
عملية الموازنة: كيف تدير الهند علاقاتها الاستـراتيجية مع الولايــات المتحـدة والصيـن وروسيا؟؟
أفشان خان -باحثة في العلاقات الدولية
عملية الموازنة: كيف تدير الهند علاقاتها الاستـراتيجية مع الولايــات المتحـدة والصيـن وروسيا؟؟
أفشان خان -باحثة في العلاقات الدولية
لطالما تطلّعت الهند إلى أن تصبح قوة عالمية، وغالبًا ما ينعكس هذا الطموح في خطابها السياسي والثقافي تحت شعار «فيشوا غورو» – أي «المعلم للعالم»، لكن، إذا كان هذا هو الهدف بالفعل، فكيف تدير نيودلهي مصالحها وسط ثلاث قوى عظمى متنافسة: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا؟
في عالم يتّجه نحو التعددية القطبية، نجحت الهند في ترسيخ موقعها كلاعب محوري، فعزّزت علاقاتها مع واشنطن، وواصلت شراكاتها التاريخية مع موسكو، وأدارت علاقة معقّدة وأحيانًا متوترة مع بكين، وهذا النهج لا يُعدّ جديدًا؛ بل هو امتداد لتقليد راسخ في السياسة الخارجية الهندية، يولي أولوية للاستقلال الاستراتيجي والانخراط البراغماتي، بعيدًا عن الاصطفافات الحادة.
لقد استخدمت الهند ببراعة التنافس الاستراتيجي بين واشنطن وبكين لتوسيع هامشها الدبلوماسي، وقد أظهرت نيودلهي قدرة لافتة على إعادة التقييم المستمر واتخاذ قرارات دقيقة على مدار العقود.
ببراعة، استفادت الهند من التنافس بين واشنطن وبكين لتوسيع هامشها الدبلوماسي. وقد أظهرت نيودلهي قدرة لافتة على إعادة التقييم المستمر واتخاذ قرارات دقيقة على مدار العقود.
لفهم هذه المعادلة الثلاثية المعقّدة، يُعد عنوان كتاب ديفيد م. مالون لعام 2011 «هل يرقص الفيل؟» استعارة بليغة، فالسياسة الخارجية الهندية تشبه إلى حد كبير حركات الفيل: ليست سريعة أو صاخبة، بل محسوبة وقوية بصمت، تهدف إلى تجنّب الوقوع في صراعات الكبار، مع تعزيز المصالح الوطنية بثبات.
الهند ترفض الخيارات الثنائية، وتتنقّل بحذر وثقة بين محيطها الإقليمي في جنوب آسيا والمشهد الجيوسياسي الأوسع، شرقًا وغربًا.
قلة من الدول في العالم تستطيع بسهولة إدارة علاقاتها مع القوى الثلاث الكبرى: الولايات المتحدة، الصين، وروسيا – وكل منها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، ومع ذلك، تعاملت الهند مع هذا التحدي ببراغماتية وبصيرة استراتيجية، موازنةً مصالحها في الوقت الذي تواصل فيه سعيها الطويل الأمد للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن.
لقد دأبت الهند على المطالبة بإصلاح مجلس الأمن ليعكس الواقع الجيوسياسي المعاصر، وكما ذكرت وزارة الشؤون الخارجية في موقعها الرسمي: «تؤمن الهند بقوة بأنها تمتلك جميع المؤهلات اللازمة لتكون عضوًا دائمًا في مجلس أمن دولي مُصلح وموسّع يعكس الحقائق العالمية المعاصرة.» وتشير الوزارة أيضًا إلى أن «عددًا من الدول، بما في ذلك معظم الأعضاء الدائمين، قد أيدت ترشيح الهند».
ذا الدعم الدبلوماسي يعكس المكانة العالمية المتزايدة للهند وقدرتها على الحفاظ على علاقات موثوقة عبر كتل القوى المتنافسة – دون المساس بمصالحها الأساسية.
الانتكاسات في علاقات الهند
مع الولايات المتحدة والصين وروسيا
بينما نجحت الهند في الحفاظ على علاقات عملية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا، لم يكن ذلك خاليًا من نقاط الخلاف الجادة، فاستراتيجية الهند الدبلوماسية تركز على المنافسة الاستراتيجية أكثر من المواجهة المفتوحة، لكن التوترات مع كل من هذه القوى الكبرى ظهرت في السنوات الأخيرة.
العلاقات الهندية-الأمريكية
شهدت العلاقات الهندية-الأمريكية انتكاسة في عام 2023 إثر اتهامات بتورّط نيودلهي في اغتيال المواطن الأمريكي والناشط المؤيد لخالستان، جورباتوانت سينغ بانون. وفي خطوة دبلوماسية لافتة، رفض الرئيس بايدن دعوة الهند ليكون ضيف الشرف في احتفالات يوم الجمهورية، مطالبًا بتعاون شفاف في التحقيق.
كما أثارت الإجراءات الصارمة الأخيرة التي اتخذتها إدارة ترامب، والتي قامت فيها بترحيل العشرات من الهنود في ظروف قاسية، جدلاً في الهند وداخل الجالية الهندية في المهجر، كما أن قلق الولايات المتحدة بشأن حملة الهند على حرية التعبير وعلاقاتها الوثيقة مع روسيا قد سبب توترًا إضافيًا في العلاقة.
العلاقات الهندية الروسية
تستند العلاقات بين نيودلهي وموسكو إلى إرث استراتيجي يعود لحقبة الحرب الباردة، لكنها شهدت في السنوات الأخيرة بعض التوترات الطفيفة.
فقد أثار تنامي صادرات الهند من السلاح إلى دول في إفريقيا وجنوب شرق آسيا قلقًا روسيًا بشأن تقليص نفوذها في هذه الأسواق، وتراه بمثابة تهديد محتمل لأسواقها التقليدية.
إضافة إلى ذلك، أُثيرت مخاوف بعد تقارير إعلامية تفيد بتضليل بعض المواطنين الهنود – بمن فيهم طلاب – للانضمام إلى الجيش الروسي خلال الحرب في أوكرانيا، وهذه الادعاءات أثارت قلقًا عامًا في الهند وأدت إلى محادثات دبلوماسية بين الحكومتين.
كما أن انتقادات روسيا لتحالف الرباعية (Quad) الذي يضم الهند، الولايات المتحدة، اليابان، وأستراليا تعكس عدم ارتياح روسي لما تعتبره توسعًا لنفوذ خصومها في آسيا، وترى فيه جزءًا من استراتيجية احتواء غربية ضد الصين، وبشكل غير مباشر، تهديدًا للمصالح الروسية في آسيا.
وبينما تدفع الولايات المتحدة نحو توسيع نفوذ التحالف في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لا تزال روسيا تنظر إليها بعين الشك، مما يخلق نقطة تباين أخرى مع الهند.
العلاقات الهندية الصينية
تبقى العلاقات مع الصين من الأكثر تعقيدًا، إذ يشكّل دعم بكين المتواصل لباكستان، خاصة في قضية كشمير، مصدر توتر دائم، حيث تنظر نيودلهي إلى هذا الدعم كتهديد مباشر لسيادتها.
كما أن استمرار بكين في تطوير البنية التحتية وتعزيز الحضور العسكري في منطقة جيلجيت-بلتستان وهي أرض تدّعي الهند سيادتها عليها بينما تُدار من قبل باكستان قد زاد من حدة انعدام الثقة.
كذلك، فإن الدور النشط للهند في تحالف الرباعية (Quad) إلى جانب الولايات المتحدة واليابان وأستراليا يُنظر إليه من قبل بكين كمحاولة استراتيجية لاحتواء النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وقد أدى هذا التوجه إلى تصاعد المنافسة الجيوستراتيجية والشك المتبادل، خصوصًا في ظل سعي كل من الهند والصين لتوسيع نفوذهما وشراكاتهما في المنطقة.
وقد اندلعت توترات عسكرية بشكل دوري على طول خط السيطرة الفعلي (LAC) المتنازع عليه، وكانت مناوشات وادي جالوان في عام 2020 من أخطر المواجهات منذ عقود، وبينما تستمر الدولتان في بناء البنية التحتية على جانبي الحدود، فإن هذه التطورات تزيد من خطر وقوع مواجهات مستقبلية وتُعقّد فرص الانخراط الدبلوماسي.
ورغم قوة التجارة الثنائية، إلا أن العجز التجاري الهندي مع الصين بلغ مستوى قياسيًا عند 99.2 مليار دولار في السنة المالية 2024–2025، ما أثار قلقًا داخليًا متزايدًا بشأن الاعتماد الاقتصادي المتزايد على الصين.
كيف تتعامل الهند مع المعارضة والعلاقات المتوترة؟
اعتماد الهند على واردات الدفاع من الولايات المتحدة وروسيا، إلى جانب اعتمادها على الصين في مجالات التجارة والتصنيع، يُبرز أهمية الحفاظ على توازن دقيق بين هذه القوى العالمية الثلاث. فعلى الرغم من أن الهند كانت تُعرف تاريخيًا بسياسة عدم الانحياز، إلا أن نهجها الحالي تطور ليصبح سياسة «تعدد الانحيازات»، حيث تنخرط استراتيجيًا مع كل من هذه الدول لتعظيم مصالحها الوطنية.
وكما قال فلاديمير بوتين في قمة البريكس عام 2016: «نعتبر الهند قوة عظيمة، دولة صديقة، وشريكًا اختبره الزمن»، كذلك، أقر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بنهوض الهند على الساحة العالمية، قائلاً في عام 2010: «الهند ليست مجرد قوة صاعدة بل إنها قد نهضت بالفعل».
بالمثل، شدّد شي جين بينغ على أهمية العلاقة الهندية-الصينية خلال قمة مجموعة العشرين في 2016، قائلاً: «علاقة صحية ومستقرة بين الصين والهند تصب في المصلحة الجوهرية لكلا البلدين وشعبيهما».
تعكس هذه التصريحات إدراكًا متزايدًا للدور المحوري الذي تلعبه الهند في الجغرافيا السياسية العالمية. وإذا ما أُدير هذا الدور ببراغماتية وبعد نظر، فإن سياسة الهند في تعدد الانحيازات قد تثمر فوائد كبيرة لها ولشركائها الدوليين.
وبعيدًا عن شراكاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى، تملك الهند أيضًا نفوذًا واسعًا من خلال قوتها الناعمة الفريدة، التي يتردد صداها عبر الحدود، ففي السنوات الأخيرة، امتنعت الهند عن إدانة القوى الكبرى علنًا، وفضّلت الحوار بدلًا من المواجهة، كما بدا واضحًا في موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، حيث امتنعت عن التصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة.
ومن خلال موازنة علاقاتها بعناية مع اللاعبين الرئيسيين على الساحة العالمية، تمكنت الهند من الحفاظ على مسافة صحية من القوى المتنافسة، مع حماية استقلالها الاستراتيجي.
ومع ذلك، فإن مواقف الهند الحيادية تجاه قضايا مثل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وحرب أوكرانيا قد أثارت بعض الشكوك، وأدت إلى تراجع صورتها كدولة مناهضة للاستعمار والإمبريالية.