مقابلات

مقابلة العدد : المفكر الجيوسياسي الروسي فاليري ميخائيلوفيتش كوروفين

مدير مركز الخبرة الجيوسياسية في موسكو، وأحد أبرز منظّري «الأوراسية الجديدة»

روسيا‭ ‬تقود‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭…‬

‭ ‬والغرب‭ ‬يخشى‭ ‬فقدان‭ ‬هيمنته

خاص‭ | ‬آسيا‭ ‬بوست‭ ‬

في‭ ‬ظل‭ ‬تسارع‭ ‬التحولات‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬التي‭ ‬تطرأ‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬وفي‭ ‬وقت‭ ‬يزداد‭ ‬فيه‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬وصعود‭ ‬قوى‭ ‬غير‭ ‬غربية‭ ‬تتحدى‭ ‬استفراد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والغرب‭ ‬بقيادة‭ ‬النظام‭ ‬العالمي،‭ ‬تبرز‭ ‬روسيا‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬كفاعل‭ ‬حضاري‭ ‬وسياسي‭ ‬يراهن‭ ‬على‭ ‬هندسة‭ ‬عالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭.‬

حول‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬الكبرى،‭ ‬والمواقف‭ ‬الروسية‭ ‬من‭ ‬التكتلات‭ ‬الدولية‭ ‬كـ»بريكس‮»‬،‭ ‬وتقييم‭ ‬دور‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬التقت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬آسيا‭ ‬بوست‮»‬‭ ‬المفكر‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬الروسي‭ ‬فاليري‭ ‬ميخائيلوفيتش‭ ‬كوروفين،‭ ‬مدير‭ ‬مركز‭ ‬الخبرة‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬في‭ ‬موسكو،‭ ‬وأحد‭ ‬أبرز‭ ‬منظّري‭ ‬‮«‬الأوراسية‭ ‬الجديدة‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬قراءة‭ ‬عميقة‭ ‬لحالة‭ ‬الصراع‭ ‬الكوني‭ ‬الجاري،‭ ‬بلغة‭ ‬صريحة،‭ ‬وأفق‭ ‬فكري‭ ‬فلسفي‭.‬

  ‬لطالما‭ ‬سعت‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مركزًا‭ ‬للدول‭ ‬المهمشة‭ ‬خارج‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الغربي‭. ‬هل‭ ‬أضعف‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬أم‭ ‬عززه؟

في‭ ‬عالم‭ ‬أحادي‭ ‬القطب،‭ ‬تُهمَّش‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعلن‭ ‬الولاء‭ ‬للغرب،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬تَشكُّل‭ ‬عالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬تحاول‭ ‬روسيا،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬مركزها‭ ‬الأوراسي،‭ ‬قيادة‭ ‬تكتل‭ ‬حضاري‭ ‬وثقافي‭ ‬يضم‭ ‬شعوبًا‭ ‬قريبة‭ ‬منها‭ ‬ذهنيًا‭ ‬واستراتيجيًا،‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬هذا‭ ‬التكتل،‭ ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬ساحة‭ ‬حرب،‭ ‬بل‭ ‬نقطة‭ ‬ارتكاز‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭.‬

الصراع‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬هو‭ ‬معركة‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬العالم‭ ‬المتعدد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬فإذا‭ ‬خسرت‭ ‬روسيا،‭ ‬تتوقف‭ ‬عملية‭ ‬التكامل‭ ‬الأوراسي،‭ ‬وإذا‭ ‬انتصرت،‭ ‬تعود‭ ‬لتكون‭ ‬مركزًا‭ ‬حضاريًا‭ ‬عالميًا‭ ‬مستقلًا‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثنائي‭ ‬القطب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قائمًا‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬1991،‭ ‬فكانت‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الكتلة‭ ‬الغربية‭ ‬أو‭ ‬السوفييتية‭ ‬مهمشة،‭ ‬وكانوا‭ ‬يُطلقون‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثالث‮»‬‭ (‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬الكتلة‭ ‬السوفييتية‭ ‬هي‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثاني‮»‬‭)‬،‭ ‬وأطلقوا‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬حركة‭ ‬عدم‭ ‬الانحياز‭”.‬

اليوم،‭ ‬بمبادرة‭ ‬من‭ ‬روسيا‭ ‬والصين،‭ ‬يجري‭ ‬بناء‭ ‬نموذج‭ ‬لعالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭ (‬عدة‭ ‬سياسات‭ ‬‭ ‬مراكز‭ ‬سياسية‭ ‬وحضارية‭) ‬كبديل‭ ‬للأحادية‭ ‬الغربيةـ‭ ‬يتشكل‭ ‬ائتلاف‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬وشعوب‭ ‬متقاربة‭ ‬حضاريًا‭ ‬حول‭ ‬كل‭ ‬قطب‭ ‬وحول‭ ‬روسيا،‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬القطب‭ ‬الأوراسي،‭ ‬يتكون‭ ‬تكتل‭ ‬حضاري‭ ‬أوراسي‭ ‬يضم‭ ‬دولًا‭ ‬قريبة‭ ‬ذهنيًا‭ ‬وحضاريًا‭ ‬من‭ ‬روسيا‭ ‬والروس،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬ضمن‭ ‬فضاء‭ ‬استراتيجي‭ ‬واحد‭ ‬مع‭ ‬روسيا‭ ‬لقرون‭. ‬

وتُعد‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬مهمشة‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬استنادًا‭ ‬إلى‭ ‬الغطرسة‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يُقسم‭ ‬الولاء‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬مهمش‭ ‬بنفس‭ ‬القدر،‭ ‬أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬لروسيا،‭ ‬فهذه‭ ‬الدول‭ ‬شعوب‭ ‬ودول‭ ‬قريبة‭ ‬ذهنيًا‭ ‬وثقافيًا‭.‬

ومن‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬يحاول‭ ‬خصوم‭ ‬تشكُّل‭ ‬التكتل‭ ‬الأوراسي‭ ‬إعاقة‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬عبر‭ ‬إضعاف‭ ‬روسيا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صراعات‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬على‭ ‬أطرافها،‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬تُعد‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬المكونات‭ ‬الأساسية‭ ‬للتكتل‭ ‬الحضاري‭ ‬الأوراسي،‭ ‬وبدونها،‭ ‬يُصبح‭ ‬هذا‭ ‬التكتل،‭ ‬كما‭ ‬كتب‭ ‬المفكر‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬الأمريكي‭ ‬زبيغنيو‭ ‬بريجينسكي‭ (‬من‭ ‬الجحيم‭)‬،‭ ‬آسيويًا‭ ‬بحتًا‭. ‬

ولهذا‭ ‬السبب،‭ ‬يحاول‭ ‬الغرب‭ ‬منذ‭ ‬قرن‭ ‬أن‭ ‬يفصل‭ ‬أوكرانيا‭ ‬عن‭ ‬روسيا،‭ ‬فهي‭ ‬مدخل‭ ‬أوروبا،‭ ‬وكانت،‭ ‬بوضعها‭ ‬الحيادي‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬السلاح‭ ‬النووي‭ ‬وغير‭ ‬المنحاز،‭ ‬منطقة‭ ‬عازلة‭ ‬تمنع‭ ‬وقوع‭ ‬صدام‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬وروسيا،‭ ‬لكن‭ ‬الغرب‭ ‬اجتاح‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬المحايدة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬واستولى‭ ‬عليها‭ ‬تحت‭ ‬سيطرته‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬حتمًا‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬وروسيا‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬السابقة‭. ‬

الآن،‭ ‬نتيجة‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬ستحدد‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬روسيا‭ ‬ستستعيد‭ ‬مكانتها‭ ‬كقوة‭ ‬أوراسية،‭ ‬وتصبح‭ ‬مركزًا‭ ‬لتشكيل‭ ‬القطب‭ ‬الحضاري‭ ‬الأوراسي،‭ ‬أم‭ ‬ستفقدها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيوقف‭ ‬عمليات‭ ‬التكامل‭ ‬الأوراسي،‭ ‬وفي‭ ‬الواقع،‭ ‬مصير‭ ‬التعددية‭ ‬القطبية‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬نتيجة‭ ‬المعركة‭ ‬بين‭ ‬روسيا‭ ‬والغرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭.‬

  ‬تمثل‭ ‬منظمة‭ ‬بريكس‭ ‬أملًا‭ ‬للكثيرين‭ ‬خارج‭ ‬العالم‭ ‬الغربي،‭ ‬إذ‭ ‬تقدم‭ ‬بديلاً‭ ‬للهيمنة‭ ‬الغربية‭. ‬ما‭ ‬مدى‭ ‬واقعية‭ ‬هذا‭ ‬الأمل؟‭ ‬وهل‭ ‬يمكنها‭ ‬بالفعل‭ ‬كسر‭ ‬الأحادية‭ ‬الغربية؟

بريكس‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬تكتلًا‭ ‬اقتصاديًا،‭ ‬بل‭ ‬إعلانًا‭ ‬واضحًا‭ ‬عن‭ ‬رفض‭ ‬الأحادية‭ ‬الغربية‭ ‬وقيام‭ ‬عالم‭ ‬متعدد‭ ‬المراكز،‭ ‬لكن‭ ‬نجاحها‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬تشكّل‭ ‬كتل‭ ‬حضارية‭ ‬قوية‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬أوراسيا،‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وبهارات،‭ ‬والعائق‭ ‬الأكبر‭ ‬هو‭ ‬العولميون‭ ‬الليبراليون‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬الذين‭ ‬يخوضون‭ ‬معركة‭ ‬وجودية‭ ‬ضد‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭.‬

ويمكننا‭ ‬أيضًا‭ ‬إضافة‭ ‬التكتل‭ ‬الحضاري‭ ‬الإسلامي‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬له‭ ‬قائد‭ ‬واضح‭ ‬بعد،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬التكتل‭ ‬الأمريكي‭ ‬الشمالي،‭ ‬الذي‭ ‬أعلن‭ ‬عن‭ ‬تشكيله‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬بدعوته‭ ‬كندا‭ ‬والمكسيك‭ ‬للانضمام‭ ‬إليه‭.‬

يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬النموذج‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬الذي‭ ‬تقف‭ ‬بريكس‭ ‬في‭ ‬طليعته،‭ ‬يتشكل‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا،‭ ‬والأمل‭ ‬في‭ ‬تشكيله‭ ‬النهائي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬غالبية‭ ‬البشرية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تهميش‭ ‬الليبراليين‭ ‬العولميين‭ ‬الغربيين،‭ ‬الذين‭ ‬يشكلون‭ ‬أقلية‭ ‬من‭ ‬الأقليات‭ ‬حتى‭ ‬داخل‭ ‬الغرب،‭ ‬والذين‭ ‬دخلوا‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬التراجع‭ ‬مع‭ ‬ترامب‭ ‬وإدارته‭.‬

والليبراليين‭-‬العولميين‭ ‬الأمريكيين‭ ‬وشركاءهم‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬الذين‭ ‬يمثلهم‭ ‬قادة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬الحاليين،‭ ‬هم‭ ‬الخصوم‭ ‬الرئيسيون‭ ‬للتعددية‭ ‬القطبية،‭ ‬ويعملون‭ ‬بشراسة‭ ‬على‭ ‬إفساد‭ ‬جهود‭ ‬قادة‭ ‬بريكس‭ ‬وغالبية‭ ‬البشرية‭ ‬أي‭ ‬سبعة‭ ‬مليارات‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬ثمانية‭ ‬لا‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭ ‬الحضاري‭.‬

يضمن‭ ‬نجاح‭ ‬جهود‭ ‬العولميين‭ ‬الإيمان‭ ‬بالقيم‭ ‬الغربية،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬قويًا‭ ‬حتى‭ ‬خارج‭ ‬العالم‭ ‬الغربي،‭ ‬وبمجرد‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬البشرية‭ ‬مدى‭ ‬تدميرية،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬شيطانية،‭ ‬جوهر‭ ‬القيم‭ ‬الغربية،‭ ‬سيتحول‭ ‬حاملو‭ ‬أفكار‭ ‬العولمة‭ ‬والليبرالية‭ ‬إلى‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬المجانين‭ ‬المهووسين‭ ‬الذين‭ ‬يمكن‭ ‬عزلهم‭ ‬في‭ ‬مصحات‭ ‬عقلية‭.‬

أما‭ ‬باقي‭ ‬البشرية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تستفيق‭ ‬بفضل‭ ‬جهود‭ ‬ترامب،‭ ‬فسوف‭ ‬تتنفس‭ ‬الصعداء،‭ ‬وستصبح‭ ‬مبادرات‭ ‬بريكس‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬العالم‭ ‬العادل‭ ‬المتعدد‭ ‬الأقطاب‭ ‬أمرًا‭ ‬واقعًا‭.‬

  ‬استخدم‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬في‭ ‬خطاباته،‭ ‬كيف‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم؟‭ ‬وكيف‭ ‬يرتبط‭ ‬دورها‭ ‬بأهداف‭ ‬بريكس؟

مصطلح‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬واضحًا‭ ‬تمامًا،‭ ‬وأنا‭ ‬شخصيًا‭ ‬لا‭ ‬أستخدمه‭ ‬إطلاقًا،‭ ‬لأنه‭ ‬مصطلح‭ ‬غربي‭ ‬النشأة‭ ‬والتصور‭ ‬يطمس‭ ‬النماذج‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬الدقيقة،‭ ‬وهو‭ ‬محاولة‭ ‬غربية‭ ‬أخرى‭ ‬لتصنيف‭ ‬العالم‭ ‬وفق‭ ‬مركز‭ ‬وهامش،‭ ‬حضارة‭ ‬وهمجية‭. ‬روسيا‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭ ‬ولا‭ ‬الشمال،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مركز‭ ‬حضاري‭ ‬مستقل‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬أوراسيا‭.‬

وفي‭ ‬الواقع‭ ‬حل‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬محل‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثالث‮»‬‭ ‬الأكثر‭ ‬إساءة،‭ ‬والذي‭ ‬تطور‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬العالم‭ ‬ثنائي‭ ‬القطب،‭ ‬ولكن‭ ‬آنذاك‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬أيضًا‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثاني‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أيضًا‭ ‬تعريف‭ ‬مهين‭ ‬للغاية‭ ‬أطلقه‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬الكتلة‭ ‬السوفييتية‭.‬

سابقًا،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المصطلحات‭ ‬تدّعي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الأول‮»‬‭ ‬‭ ‬وهو‭ ‬الغرب‭ ‬الحضاري‭ (‬وليس‭ ‬الجغرافي‭) ‬وكل‭ ‬من‭ ‬أقسم‭ ‬له‭ ‬بالولاء؛‭ ‬يصفه‭ ‬جون‭ ‬هوبسون‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬حضارة‮»‬،‭ ‬ويصفه‭ ‬إيمانويل‭ ‬والرشتاين‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬المركز‮»‬‭. ‬

وهناك‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثاني‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬ليس‭ ‬الغرب‭ ‬ولكنه‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬سعي‭ ‬للحاق‭ ‬به،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يتخلف‭ ‬عنه‭ ‬دائمًا،‭ ‬ولكن‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬تقييمات‭ ‬الغرب‭ ‬ذاته،‭ ‬ووفقًا‭ ‬لهوبسون،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثاني‮»‬‭ ‬هم‭ ‬البرابرة؛‭ ‬ووفقًا‭ ‬لوالرشتاين،‭ ‬فهم‭ ‬‮«‬شبه‭ ‬الأطراف‮»‬‭. ‬الكتلة‭ ‬السوفييتية،‭ ‬التي‭ ‬صنفها‭ ‬الغرب‭ ‬ضمن‭ ‬العالم‭ ‬الثاني،‭ ‬كانت‭ ‬مثل‭ ‬الغرب،‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬النموذج‭ ‬الحداثي،‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التقدّمية‭ (‬الإيمان‭ ‬بالتقدّم،‭ ‬وخاصة‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬والذي‭ ‬يُعتبر‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬التقليد‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الشيطنة‭)‬،‭ ‬والوضعية،‭ ‬والمادية،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬كانت‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حضارة‮»‬‭ ‬الغرب،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬وجودها‭ ‬خارج‭ ‬الغرب،‭ ‬وبالتالي‭ ‬بقيت‭ ‬بربرية‭ ‬دائمًا‭.‬

أما‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬ينووا‭ ‬مطاردة‭ ‬الغرب‭ ‬أو‭ ‬قبول‭ ‬نماذجه‭ ‬الفكرية،‭ ‬فقد‭ ‬أعلنهم‭ ‬الغرب‭ ‬بأنهم‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثالث‮»‬،‭ ‬في‭ ‬مصطلحات‭ ‬هوبسون‭ ‬‮«‬متوحشون‮»‬؛‭ ‬وفي‭ ‬مصطلحات‭ ‬والرشتاين‭ ‬‮«‬الأطراف‮»‬،‭ ‬وعندما‭ ‬قامت‭ ‬الكتلة‭ ‬السوفييتية‭ ‬بتفكيك‭ ‬نفسها،‭ ‬بدا‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬الثاني‭ ‬قد‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المعادلة‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬تم‭ ‬استبدال‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬بمصطلح‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يتبق‭ ‬سوى‭ ‬عالمين‭ ‬الأول،‭ ‬وفقًا‭ ‬للعولميين؛‭ ‬والثاني،‭ ‬وفقًا‭ ‬لخصومهم‭ ‬الذين‭ ‬أعلنوا‭ ‬أنه‭ ‬يوجد‭ ‬الآن‭ ‬‮«‬الشمال‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬الغرب‭ ‬الحضاري‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الغرب،‭ ‬أي‭ ‬بقية‭ ‬البشرية‭ ‬غير‭ ‬الغربية‭.‬

‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬شائعًا‭ ‬جدًا‭ ‬لدى‭ ‬الصين،‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬‮«‬المتوحشين‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬المحترم،‭ ‬وإذا‭ ‬قمنا‭ ‬بقياسه‭ ‬بالمؤشرات‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬كما‭ ‬يُصر‭ ‬الغرب،‭ ‬فهي‭ ‬عمومًا‭ ‬أصبحت‭ ‬قائدة‭ ‬لهذا‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‭”.‬

لماذا‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬معيب؟‭ ‬لأنه‭ ‬يدمر‭ ‬النموذج‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬المتناغم‭ ‬الذي‭ ‬يقسم‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬نوعين‭ ‬من‭ ‬الحضارات‭  ‬حضارة‭ ‬بحرية‭ ‬وأخرى‭ ‬برية،‭ ‬وأيضًا‭ ‬لأنه‭ ‬يضع‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬غير‭ ‬محدد،‭ ‬فهي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬منطقة‭ ‬أوراسيا‭  ‬أساس‭ ‬الحضارة‭ ‬الأوراسية‭ ‬أحد‭ ‬المحاور‭ ‬الأساسية‭ ‬لعالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭. ‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثاني‮»‬،‭ ‬بدت‭ ‬روسيا‭ ‬عالقة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الشمال‭ ‬العالمي‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬جرّها‭ ‬الليبراليون‭ ‬العولميون‭ ‬في‭ ‬التسعينيات،‭ ‬و‮»‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬تسجلها‭ ‬الصين،‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬نفسها‭ ‬قائدة‭ (‬اقتصاديًا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭) ‬لهذا‭ ‬التجمع‭ ‬البديل‭ ‬للغرب‭. ‬

في‭ ‬مصطلحات‭ ‬هوبسون،‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬‮«‬متوحشي‮»‬‭ ‬روسيا‭ ‬أن‭ ‬يصبحوا‭ ‬إما‭ ‬‮«‬حضارة‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬الولاء‭ ‬للغرب‭ ‬أو‭ ‬‮«‬متوحشين‮»‬‭ ‬بهبوطهم‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬مصطلحات‭ ‬والرشتاين،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬شبه‭ ‬الأطراف‮»‬‭ ‬ذابت‭ ‬جزئيًا‭ ‬في‭ ‬‮«‬المركز‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬الشمال‭ ‬العالمي‮»‬‭ (‬أي‭ ‬أن‭ ‬أوكرانيا‭ ‬خُسرت‭ ‬أمام‭ ‬روسيا،‭ ‬وفقًا‭ ‬لرؤية‭ ‬العولميين‭) ‬وجزئيًا‭ ‬في‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‭”.‬

إذا‭ ‬أصبحت‭ ‬روسيا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ (‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يبدو‭ ‬منطقيًا،‭ ‬لأن‭ ‬روسيا‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬الغرب‭)‬،‭ ‬فستكون‭ ‬بذلك‭ ‬تحت‭ ‬وصاية‭ ‬الصين‭ (‬اقتصاديًا‭)‬،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كذلك،‭ ‬فمرحبًا‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وهذا‭ ‬يتناقض‭ ‬تمامًا‭ ‬مع‭ ‬الرؤية‭ ‬الأوراسية،‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬ليست‭ ‬شرقًا‭ ‬ولا‭ ‬غربًا،‭ ‬بل‭ ‬حضارة‭ ‬مستقلة‭ ‬وخاصة،‭ ‬دمجت‭ ‬أفضل‭ ‬سمات‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭.‬

وينطبق‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬منظمة‭ ‬بريكس‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬بديلاً‭ ‬تعددي‭ ‬الأقطاب‭ ‬للغرب‭ ‬الأحادي،‭ ‬بل‭ ‬مجرد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المتوحشين‭ ‬والبرابرة‭ ‬من‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثالث‮»‬‭ ‬يتحدّون‭ ‬الحضارة،‭ ‬وهي‭ ‬صورة‭ ‬مثيرة‭ ‬للشفقة‭ ‬وواضحة‭ ‬العيب،‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬وصفنا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬بالمصطلحات‭ ‬المتغطرسة‭ ‬الغربية‭.‬

في‭ ‬الواقع،‭ ‬الغرب‭ ‬يفرض‭ ‬علينا‭ ‬مجددًا‭ ‬نموذجًا‭ ‬مشوهًا‭ ‬ومختلًا،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬يتصرف،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معتاد،‭ ‬ضمن‭ ‬إطار‭ ‬مفاهيم‭ ‬جيوسياسية‭ ‬منسجمة،‭ ‬ولهذا،‭ ‬فإننا‭ ‬نتخبط،‭ ‬ونتوه‭ ‬في‭ ‬الظلام،‭ ‬ونرتكب‭ ‬الأخطاء؛‭ ‬أما‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يفكرون‭ ‬استراتيجيًا‭ ‬ضمن‭ ‬نموذج‭ ‬جيوسياسي‭ ‬منسجم‭ ‬فيتصرفون‭ ‬بوضوح‭ ‬وثبات،‭ ‬فقط‭ ‬يفركون‭ ‬أيديهم‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬ارتباكنا؛‭ ‬وهذه‭ ‬نتيجة‭ ‬للارتباك‭ ‬المصطلحي‭ ‬والانقسام‭ ‬المفاهيمي‭.‬

  ‬كيف‭ ‬تقيّم‭ ‬تأثير‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬على‭ ‬السياسة‭ ‬العالمية؟‭ ‬هل‭ ‬سيؤدي‭ ‬قيادته‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬أكثر‭ ‬استقرارًا‭ ‬أم‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬هل‭ ‬يقود‭ ‬نحو‭ ‬استقرار‭ ‬أو‭ ‬فوضى؟

رغم‭ ‬كل‭ ‬تصريحاته‭ ‬المتناقضة‭ ‬وتقلّباته‭ ‬كرجل‭ ‬سياسة‭ ‬ناشئ،‭ ‬يمكننا‭ ‬تحديد‭ ‬ملامح‭ ‬رئيسية‭ ‬لترامب،‭ ‬فهو‭ ‬ضد‭ ‬العولميين‭ ‬والعولمة،‭ ‬وكذلك‭ ‬ضد‭ ‬الليبرالية‭ ‬بصفتها‭ ‬هذه،‭ ‬ومن‭ ‬أنصار‭ ‬إنشاء‭ ‬قطب‭ ‬حضاري‭ ‬أمريكي‭ ‬داخل‭ ‬عالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬لأنه‭ ‬ضد‭ ‬الأحادية‭ ‬القطبية‭.‬

ترامب‭ ‬ضد‭ ‬العولمة‭ ‬والليبرالية،‭ ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬يرفض‭ ‬العالم،‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬يريد‭ ‬لأمريكا‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬قطبًا‭ ‬حضاريًا‭ ‬مستقلًا،‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬أمريكا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقود‭ ‬العالم،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شريكًا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬والعولمة‭ ‬لا‭ ‬تناسب‭ ‬ترامب‭ ‬‭ ‬الوطني‭ ‬الأمريكي‭ ‬‭ ‬لأنها‭ ‬دائمًا‭ ‬ما‭ ‬تُطبّق‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وهذا‭ ‬منطقي،‭ ‬لأن‭ ‬أمريكا‭ ‬كانت‭ ‬المبادِرة‭ ‬للعولمة‭ ‬لسنوات‭ ‬عديدة‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬المرجعي،‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬ترامب‭ ‬أوروبا‭ ‬امتدادًا‭ ‬لجهود‭ ‬العولمة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬ولا‭ ‬كمستعمرة‭ ‬أمريكية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يراها‭ ‬العولميون،‭ ‬بل‭ ‬كقطب‭ ‬حضاري‭ ‬مستقل،‭ ‬وتظهر‭ ‬روسيا‭ ‬والصين‭ ‬كقطب‭ ‬مماثل‭. ‬

لكن‭ ‬إذا‭ ‬أصرت‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬قطبًا‭ ‬لمنطقة‭ ‬آسيا‭-‬المحيط‭ ‬الهادئ‭ ‬‭ ‬أحد‭ ‬أقطاب‭ ‬العالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭ ‬‭ ‬بل‭ ‬قائدة‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬تختلط‭ ‬جميع‭ ‬الحضارات‭ ‬غير‭ ‬الغربية،‭ ‬فإنها‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬تصبح‭ ‬مبادِرة‭ ‬لاستمرار‭ ‬العولمة،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬غير‭ ‬الغربي،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬جهود‭ ‬ترامب‭ ‬المناهضة‭ ‬للعولمة‭. ‬

بينما‭ ‬هو،‭ ‬بتصريحاته‭ ‬حول‭ ‬دعوة‭ ‬كندا‭ ‬والمكسيك‭ ‬إلى‭ ‬الكتلة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬يؤكد‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬قطب‭ ‬حضاري‭ ‬أمريكي،‭ ‬كأحد‭ ‬أقطاب‭ ‬العالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭ ‬الناشئ،‭ ‬وهذه‭ ‬خطورة‭ ‬أخرى‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‭”.‬

  ‬يجادل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬الأمريكيين‭ ‬بأن‭ ‬سياسة‭ ‬ترامب‭ ‬ستضرّ‭ ‬بشكل‭ ‬خطير‭ ‬بالدور‭ ‬والمكانة‭ ‬العالمية‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وتعزز‭ ‬صعود‭ ‬الصين،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬رأيك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسألة؟‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ»الصعود‭ ‬الصيني‮»‬‭ ‬هو‭ ‬واقع‭ ‬موضوعي،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬مجرد‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الدعاية‭ ‬الأمريكية‭ ‬والحرب‭ ‬النفسية؟

مما‭ ‬سبق‭ ‬يتضح‭ ‬بالفعل‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تروج‭ ‬له‭ ‬الصين‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬أفكار‭ ‬ترامب،‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬كان‭ ‬ردًّا‭ ‬على‭ ‬جهود‭ ‬العولميين‭ ‬الغربيين‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬عالم‭ ‬أحادي‭ ‬القطب‭ ‬تحت‭ ‬قيادة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬وصول‭ ‬ترامب،‭ ‬يفقد‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬زخمه‭.‬

وعمومًا،‭ ‬فإنه‭ ‬يخلط‭ ‬الأوراق‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمعادين‭ ‬للعولمة،‭ ‬والتقليديين،‭ ‬وأنصار‭ ‬التعددية‭ ‬القطبية‭. ‬هنا‭ ‬سيكون‭ ‬من‭ ‬الأنسب‭ ‬الانطلاق‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الصارمة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬أيضًا‭ ‬الموقف‭ ‬العدائي‭ ‬لترامب‭ ‬تجاه‭ ‬الصين‭. ‬يتبين‭ ‬أنه‭ ‬يعيد‭ ‬توجيه‭ ‬العالم‭ ‬نحو‭ ‬التعددية‭ ‬القطبية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الصين‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬نموذج‭ ‬الجنوب‭ ‬العالمي‭ ‬العولمي‭ ‬ضد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وهذا‭ ‬يخلق‭ ‬لها‭ ‬ميزة‭ ‬تنافسية‭ ‬تثير‭ ‬قلق‭ ‬ترامب‭. ‬

كان‭ ‬سيفهم‭ ‬بشكل‭ ‬أوضح‭ ‬رغبة‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬توحيد‭ ‬منطقة‭ ‬آسيا‭ ‬والمحيط‭ ‬الهادئ‭ ‬حولها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬توحيد‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬ضد‭ ‬الغرب،‭ ‬الذين‭ ‬يجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬ضعيف‭ ‬إذا‭ ‬تخلوا‭ ‬عن‭ ‬المشروع‭ ‬العولمي‭.‬

جهود‭ ‬ترامب‭ ‬المناهضة‭ ‬للعولمة‭ ‬أدت‭ ‬بالفعل‭ ‬إلى‭ ‬توترات‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وأوروبا،‭ ‬ومحاولات‭ ‬إنشاء‭ ‬قطب‭ ‬حضاري‭ ‬أمريكي‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وكندا،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬الصين‭ ‬تسعى‭ ‬لتوحيد‭ ‬الجنوب‭ ‬العالمي،‭ ‬وعندئذ،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬أمام‭ ‬ترامب‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يعلن‭ ‬مجددًا‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬توحيد‭ ‬الغرب،‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬ضد‭ ‬‮«‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬الصيني،‭ ‬مما‭ ‬ينذر‭ ‬بتفاقم‭ ‬الأوضاع‭.‬

جهود‭ ‬ترامب‭ ‬المناهضة‭ ‬للعولمة‭ ‬تضر‭ ‬بالعولمة‭ ‬والليبراليين،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬وكلاؤهم‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬ومشروع‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬الكوني‭ ‬ذاته،‭ ‬وليس‭ ‬بأمريكا،‭ ‬ففي‭ ‬عالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬ستتعزز‭ ‬مكانة‭ ‬أمريكا‭ ‬كشريك‭ ‬متساوٍ،‭ ‬وستحظى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬نفسها‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬والكراهية،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬مخاوف‭ ‬المثقفين‭ ‬الأمريكيين‭ ‬تعود‭ ‬بالأساس‭ ‬إلى‭ ‬التغير‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬المسار‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اعتادوا‭ ‬لعقود‭ ‬طويلة‭ ‬على‭ ‬المبادرات‭ ‬العولمية‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للصين،‭ ‬فهي‭ ‬تشهد‭ ‬فعلًا‭ ‬نهوضًا،‭ ‬ولكن‭ ‬اقتصاديًا‭ ‬فقط،‭ ‬وأي‭ ‬محاولة‭ ‬للمطالبة‭ ‬بأي‭ ‬هيمنة‭ ‬عالمية‭ ‬ستنتهي‭ ‬طبيعيًا‭ ‬بالفشل،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬لجميع‭ ‬الحضارات‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأزمنة،‭ ‬حتى‭ ‬المطالبة‭ ‬بالهيمنة‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ‮»‬الجنوب‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬سيكون‭ ‬لها‭ ‬تكاليف‭ ‬كبيرة،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬تم‭ ‬تنفيذها‭ ‬خلافًا‭ ‬لنماذج‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬الكلاسيكية‭.‬

  ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الحديث،‭ ‬كما‭ ‬يُطلق‭ ‬عليه،‭ ‬يتعرض‭ ‬لانتقادات‭ ‬متكررة‭ ‬من‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬وزعماء‭ ‬العالم،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬الرئيس‭ ‬بوتين،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬برأيك‭ ‬الشكل‭ ‬المثالي‭ ‬للنظام‭ ‬العالمي؟

النظام‭ ‬المثالي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تعدديًا،‭ ‬فالعالم‭ ‬الحديث‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬لتكوّن‭ ‬النموذج‭ ‬الحداثي،‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ‮»‬العصر‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬وفرضه‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬البشرية،‭ ‬والحداثة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم،‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬نفي‭ ‬التقاليد‭. ‬وكنتيجة‭ ‬لذلك،‭ ‬يتم‭ ‬استبدال‭ ‬فئة‭ ‬الأبدية‭ ‬بالزمن،‭ ‬ويُخرج‭ ‬الله‭ ‬أولًا‭ ‬‮«‬من‭ ‬بين‭ ‬الأقواس‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يتم‭ ‬التشكيك‭ ‬فيه،‭ ‬ثم‭ ‬يتم‭ ‬التخلص‭ ‬منه‭ ‬تمامًا‭ (‬كما‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬الأوروبية‭ ‬الحديثة‭ ‬بأكملها‭)‬‭.‬

وبالتالي،‭ ‬يتم‭ ‬تفكيك‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التقاليد،‭ ‬وكل‭ ‬النظام‭ ‬التقليدي‭ ‬المبني‭ ‬على‭ ‬الحضور‭ ‬الإلهي،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يحدث‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬رؤوس‭ ‬المفكرين‭ ‬الغربيين،‭ ‬أما‭ ‬بقية‭ ‬العالم،‭ ‬بقية‭ ‬البشرية،‭ ‬فلا‭ ‬تزال‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬التقاليد‭ ‬والدين،‭ ‬وتبني‭ ‬حياتها‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬الروحية‭ ‬والحضور‭ ‬الإلهي‭. ‬

ليس‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬المتأثر‭ ‬قليلًا‭ ‬بأفكار‭ ‬الحداثة،‭ ‬ففي‭ ‬بعض‭ ‬الأماكن‭ ‬أكثر،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثاني‮»‬‭ ‬في‭ ‬الحقبة‭ ‬السوفيتية‭ ‬ذات‭ ‬القطبين،‭ ‬وفي‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭ ‬أقل،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الثالث‮»‬‭. ‬

يصف‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الروسي‭ ‬ألكسندر‭ ‬دوغين‭ ‬هذا‭ ‬التراكب‭ ‬السطحي‭ ‬لبعض‭ ‬أفكار‭ ‬ومفاهيم‭ ‬الحداثة‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬التقليدي‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الحداثة‭ ‬بمفهوم‭ ‬‮«‬الحداثة‭ ‬الأثرية‮»‬،‭ ‬ويصفها‭ ‬بأنها‭ ‬حالة‭ ‬مؤلمة‭ ‬للغاية،‭ ‬وغير‭ ‬طبيعية،‭ ‬وغير‭ ‬مستقرة،‭ ‬وفصامية‭.‬

الحيلة‭ ‬الرئيسية‭ ‬للغرب‭ ‬في‭ ‬غزو‭ ‬العقول‭ ‬خارج‭ ‬العالم‭ ‬الغربي،‭ ‬هي‭ ‬ربط‭ ‬‮«‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬والتقني‮»‬‭ ‬بـ‮»‬التقدم‭ ‬الاجتماعي‮»‬،‭ ‬وبمعنى‭ ‬آخر‭: ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬تريد‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬فعليك‭ ‬بموكب‭ ‬الفخر‭ ‬للمثليين،‭ ‬ومن‭ ‬يرفض‭ ‬قيم‭ ‬المثلية‭ ‬هو‭ ‬‮«‬همجي‭ ‬متخلف‮»‬‭ ‬و‮»‬ظلامي‮»‬‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬كهف‭ ‬بنظام‭ ‬بدائي‭ ‬من‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأوصاف‭ ‬تُعتبر‭ ‬مهينة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬‮«‬المتحضر‮»‬‭. ‬

هذه‭ ‬الحيلة‭ ‬البلاغية‭ ‬قد‭ ‬أوقعت‭ ‬بالفعل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وسحبت‭ ‬حضارات‭ ‬تقليدية‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬نموذج‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الحديث‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة،‭ ‬ومن‭ ‬بعدها‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭.‬

وما‭ ‬يلي‭ ‬ذلك‭ ‬أيضًا‭ ‬ليس‭ ‬سرًا،‭ ‬بل‭ ‬تم‭ ‬وصفه‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬منظّري‭ ‬الليبرالية‭ ‬والعولمة،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أنطولوجيا‭ ‬موجهة‭ ‬نحو‭ ‬الشيء،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬كذات‭ (‬المفهوم‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬الحداثة‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬كجسم‭ ‬شيء،‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الجزيئات‭ ‬والأنسجة،‭ ‬بلا‭ ‬روح‭ ‬أو‭ ‬نفس،‭ ‬ويتم‭ ‬التخلي‭ ‬عنها‭ ‬مع‭ ‬الله‭ ‬وتمزيق‭ ‬الشعوب‭ ‬والجماعات‭ ‬الإثنية‭ ‬كمجتمعات‭ ‬عضوية‭ ‬إلى‭ ‬كثرة‭ ‬ذرية‭ ‬ومن‭ ‬يتحكم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكثرة؟‭ ‬أولًا،‭ ‬الحكومة‭ ‬العالمية،‭ ‬ثم‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬أي‭ ‬الآلات‭.‬

هذا‭ ‬‮«‬المستقبل‭ ‬المشرق‮»‬‭ ‬يتم‭ ‬عرضه‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬هوليوودية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬المدمر‭ ” (‬The Terminator‭) ‬الذي‭ ‬يصور‭ ‬نتائج‭ ‬انتفاضة‭ ‬الآلات؛‭ ‬أو‭ ‬‮«‬اللاعب‭ ” (‬The Gamer‭) ‬حيث‭ ‬يتحكم‭ ‬الآخرون‭ ‬بالبشر‭ ‬كأشياء؛‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الماتريكس‭” (‬The Matrix)،‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬مستقبل‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الليبرالية‭ ‬مجرد‭ ‬بطارية،‭ ‬يستهلك‭ ‬سائلاً‭ ‬مغذيًا،‭ ‬وكل‭ ‬‮«‬الواقع‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬شيفرة‭ ‬آلية‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬‮«‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الحديث‮»‬‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬الليبراليين‭ ‬والغرب،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يسحبون‭ ‬البشرية‭ ‬نحوه‭.‬

بالنسبة‭ ‬لشخص‭ ‬تقليدي،‭ ‬فهذا‭ ‬كابوس،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بهذا‭ ‬النموذج،‭ ‬فيراه‭ ‬صورًا‭ ‬رائعة‭ ‬لمستقبل‭ ‬مشرق‭ ‬قادم‭ ‬نتيجة‭ ‬للتقدم‭ ‬الاجتماعي‭. ‬

هل‭ ‬تريد‭ ‬التكنولوجيا؟‭ ‬إذًا‭ ‬استعد‭ ‬لتصبح‭ ‬بطارية‭ ‬للآلات‭ ‬المتمردة،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الكابوس‭ ‬ليس‭ ‬حتميًا،‭ ‬فالعالم‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭ ‬يفترض‭ ‬وجود‭ ‬تعددية‭ ‬حضارية‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬التوحيد‭ ‬الليبرالي‭.‬

فأن‭ ‬تبقى‭ ‬إنسانًا‭ ‬أمر‭ ‬أكثر‭ ‬طبيعية‭ ‬وأسهل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬كائنًا‭ ‬بيوميكانيكيًا‭ ‬لا‭ ‬جنس‭ ‬له،‭ ‬فقط‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬تصديق‭ ‬الأوهام‭ ‬الغربية،‭ ‬الليبرالية‭ ‬والعولمية،‭ ‬وأن‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬حِيَل‭ ‬الشيطان،‭ ‬وتعزل‭ ‬منظّريه‭ ‬في‭ ‬مصحّ‭ ‬عقلي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى