
مقابلة العدد : المفكر الجيوسياسي الروسي فاليري ميخائيلوفيتش كوروفين
مدير مركز الخبرة الجيوسياسية في موسكو، وأحد أبرز منظّري «الأوراسية الجديدة»
روسيا تقود نحو عالم متعدد الأقطاب…
والغرب يخشى فقدان هيمنته
خاص | آسيا بوست
في ظل تسارع التحولات الجيوسياسية التي تطرأ على بنية النظام الدولي، وفي وقت يزداد فيه الحديث عن «الجنوب العالمي» وصعود قوى غير غربية تتحدى استفراد الولايات المتحدة والغرب بقيادة النظام العالمي، تبرز روسيا من جديد كفاعل حضاري وسياسي يراهن على هندسة عالم متعدد الأقطاب.
حول هذه التحولات الكبرى، والمواقف الروسية من التكتلات الدولية كـ»بريكس»، وتقييم دور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التقت مجلة «آسيا بوست» المفكر الجيوسياسي الروسي فاليري ميخائيلوفيتش كوروفين، مدير مركز الخبرة الجيوسياسية في موسكو، وأحد أبرز منظّري «الأوراسية الجديدة»، الذي قدّم قراءة عميقة لحالة الصراع الكوني الجاري، بلغة صريحة، وأفق فكري فلسفي.
لطالما سعت روسيا إلى أن تكون مركزًا للدول المهمشة خارج النظام الدولي الغربي. هل أضعف الصراع في أوكرانيا هذا الدور أم عززه؟
في عالم أحادي القطب، تُهمَّش كل الدول التي لا تعلن الولاء للغرب، لكن مع تَشكُّل عالم متعدد الأقطاب، تحاول روسيا، انطلاقًا من مركزها الأوراسي، قيادة تكتل حضاري وثقافي يضم شعوبًا قريبة منها ذهنيًا واستراتيجيًا، وأوكرانيا في قلب هذا التكتل، إنها ليست مجرد ساحة حرب، بل نقطة ارتكاز في الصراع على تشكيل النظام الدولي.
الصراع في أوكرانيا هو معركة على مصير العالم المتعدد الأقطاب، فإذا خسرت روسيا، تتوقف عملية التكامل الأوراسي، وإذا انتصرت، تعود لتكون مركزًا حضاريًا عالميًا مستقلًا.
أما في العالم الثنائي القطب الذي كان قائمًا قبل عام 1991، فكانت الدول التي لم تكن جزءًا من الكتلة الغربية أو السوفييتية مهمشة، وكانوا يُطلقون عليها في الغرب اسم «العالم الثالث» (بينما كانت الكتلة السوفييتية هي «العالم الثاني»)، وأطلقوا على أنفسهم اسم «حركة عدم الانحياز”.
اليوم، بمبادرة من روسيا والصين، يجري بناء نموذج لعالم متعدد الأقطاب (عدة سياسات – مراكز سياسية وحضارية) كبديل للأحادية الغربيةـ يتشكل ائتلاف من دول وشعوب متقاربة حضاريًا حول كل قطب وحول روسيا، الواقعة في مركز القطب الأوراسي، يتكون تكتل حضاري أوراسي يضم دولًا قريبة ذهنيًا وحضاريًا من روسيا والروس، والتي كانت ضمن فضاء استراتيجي واحد مع روسيا لقرون.
وتُعد هذه الدول مهمشة فقط في الغرب، استنادًا إلى الغطرسة الغربية التي تعتبر كل من لم يُقسم الولاء لها على أنه مهمش بنفس القدر، أما بالنسبة لروسيا، فهذه الدول شعوب ودول قريبة ذهنيًا وثقافيًا.
ومن دون شك، يحاول خصوم تشكُّل التكتل الأوراسي إعاقة هذا المسار عبر إضعاف روسيا من خلال صراعات لا تنتهي على أطرافها، وأوكرانيا تُعد واحدة من المكونات الأساسية للتكتل الحضاري الأوراسي، وبدونها، يُصبح هذا التكتل، كما كتب المفكر الجيوسياسي الأمريكي زبيغنيو بريجينسكي (من الجحيم)، آسيويًا بحتًا.
ولهذا السبب، يحاول الغرب منذ قرن أن يفصل أوكرانيا عن روسيا، فهي مدخل أوروبا، وكانت، بوضعها الحيادي الخالي من السلاح النووي وغير المنحاز، منطقة عازلة تمنع وقوع صدام بين الغرب وروسيا، لكن الغرب اجتاح هذه المنطقة المحايدة في عام 2014، واستولى عليها تحت سيطرته الاستراتيجية، مما أدى حتمًا إلى صراع بين الغرب وروسيا في أوكرانيا السابقة.
الآن، نتيجة هذا الصراع ستحدد ما إذا كانت روسيا ستستعيد مكانتها كقوة أوراسية، وتصبح مركزًا لتشكيل القطب الحضاري الأوراسي، أم ستفقدها، وهو ما سيوقف عمليات التكامل الأوراسي، وفي الواقع، مصير التعددية القطبية يعتمد على نتيجة المعركة بين روسيا والغرب في أوكرانيا.
تمثل منظمة بريكس أملًا للكثيرين خارج العالم الغربي، إذ تقدم بديلاً للهيمنة الغربية. ما مدى واقعية هذا الأمل؟ وهل يمكنها بالفعل كسر الأحادية الغربية؟
بريكس ليست فقط تكتلًا اقتصاديًا، بل إعلانًا واضحًا عن رفض الأحادية الغربية وقيام عالم متعدد المراكز، لكن نجاحها يتوقف على تشكّل كتل حضارية قوية في أمريكا اللاتينية، أوراسيا، إفريقيا، وبهارات، والعائق الأكبر هو العولميون الليبراليون في الغرب، الذين يخوضون معركة وجودية ضد هذا التحول.
ويمكننا أيضًا إضافة التكتل الحضاري الإسلامي العربي، الذي لا يوجد له قائد واضح بعد، بالإضافة إلى التكتل الأمريكي الشمالي، الذي أعلن عن تشكيله في الواقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدعوته كندا والمكسيك للانضمام إليه.
يمكن القول إن النموذج متعدد الأقطاب، الذي تقف بريكس في طليعته، يتشكل أمام أعيننا، والأمل في تشكيله النهائي يعتمد على ما إذا كانت غالبية البشرية قادرة على تهميش الليبراليين العولميين الغربيين، الذين يشكلون أقلية من الأقليات حتى داخل الغرب، والذين دخلوا اليوم في معركة لا تقبل التراجع مع ترامب وإدارته.
والليبراليين-العولميين الأمريكيين وشركاءهم في أوروبا، الذين يمثلهم قادة الاتحاد الأوروبي الحاليين، هم الخصوم الرئيسيون للتعددية القطبية، ويعملون بشراسة على إفساد جهود قادة بريكس وغالبية البشرية أي سبعة مليارات من أصل ثمانية لا ينتمون إلى الغرب الحضاري.
يضمن نجاح جهود العولميين الإيمان بالقيم الغربية، الذي لا يزال قويًا حتى خارج العالم الغربي، وبمجرد أن تدرك البشرية مدى تدميرية، بل وحتى شيطانية، جوهر القيم الغربية، سيتحول حاملو أفكار العولمة والليبرالية إلى حفنة من المجانين المهووسين الذين يمكن عزلهم في مصحات عقلية.
أما باقي البشرية، بما في ذلك أمريكا التي بدأت تستفيق بفضل جهود ترامب، فسوف تتنفس الصعداء، وستصبح مبادرات بريكس وغيرها من أنصار العالم العادل المتعدد الأقطاب أمرًا واقعًا.
استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصطلح «الجنوب العالمي» في خطاباته، كيف ترى أن روسيا تنتمي إلى هذا المفهوم؟ وكيف يرتبط دورها بأهداف بريكس؟
مصطلح «الجنوب العالمي» ليس واضحًا تمامًا، وأنا شخصيًا لا أستخدمه إطلاقًا، لأنه مصطلح غربي النشأة والتصور يطمس النماذج الجيوسياسية الدقيقة، وهو محاولة غربية أخرى لتصنيف العالم وفق مركز وهامش، حضارة وهمجية. روسيا ليست من الجنوب ولا الشمال، بل هي مركز حضاري مستقل ينتمي إلى أوراسيا.
وفي الواقع حل «الجنوب العالمي» محل مفهوم «العالم الثالث» الأكثر إساءة، والذي تطور خلال فترة العالم ثنائي القطب، ولكن آنذاك كان هناك أيضًا «العالم الثاني»، وهو أيضًا تعريف مهين للغاية أطلقه الغرب على الكتلة السوفييتية.
سابقًا، كانت هذه المصطلحات تدّعي أن هناك «العالم الأول» – وهو الغرب الحضاري (وليس الجغرافي) وكل من أقسم له بالولاء؛ يصفه جون هوبسون بأنه «حضارة»، ويصفه إيمانويل والرشتاين بأنه «المركز».
وهناك «العالم الثاني»، الذي ليس الغرب ولكنه دائمًا في حالة سعي للحاق به، وبالتالي يتخلف عنه دائمًا، ولكن فقط من منظور تقييمات الغرب ذاته، ووفقًا لهوبسون، فإن «العالم الثاني» هم البرابرة؛ ووفقًا لوالرشتاين، فهم «شبه الأطراف». الكتلة السوفييتية، التي صنفها الغرب ضمن العالم الثاني، كانت مثل الغرب، تعتمد على النموذج الحداثي، القائم على التقدّمية (الإيمان بالتقدّم، وخاصة الاجتماعي، والذي يُعتبر من منظور التقليد نوعًا من الشيطنة)، والوضعية، والمادية، ومع ذلك، كانت تفتقر إلى «حضارة» الغرب، التي لا يمكن وجودها خارج الغرب، وبالتالي بقيت بربرية دائمًا.
أما أولئك الذين لم ينووا مطاردة الغرب أو قبول نماذجه الفكرية، فقد أعلنهم الغرب بأنهم «العالم الثالث»، في مصطلحات هوبسون «متوحشون»؛ وفي مصطلحات والرشتاين «الأطراف»، وعندما قامت الكتلة السوفييتية بتفكيك نفسها، بدا أن العالم الثاني قد خرج من هذه المعادلة وفي تلك اللحظة، تم استبدال العالم الثالث بمصطلح «الجنوب العالمي»، لأنه لم يتبق سوى عالمين الأول، وفقًا للعولميين؛ والثاني، وفقًا لخصومهم الذين أعلنوا أنه يوجد الآن «الشمال العالمي» وهو الغرب الحضاري هو كل من لا ينتمي إلى الغرب، أي بقية البشرية غير الغربية.
وكان هذا النموذج شائعًا جدًا لدى الصين، التي انتقلت من حالة «المتوحشين من العالم الثالث» إلى وضع «الجنوب العالمي» المحترم، وإذا قمنا بقياسه بالمؤشرات الاقتصادية، كما يُصر الغرب، فهي عمومًا أصبحت قائدة لهذا «الجنوب العالمي”.
لماذا هذا النموذج معيب؟ لأنه يدمر النموذج الجيوسياسي المتناغم الذي يقسم العالم إلى نوعين من الحضارات حضارة بحرية وأخرى برية، وأيضًا لأنه يضع روسيا في وضع غير محدد، فهي تقع في قلب منطقة أوراسيا أساس الحضارة الأوراسية أحد المحاور الأساسية لعالم متعدد الأقطاب.
وبعد أن توقفت عن كونها «العالم الثاني»، بدت روسيا عالقة بين «الشمال العالمي»، حيث جرّها الليبراليون العولميون في التسعينيات، و»الجنوب العالمي»، حيث تسجلها الصين، التي ترى نفسها قائدة (اقتصاديًا على الأقل) لهذا التجمع البديل للغرب.
في مصطلحات هوبسون، يجب على «متوحشي» روسيا أن يصبحوا إما «حضارة» عبر الولاء للغرب أو «متوحشين» بهبوطهم إلى «الجنوب العالمي»، وفي مصطلحات والرشتاين، فإن «شبه الأطراف» ذابت جزئيًا في «المركز» في «الشمال العالمي» (أي أن أوكرانيا خُسرت أمام روسيا، وفقًا لرؤية العولميين) وجزئيًا في «الجنوب العالمي”.
إذا أصبحت روسيا جزءًا من «الجنوب العالمي» (وهو أمر يبدو منطقيًا، لأن روسيا ليست من الغرب)، فستكون بذلك تحت وصاية الصين (اقتصاديًا)، وإذا لم تكن كذلك، فمرحبًا بها في الغرب، وهذا يتناقض تمامًا مع الرؤية الأوراسية، التي ترى أن روسيا ليست شرقًا ولا غربًا، بل حضارة مستقلة وخاصة، دمجت أفضل سمات كل من الشرق والغرب.
وينطبق الشيء نفسه على منظمة بريكس التي في إطار مفهوم «الجنوب العالمي»، لا تمثل بديلاً تعددي الأقطاب للغرب الأحادي، بل مجرد مجموعة من المتوحشين والبرابرة من «العالم الثالث» يتحدّون الحضارة، وهي صورة مثيرة للشفقة وواضحة العيب، أليس كذلك؟ خاصة إذا وصفنا ما يحدث بالمصطلحات المتغطرسة الغربية.
في الواقع، الغرب يفرض علينا مجددًا نموذجًا مشوهًا ومختلًا، بينما هو نفسه يتصرف، كما هو معتاد، ضمن إطار مفاهيم جيوسياسية منسجمة، ولهذا، فإننا نتخبط، ونتوه في الظلام، ونرتكب الأخطاء؛ أما هم الذين يفكرون استراتيجيًا ضمن نموذج جيوسياسي منسجم فيتصرفون بوضوح وثبات، فقط يفركون أيديهم من فرط ارتباكنا؛ وهذه نتيجة للارتباك المصطلحي والانقسام المفاهيمي.
كيف تقيّم تأثير دونالد ترامب على السياسة العالمية؟ هل سيؤدي قيادته إلى عالم أكثر استقرارًا أم على العكس، هل يقود نحو استقرار أو فوضى؟
رغم كل تصريحاته المتناقضة وتقلّباته كرجل سياسة ناشئ، يمكننا تحديد ملامح رئيسية لترامب، فهو ضد العولميين والعولمة، وكذلك ضد الليبرالية بصفتها هذه، ومن أنصار إنشاء قطب حضاري أمريكي داخل عالم متعدد الأقطاب، لأنه ضد الأحادية القطبية.
ترامب ضد العولمة والليبرالية، ليس لأنه يرفض العالم، بل لأنه يريد لأمريكا أن تعود قطبًا حضاريًا مستقلًا، لا يؤمن بأن أمريكا يجب أن تقود العالم، بل أن تكون شريكًا في عالم متعدد الأقطاب، والعولمة لا تناسب ترامب – الوطني الأمريكي – لأنها دائمًا ما تُطبّق على حساب الولايات المتحدة، وهذا منطقي، لأن أمريكا كانت المبادِرة للعولمة لسنوات عديدة.
في هذا الإطار المرجعي، لا يرى ترامب أوروبا امتدادًا لجهود العولمة الأمريكية، ولا كمستعمرة أمريكية، كما كان يراها العولميون، بل كقطب حضاري مستقل، وتظهر روسيا والصين كقطب مماثل.
لكن إذا أصرت الصين في هذه اللحظة على أنها ليست قطبًا لمنطقة آسيا-المحيط الهادئ – أحد أقطاب العالم متعدد الأقطاب – بل قائدة لـ «الجنوب العالمي»، حيث تختلط جميع الحضارات غير الغربية، فإنها في الواقع، تصبح مبادِرة لاستمرار العولمة، ولكن على الجانب غير الغربي، في مواجهة جهود ترامب المناهضة للعولمة.
بينما هو، بتصريحاته حول دعوة كندا والمكسيك إلى الكتلة الأمريكية، يؤكد رغبته في إنشاء قطب حضاري أمريكي، كأحد أقطاب العالم متعدد الأقطاب الناشئ، وهذه خطورة أخرى نابعة من مفهوم «الجنوب العالمي”.
يجادل العديد من المثقفين الأمريكيين بأن سياسة ترامب ستضرّ بشكل خطير بالدور والمكانة العالمية للولايات المتحدة، وتعزز صعود الصين، ما هو رأيك في هذه المسألة؟ هل ما يسمى بـ»الصعود الصيني» هو واقع موضوعي، أم أنه مجرد جزء من الدعاية الأمريكية والحرب النفسية؟
مما سبق يتضح بالفعل أن مفهوم «الجنوب العالمي» الذي تروج له الصين يتعارض مع أفكار ترامب، لأنه في الأساس كان ردًّا على جهود العولميين الغربيين في إنشاء عالم أحادي القطب تحت قيادة الولايات المتحدة، لكن مع وصول ترامب، يفقد هذا المفهوم زخمه.
وعمومًا، فإنه يخلط الأوراق بالنسبة للمعادين للعولمة، والتقليديين، وأنصار التعددية القطبية. هنا سيكون من الأنسب الانطلاق من نماذج الجغرافيا السياسية الكلاسيكية الصارمة، وهذا ما يفسر أيضًا الموقف العدائي لترامب تجاه الصين. يتبين أنه يعيد توجيه العالم نحو التعددية القطبية، في حين أن الصين تستمر في تطبيق نموذج الجنوب العالمي العولمي ضد الولايات المتحدة، وهذا يخلق لها ميزة تنافسية تثير قلق ترامب.
كان سيفهم بشكل أوضح رغبة الصين في توحيد منطقة آسيا والمحيط الهادئ حولها أكثر من رغبتها في توحيد جميع من هم ضد الغرب، الذين يجدون أنفسهم في موقف ضعيف إذا تخلوا عن المشروع العولمي.
جهود ترامب المناهضة للعولمة أدت بالفعل إلى توترات في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، ومحاولات إنشاء قطب حضاري أمريكي في العلاقات بين الولايات المتحدة وكندا، وها هي الصين تسعى لتوحيد الجنوب العالمي، وعندئذ، لن يكون أمام ترامب سوى أن يعلن مجددًا عن ضرورة توحيد الغرب، هذه المرة ضد «الجنوب العالمي» الصيني، مما ينذر بتفاقم الأوضاع.
جهود ترامب المناهضة للعولمة تضر بالعولمة والليبراليين، بما في ذلك وكلاؤهم في أوروبا ومشروع الاتحاد الأوروبي الكوني ذاته، وليس بأمريكا، ففي عالم متعدد الأقطاب، ستتعزز مكانة أمريكا كشريك متساوٍ، وستحظى الولايات المتحدة نفسها بمزيد من الاحترام بدلًا من الخوف والكراهية، لذا فإن مخاوف المثقفين الأمريكيين تعود بالأساس إلى التغير الحاد في المسار بعد أن اعتادوا لعقود طويلة على المبادرات العولمية.
أما بالنسبة للصين، فهي تشهد فعلًا نهوضًا، ولكن اقتصاديًا فقط، وأي محاولة للمطالبة بأي هيمنة عالمية ستنتهي طبيعيًا بالفشل، كما هو الحال لجميع الحضارات الأخرى في جميع الأزمنة، حتى المطالبة بالهيمنة ضمن ما يسمى بـ»الجنوب العالمي» سيكون لها تكاليف كبيرة، خاصة إذا تم تنفيذها خلافًا لنماذج الجغرافيا السياسية الكلاسيكية.
النظام العالمي الحديث، كما يُطلق عليه، يتعرض لانتقادات متكررة من العديد من المفكرين وزعماء العالم، بمن فيهم الرئيس بوتين، ما هو برأيك الشكل المثالي للنظام العالمي؟
النظام المثالي يجب أن يكون تعدديًا، فالعالم الحديث هو نتيجة لتكوّن النموذج الحداثي، الذي تم التعبير عنه في ما يسمى بـ»العصر الجديد» وفرضه الغرب على جزء كبير من البشرية، والحداثة، كما هو معلوم، تقوم على نفي التقاليد. وكنتيجة لذلك، يتم استبدال فئة الأبدية بالزمن، ويُخرج الله أولًا «من بين الأقواس»، ثم يتم التشكيك فيه، ثم يتم التخلص منه تمامًا (كما في الفلسفة الأوروبية الحديثة بأكملها).
وبالتالي، يتم تفكيك النظام العالمي القائم على التقاليد، وكل النظام التقليدي المبني على الحضور الإلهي، لكن كل هذا يحدث فقط في رؤوس المفكرين الغربيين، أما بقية العالم، بقية البشرية، فلا تزال تعيش في إطار التقاليد والدين، وتبني حياتها على القيم الروحية والحضور الإلهي.
ليس العالم الغربي وحده هو المتأثر قليلًا بأفكار الحداثة، ففي بعض الأماكن أكثر، كما في «العالم الثاني» في الحقبة السوفيتية ذات القطبين، وفي أماكن أخرى أقل، كما في «العالم الثالث».
يصف الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين هذا التراكب السطحي لبعض أفكار ومفاهيم الحداثة على العالم التقليدي ما قبل الحداثة بمفهوم «الحداثة الأثرية»، ويصفها بأنها حالة مؤلمة للغاية، وغير طبيعية، وغير مستقرة، وفصامية.
الحيلة الرئيسية للغرب في غزو العقول خارج العالم الغربي، هي ربط «التقدم العلمي والتقني» بـ»التقدم الاجتماعي»، وبمعنى آخر: إذا كنت تريد التكنولوجيا، فعليك بموكب الفخر للمثليين، ومن يرفض قيم المثلية هو «همجي متخلف» و»ظلامي» يعيش في كهف بنظام بدائي من القرون الوسطى. كل هذه الأوصاف تُعتبر مهينة في الغرب «المتحضر».
هذه الحيلة البلاغية قد أوقعت بالفعل العديد من المثقفين في العالم، وسحبت حضارات تقليدية إلى «النظام العالمي الجديد»، إلى نموذج «العالم الحديث»، إلى الحداثة، ومن بعدها ما بعد الحداثة.
وما يلي ذلك أيضًا ليس سرًا، بل تم وصفه منذ وقت طويل من قبل منظّري الليبرالية والعولمة، وهو عبارة عن أنطولوجيا موجهة نحو الشيء، حيث لا يُنظر إلى الإنسان كذات (المفهوم الغربي في الحداثة)، بل كجسم شيء، مجموعة من الجزيئات والأنسجة، بلا روح أو نفس، ويتم التخلي عنها مع الله وتمزيق الشعوب والجماعات الإثنية كمجتمعات عضوية إلى كثرة ذرية ومن يتحكم في هذه الكثرة؟ أولًا، الحكومة العالمية، ثم الذكاء الاصطناعي أي الآلات.
هذا «المستقبل المشرق» يتم عرضه بوضوح في أعمال هوليوودية مثل «المدمر ” (The Terminator) الذي يصور نتائج انتفاضة الآلات؛ أو «اللاعب ” (The Gamer) حيث يتحكم الآخرون بالبشر كأشياء؛ أو «الماتريكس” (The Matrix)، حيث يصبح الإنسان في مستقبل ما بعد الليبرالية مجرد بطارية، يستهلك سائلاً مغذيًا، وكل «الواقع» الذي يعيش فيه من إنتاج شيفرة آلية. هذا هو «النظام العالمي الحديث» من وجهة نظر الليبراليين والغرب، وهذا هو ما يسحبون البشرية نحوه.
بالنسبة لشخص تقليدي، فهذا كابوس، أما من قبل بهذا النموذج، فيراه صورًا رائعة لمستقبل مشرق قادم نتيجة للتقدم الاجتماعي.
هل تريد التكنولوجيا؟ إذًا استعد لتصبح بطارية للآلات المتمردة، لكن هذا الكابوس ليس حتميًا، فالعالم متعدد الأقطاب يفترض وجود تعددية حضارية بدلًا من التوحيد الليبرالي.
فأن تبقى إنسانًا أمر أكثر طبيعية وأسهل بكثير من أن تصبح كائنًا بيوميكانيكيًا لا جنس له، فقط عليك أن تتوقف عن تصديق الأوهام الغربية، الليبرالية والعولمية، وأن تتوقف عن الوقوع في حِيَل الشيطان، وتعزل منظّريه في مصحّ عقلي.