، من أبرزها مصادرة شحنة كمامات كانت متجهة إلى ألمانيا وتحويلها إلى استخدامها الخاص، هذه الخطوة التي وصفت بالقرصنة كان لها جانب مهم في عملية التآكل التي بدأت في سمعة الولايات المتحدة والتي من الواضح أنها لن تقف عند ذلك الحد. هذا الأمر لم يقتصر على ألمانيا فقط بل إن هناك عدداً من القادة الأوروبيين أشاروا بوضوح إلى هذه الإشكاليات المتعلقة بسلوك الولايات المتحدة في شراء المستلزمات الطبية واعتراض مسارها. ولاحقاً أعلن ترامب حظر السفر من أوروبا إلى الولايات المتحدة لمدة ثلاثين يوماً واستثنى المملكة المتحدة من هذا القرار، في المقابل حذر الاتحاد الأوروبي من التبعات السلبية التي من الممكن أن يلحقها هذا الإجراء بالاقتصاد، الأمر الذي يظهر عدم الرضى من قبل الأوروبيين لمثل هذه التصرفات، وفي المقابل حذت أوروبا حذو الولايات المتحدة فأعلنت لاحقاً عن حظر دخول المسافرين من خارج دول الاتحاد مدة ثلاثين يوماً للحد من تفشي وباء كورونا. 

وقد بدأت الانتقادات العلنية لسياسات الولايات المتحدة خلال هذه الأزمة بالظهور بشكلٍ واضح من قبل بعض الحلفاء فيما يتعلق بمقولة «أمريكا أولاً» التي شدد عليها ترامب، حيث قال “جيرهارد شرودر” المستشار الألماني السابق إن مثل هذه السياسات لا تصح من الولايات المتحدة في هذه الظروف، وأنه لا يتأمل من الولايات المتحدة في ظل حكم ترامب أن تغير من سياساتها. ولم تتوقف الولايات المتحدة عن ممارساتها التي أظهرت للحلفاء قبل الأعداء حجم الحرص على الذات في مقابل العمل مع الآخرين من منظور التشارك والتكامل، فقد حاول ترامب إغراء شركة كيورفاك الألمانية بالمال للقدوم إلى الولايات المتحدة في محاولة منه لاحتكار عقار تعمل الشركة على إنتاجه، الأمر الذي أغضب الألمان، حيث عقب وزير الاقتصاد الألماني على هذا الأمر بالقول إن «ألمانيا ليست للبيع»، أما بالنسبة لوزير الخارجية الألماني فقد قال بأنه “لا يمكن لجهة ما أن تحصل على نتائج أبحاث لشركة ألمانية بشكل حصري”، وتابع “بأننا سنتمكن من التغلب على هذا الوباء بالعمل معا، وليس ضد بعضنا البعض”. سلوك الإدارة الأمريكية الحالية في ظل تفشي هذا الوباء الذي يهدد البشرية، أثار موجةً من التساؤلات حول مدى إمكانية الثقة في الولايات المتحدة كجهة يعتمد عليها في قيادة العالم لمواجهة الأزمات والتحديات الحالية والمستقبلية.

هذا التساؤل يفتح الباب على مصراعيه أمام الجهود الصينية المبذولة لتحقيق التمدد المطلوب لضمان مصالحها التجارية وتطلعاتها السياسية، فهل يقف المشهد عند هذا الحد؟ بالتأكيد لا. فالولايات المتحدة ما زالت تتمتع بحضور قوي على كافة الصعد وما زال الرابط مع أوروبا قائما وفي ذات الوقت التخوفات الأوروبية من النفوذ الصيني الصاعد بقوة ما زالت حاضرة، إذاً فهذه المعركة لن تكون سهلةً أو سريعةً بل إنها ستستغرق وقتها المطلوب لتحديد الرابح والخاسر في نهاية المطاف.

إعلام المنتدى

العلاقات العامة والإعلام منتدى آسيا والشرق الأوسط المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى