
مجموعة لاهاي ودور دول الجنوب العالمي في دعم حقوق الفلسطينيين
د. بلال ياسين - باحث في العلاقات الدولية
في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، لم تعد القضية الفلسطينية شأناً إقليميًا محصورًا بجغرافيا الشرق الأوسط، بل تحولت إلى اختبار أخلاقي للنظام الدولي، ومعيارًا لمدى التزام الفاعلين الدوليين بمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان.
ومع تراجع الانخراط الأمريكي التقليدي في إدارة الأزمات الدولية، فيما يُعرف بـ»سياسة الانكفاء»، تتجدد الأسئلة حول مستقبل الدعم الدولي للفلسطينيين، لا سيما مع بروز أطراف جديدة تسعى إلى ملء هذا الفراغ في مشهد سياسي مضطرب، وعلى رأسها مجموعة لاهاي ودول الجنوب العالمي.
ولا تعني سياسة الانكفاء الأمريكي، التي برزت بوضوح في عهد الرئيس دونالد ترامب، ، لا تعني بحالٍ من الأحوال حيادًا أو انسحابًا فعليًا من المسرح الدولي، بقدر ما تعكس إعادة ترتيب للأولويات الاستراتيجية الأمريكية، إذ تُمنح الأولوية للمنافسة مع قوى كبرى كالصين وروسيا، على حساب الاهتمام التقليدي بالقضية الفلسطينية.
غير أن هذا التراجع لا يعني بأي حال تراجعًا في الدعم الأمريكي لإسرائيل، بل العكس؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة تعزيزًا واضحًا لهذا الدعم سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، إذ تتلقى إسرائيل دعمًا عسكريًا سنويًا يتجاوز 3.8 مليار دولار، إلى جانب استخدام متكرر لحق النقض (الفيتو) لإفشال قرارات تدين الانتهاكات الإسرائيلية.
في هذا السياق، برزت مجموعة لاهاي كإطار دولي غير حكومي، يضم نخبة من القانونيين والدبلوماسيين والمنظمات الحقوقية من مختلف دول العالم، للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني.
ففي 31 يناير 2025 دشنت تسع دول تحالفًا باسم «مجموعة لاهاي»، بهدف العمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ودعم حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة، حيث جرى هذا الإعلان خلال مؤتمر عُقد في مدينة لاهاي الهولندية، وفق بيان مشترك لممثلي الدول التسع، وهي: جنوب إفريقيا، ماليزيا، كولومبيا، بوليفيا، كوبا، هندوراس، ناميبيا، السنغال، وجزر بليز.
وتسعى المجموعة إلى تفعيل أدوات القانون الدولي، لا سيما عبر محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، بهدف محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد جاء تأسيس المجموعة استجابة لتصاعد الجرائم الممنهجة ضد المدنيين الفلسطينيين وخاصة حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وكمحاولة لملء الفراغ القانوني والدبلوماسي الذي خلفه ضعف المواقف الغربية في مواجهة هذه الانتهاكات.
من أبرز مساهمات المجموعة، تقديم ملفات موثقة حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، مثل استهداف المدنيين والمرافق الطبية، واستخدام القوة المفرطة بشكل يتنافى مع قواعد القانون الإنساني الدولي.
كما دعمت المجموعة الجهود الفلسطينية لطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية حول قانونية الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما مثّل اختراقًا مهمًا في المعركة القانونية الدولية، وقدمت أيضًا استشارات قانونية للسلطة الفلسطينية ولمؤسسات المجتمع المدني، حول آليات توثيق الانتهاكات وتقديمها ضمن أطر قانونية معترف بها دوليًا.
دول الجنوب العالمي: مواقف متقدمة وتجارب مؤثرة
بالتوازي مع الجهود القانونية، يُلاحَظ تصاعد دور دول الجنوب العالمي، وهي الدول التي لا تنتمي تقليديًا لمحاور النفوذ الغربي كأميركا وأوروبا الغربية. وتشمل هذه الدول: جنوب إفريقيا، البرازيل، إندونيسيا، تركيا، ماليزيا، وغيرها من الدول التي باتت تُعبّر عن مواقف أكثر استقلالية في سياستها الخارجية، مدفوعة بإرثها التاريخي في مقاومة الاستعمار وتجاربها التاريخية مع التمييز العنصري والاحتلال.
فجنوب إفريقيا، على سبيل المثال، قدّمت نموذجًا فريدًا في التضامن العملي مع الفلسطينيين، مستلهمة تجربتها ضد نظام الفصل العنصري، وأعلنت دعمها الكامل لتحقيق دولي في الجرائم الإسرائيلية، وشاركت في إعداد ملفات قانونية، كما خفّضت مستوى التمثيل الدبلوماسي لدى إسرائيل، في خطوة ذات دلالات رمزية وسياسية قوية. ومن الجدير بالذكر أن المحكمة الدستورية بجنوب إفريقيا وصفت سياسات الاحتلال الإسرائيلي بأنها تماثل سياسات «الأبارتايد».
أما البرازيل، فقد شهدت تحولات مهمة في سياستها تجاه القضية الفلسطينية، لا سيما في ظل عودة الرئيس لولا دا سيلفا إلى السلطة، حيث أعادت الحكومة البرازيلية التأكيد على دعمها لحل الدولتين، ورفضت الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأوقفت بعض صفقات السلاح مع تل أبيب، ورغم الضغوط الدبلوماسية التي تعرضت لها من الولايات المتحدة وإسرائيل، تمسكت بموقفها، مما يعكس تحررًا نسبيًا من الهيمنة الغربية.
في السياق ذاته، لعبت إندونيسيا وماليزيا دورًا محوريًا في المنظمات الدولية والإسلامية لدعم القضية الفلسطينية، سواء عبر التمويل الإنساني أو المواقف الصلبة داخل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وشاركت ماليزيا في تمويل مبادرات قانونية متعددة، من بينها جهود مجموعة لاهاي، كما استضافت مؤتمرات متخصصة في مناهضة الاحتلال وتعزيز العدالة الدولية.
ولا يقلّ الدور التركي أهمية، حيث واصلت أنقرة تقديم مساعدات إنسانية كبيرة إلى قطاع غزة، بالتوازي مع إطلاق حملات إعلامية مؤثرة تكشف انتهاكات الاحتلال، ودعم سياسي واضح للمقاومة الفلسطينية، رغم تقاطعه أحيانًا مع حسابات العلاقات الثنائية مع إسرائيل، خاصة في الشقّ الاقتصادي.
جانبٌ آخر مهم يتمثل في التحول الإعلامي والثقافي الذي تشهده دول الجنوب العالمي، حيث بدأت العديد من المؤسسات الإعلامية في هذه الدول بكسر الرواية الغربية التقليدية حول الصراع، وتقديم سردية بديلة تعكس الواقع الميداني للفلسطينيين، مثل «تي آر تي» التركية و»تي في غلوبو» البرازيلية بتقديم تغطيات شاملة للعدوان الإسرائيلي، وخصصت برامج وثائقية تكشف المعاناة اليومية للفلسطينيين، مما ساهم في رفع الوعي الجماهيري عالميًا.
تحديات ومعوقات
ورغم هذا الزخم، تواجه مجموعة لاهاي ودول الجنوب تحديات كبيرة، فبالإضافة إلى الضغوط الأميركية والإسرائيلية على بعض الحكومات، كما حدث مع البرازيل وتركيا، يظل الانقسام الفلسطيني الداخلي من أبرز العوائق أمام بناء استراتيجية موحدة يمكن تقديمها للمجتمع الدولي، إذ إنّ غياب موقف فلسطيني موحد يحول دون بناء استراتيجية متماسكة يمكن تقديمها كموقف رسمي متكامل أمام المؤسسات الدولية.
أيضاً تواجه مجموعة لاهاي معوقات قانونية وسياسية، أبرزها محاولات إسرائيل نزع الشرعية عن أي تحرك قانوني، واتهامه بـ»معاداة السامية»، وهي تهمة تُستخدم لتجريم الانتقادات الموجهة لسلوك الاحتلال، كما تُمارس ضغوط على بعض الدول لثنيها عن التعاون مع المحاكم الدولية، بذريعة «تسييس العدالة».
لكن هذه التحديات، رغم صعوبتها، ليست مستعصية على المواجهة، إذ يمكن التصدي لها من خلال تطوير آليات تنسيق فعالة بين القيادة الفلسطينية ومجموعة لاهاي، وتوسيع التحالفات مع دول الجنوب، وتكثيف التفاعل مع المجتمع المدني الدولي، كما أن دعم مراكز الأبحاث والإعلام المستقل سيساعد في كسر الرواية الإسرائيلية وتعزيز السردية الفلسطينية عالميًا.
من الهامش إلى التأثير
ختامًا، يمكن القول إنَّ التحولات الجيوسياسية العالمية قد أفرزت فرصًا وتحديات في آن واحد للقضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي تتراجع فيه بعض القوى التقليدية عن أداء دورها التاريخي، تبرز قوى ناشئة تسعى إلى ملء هذا الفراغ، أكثر جرأة واستقلالية.
وتشكّل مجموعة لاهاي ودول الجنوب العالمي ركيزتين أساسيتين لإعادة التوازن إلى ميزان العدالة الدولية، وبناء مظلة قانونية ودبلوماسية جديدة لحماية حقوق الفلسطينيين، ومع تنامي هذه الأدوار، قد يكون الطريق إلى العدالة طويلًا، لكنه لم يعد معزولًا عن نبض التضامن العالمي، الذي بات أكثر وعيًا، وجرأة في مواجهة منظومات القهر والاحتلال.
وعليه؛ فإنَّ تطوير استراتيجية متكاملة تجمع بين الجهود القانونية والسياسية والاقتصادية سيشكل ركيزة أساسية لمواجهة التحديات المقبلة وتحقيق نتائج ملموسة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.