
خلافات بينية وتحديات عالمية أفرزتها قمة مجموعة العشريــن بإندونيسيا
عبدالحافظ الصاوي - مدير مركز المسار للدراسات الإنسانية
نسبةٌ كبيرةٌ من النَّاتج المحلي العالمي تحقِّقها دولُ مجموعة العشرين، التي انطلقت في نهايةِ التسعينيات من القرن الماضي، ولَمع نجمها بعد الأزمةِ المالية العالمية في عام 2008م، حيث حَوَت أجندتُها على مدار اجتماعاتها بعد عام 2008م على القضايا الاقتصادية المُهمة عالميًّا.
وبلغ الناتج المحليُّ الإجماليُّ (96.1) تريليون دولارٍ في عام 2021م، حسب أرقام قاعدةِ بياناتِ البنك الدوليّ، وتساهم دولُ مجموعةِ العشرين بنسبةٍ تتراوح بين (75% – 77%) من الناتج المحليِّ الإجماليّ.
وتأتي الولاياتُ المتَّحدة الأمريكيَّة على قِمة دول العالم من حيث نصيبها من الناتجِ المحليِّ العالميّ، حيث حققت ناتجًا بقيمةِ (22.9) تريليون دولار، تليها الصين بناتجٍ محليٍّ قيمته (17.7) تريليون دولار.
أما إندونيسيا التي عقدت على أراضيها قمَّة قادةِ مجموعةِ العشرين، فإنَّها تحتلُّ المرتبةَ الـ 16 من بين دولِ المجموعة، بناتجٍ محليٍّ إجمالي قيمته (1.18) تريليون دولارٍ في عام 2021م، ولديها صادراتٌ سِلعيةٌ بقيمة 230 مليار دولار تقريبًا، ووارداتٌ سلعيةٌ بقيمة 196 مليار دولار، وهو ما يعني أنَّ الميزانَ التجاري لإندونيسيا يحقق فائضًا بنحو 34 مليار دولار تقريبًا.
واللَّافتُ للنظر في أداء الصَّادراتِ السِّلعيةِ لإندونيسيا أنها تحقق قرابةَ (7.5) مليار دولارٍ من جراء صادراتِ التكنولوجيا المتقدمة، وتُعتبر إندونيسيا أحد الدُّول التي اتَّجهت إليها الشركاتُ الأمريكيةُ لتكون بديلًا عن الصين، بعد الحربِ التجاريةِ التي اندلعت بين أمريكا والصين منذ عام 2018م، إبّان ولايةِ «ترامب» للرئاسةِ الأمريكيَّة.
وإن كانت استراتيجيةُ استغناء الشَّركات الأمريكية عن الصين خلال الفترةِ القادمة، لن تكون قاصرةً على التَّوجه لمزيدٍ من التعاون في التَّصنيع مع إندونيسيا فقط، ولكن سيشملُ ذلك العديدَ من الدولِ الآسيوية، وهو ما سيحقق لأمريكا أمرَين مهمَّين: أولهما توطيدُ التواجد الأمريكي لدى دول آسيا عبرَ المصالِح الاقتصادية، والآخر العمل على محاصرةِ تمدد الصين في مُحيطها الآسيوي، وسيُمثِّل ذلك التحول ميزةً اقتصاديةً وسياسيةً للدول الآسيويةِ المُختارة.
الدبلوماسية تطغى على البيان الختامي
انتهت اجتماعاتُ قِمة قادة مجموعة العشرين في إندونيسيا على غير المتوقَّع، حيث أمكنَ الوصول إلى بيانٍ ختاميٍّ، كان يتخوَّف من ألّا تصِلَ إليه القمة التي شهدتها مدينةُ (بالي) في إندونيسيا، خلال يومَي 15-16/نوفمبر 2022م.
وقد أتت هذه المَخاوِف من خلال ما انتهت إليه الأعمالُ التَّحضيريةُ التي عُقِدت على مدار الفترةِ من فبراير وحتى يوليو/ 2022م، حيث خرج اجتماعُ وزراءِ الخارجية لدول المجموعة في يوليو/ 2022م، دونَ الوصول لاتفاقٍ لإصدار بيانٍ ختامي، أو أبسط البرتوكولات، حيث تعذَّرَ التقاط صورةٍ جماعيةٍ للمشاركين في اجتماعاتِ وزراء الخارجيةِ للمجموعة.
إلا أنَّ البيانَ الختاميَّ لقادة المجموعة توصَّل إلى عدةِ محاور تُمثِّل محلَّ اتفاقٍ من قِبَل المشاركين، وبقيت نقطةُ الخِلاف بشأن الإدانةِ الجماعية للحرب على أوكرانيا، أو حتى الاتِّفاق على تَوصيفٍ لها.
ولكنَّ البيان ذكر أنَّ غالبيةَ الدُّول الأعضاء تُدين بحزمٍ الحربَ في أوكرانيا، وتَعتبر أنَّ هذا النِّزاع يُقوِّض الاقتصادَ العالمي؛ ومن هنا خرجت قمةُ قادة مجموعة العشرين دونَ تحقيق الاتِّفاق بين دول المجموعةِ على موقفٍ محدد، وإن كانت الأغلبيةُ استطاعت أن تبلورَ موقفَها في نصِّ البيان الختاميّ.
وثمَّةَ موضوعاتٌ أخرى توصَّل إليها قادةُ المجموعة، اتَّفق عليها الجميعُ وتضمَّنها البيانُ الختامي، ومن تلكَ الموضوعات ما يلي:
حثُّ الدول المُتقدمة على الوفاءِ بالتزاماتها بتقديم (100) مليار دولارٍ سنويًّا لتخفيف آثار تغيُّرِ المناخ، ويلاحظ أنَّ هذا البَند بالبيان الختامي يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ لغةَ الخِطاب تجاه الدُّول المتقدمةِ بشأن التزاماتها في قضايا عالميةٍ أخرى، مثل تقديم حصَّتها من الناتجِ المَحلي الإجمالي لمساعدةِ الدول الفقيرة، أو الالتزام بالتنازُلِ عن ديون الدول الفقيرةِ والأشد فقرًا، حيث في العادة لا تَفِي الدولُ المتقدمةُ بالتزاماتها التي قطعتها على نفسِها على مدار العُقود الماضية.
تسريع الجهود نحو التخلُّص التدريجيِّ من استخدام الفحمِ لتوليد الكهرباء، بما يتماشى مع الظُّروف الوطنية، والاعتراف بالحاجة للدَّعمِ من أجل عمليات تحولٍ عادلةٍ، وهذا البند يمثِّل نوعًا من العَمى فيما يحدث في مَشهد أزمة الطاقةِ العالميّ، حيث لجأت بعضُ الدُّول للعودةِ لاستخدام الفحم لتوليد الطاقة مرةً أخرى، بعد أن استغنت عنه؛ بسبب ارتفاع أسعار النِّفط والغاز، فضلًا عمَّا تعانيه بعضُ الدول من صعوبةِ الإمدادات.
التأكيد على الالتزام بالسَّعي من قِبَل دول المجموعة لتحقيقِ هدف اتفاقيَّة الأُمم المتَّحدة الإطاريةِ بشأن تغير المناخ، من أجل التَّصدي لتغير المناخ من خلال تعزيز التَّنفيذ الكامل والفعَّال لاتفاق باريس، وهدفه المُتعلِّق بدرجةِ الحرارة.
الهروب من أزمة الطاقة
كانت قضيةُ الحرب في أوكرانيا حاضرةً بقوةٍ على أجندةِ أعمال قادة مجموعةِ العشرين، وكما ذكرنا أعلاه، لم تحسم القمةُ أمرَها في قرارٍ أو توصيةٍ تُمثِّل إجماعَ المشاركين فيها، ولكن الرأيَ صدر ليعبِّرَ عن رأي الأغلبية، وثَمة فارقٌ كبيرٌ بين الأمرين.
ومع ذلك كان يُتوقَّع أن يتناولَ قادةُ مجموعة العشرين مستقبلَ أزمة الطَّاقة، في ظِل مساهمتها البارزةِ في أزمة التضخُّم التي ضربت اقتصاديات الدول كافةً، وأحدثت خللًا كبيرًا في اقتصاديات الدولِ الأوروبيةِ على وجه التَّحديد.
فالأزمةُ يستفيد منها بعضُ أعضاء مجموعةِ العشرين، كما يتضرَّر منها البعضُ الآخر، وبحُكمِ أنَّ قضيةَ الطاقة من أبرزِ قضايا الاقتصاد السِّياسي، فإنَّ هناك توظيفًا للأزمةِ على العلاقات السياسية في المحيطِ الدولي، بِبُعديه الإقليميِّ والعالميّ.
فالسعوديَّة وروسيا وأمريكا من كِبار مُنتجي ومصدِّري النفط، وهناك الهند والصين من أجل مُستوردي النفط، ومن صالِح المُصدِّرين أن تستمرَّ الأزمة؛ لما تعكسه من عوائد ماليةٍ عاليةٍ، فضلًا عن الدلالاتِ السياسيةِ لتوظيف ورقة النفط في الصراعِ بين روسيا من جهة؛ وكل من أمريكا وأوروبا من جهةٍ أخرى.
وإن كانت الهند والصِّين من الدُّول التي تستورد النفط بكمياتٍ كبيرةٍ، إلّا أنَّهما حققتا استفادةً كبيرةً جراء تبني روسيا لاستراتيجيةِ «النفط الرخيص»، مِمَّا مكنهما من التَّعايُش مع أزمةِ ارتفاع أسعار الطَّاقة بشكلٍ أفضل من غيرهما، وتحجيم الضُّغوط التضخميَّةِ في اقتصادهما.
ومن جهة تمكَّنت الصين والهند من بناء مخزوناتٍ استراتيجيةٍ جيدةٍ، كما لجأت الهند إلى تدويرِ بعض صادراتِها النفطيةِ من روسيا في السُّوق الدولية، من خلال إعادةِ تصدير النِّفط الروسي، محققةً أرباحًا ملموسةً، حيثُ حصلت على النفط الروسي بأسعارٍ تقلُّ 30 دولارًا للبرميل عن أسعارِ السوقِ الدولية، ثُمَّ تصدره لأوروبا بأسعارِ السوق.
لم تُسفِر اجتماعاتُ مجموعةِ العشرين عن تبني سياساتٍ جماعيةٍ تجاه قضيةِ الطاقة، سواء فيما يتعلق بضمان تدفُّقِ احتياجات الدُّول من النِّفط والغاز، أو وضع سقفٍ لأسعار النفط والغاز في السُّوق الدولية، أو إيجاد دورٍ لوكالة الطاقةِ الدولية يُمكن من خلاله مواجهة تكتُّل «أوبك +» على سبيل المثال.
أيضًا غابت قضيةُ العقوباتِ الاقتصاديةِ الأمريكيةِ والأوروبيةِ على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، فكان مُنتظر أن تسعى أوروبا وأمريكا للزجِّ بالمجموعةِ لتبنّي قراراتٍ بشأن بقاء أو تشديد العقوباتِ الاقتصاديةِ على روسيا باسم مجموعةِ العشرين.
منافسة بعيدًا عن النزاع
غاب عن حضورِ مجموعة العشرين الرئيسُ الروسيُّ (فلاديمير بوتين)، ولكنَّ الأنظارَ كانت متعلقةً باللقاء المُرتقب بين الرئيس الأمريكي (جو بايدن) والصيني (شي جينبينغ)، وخرج البيانُ المُعبِّر عن لقاء الرئيسَين ليعكسَ سياسةً جديدةً، عبَّرا عنها من خلال قدرةِ الدولتين على إدارة خلافاتهما في إطارٍ من التَّنافس غير المُفضِي إلى نزاع.
وإن كانت الصين ركزت بشكلٍ واضحٍ على ملف تايوان، باعتباره خطًّا أحمرَ في علاقاتها مع أمريكا، حيث تَعتبرُ الصين الأراضي التايوانيةَ جزءًا منها، وهي تعبيراتٌ دبلوماسيةٌ كان الغرض منها أن تخرجَ قمة مجموعةِ العشرين بشكلٍ يعكس حالةَ نجاح.
وفيما يتعلَّق بإدارةِ المُنافسة بعيدًا عن النِّزاع، فهو شعارٌ برَّاقٌ، فليس بالضرورةِ أن يكون النزاعُ مسلحًا وخشنًا، ولكنَّ الواقعَ يشهد الحربَ التجارية بين أمريكا والصين بشكلٍ كبيرٍ، والتي تتجلَّى صورتها بشكلٍ شديد الوضوح في عزم أمريكا على حجبِ التكنولوجيا عن الشَّركاتِ الصينية، وإصدار القوانين والقراراتِ التي تؤدي إلى مُحاصَرة الصين تكنولوجيًّا.
ومن غير المُتصوَّر أن تُسلِّم الصين للاستراتيجيةِ الأمريكية، فقبول الصِّين بهذه الاستراتيجيَّة، أو العمل في إطارها، يعني أن تعودَ الصين مرةً أخرى تحت مظلةِ أمريكا، وأن يقتصرَ دور الصين فقط على اعتبارها مُجرَّد مصنع العالم.
فالصين لن تقبلَ العودةَ للوراء، حيث إنَّها تزيدُ من إنفاقها على البحثِ والتَّطوير، فبعد أن كان إنفاقُ الصين على البحثِ والتَّطوير قرابةَ 2.14% من ناتجها المحليِّ الإجمالي، وصل هذا الإنفاقُ عام 2020م إلى نسبةِ 2.40% من الناتج المحلي.
ولا يغيبُ عن أداءِ الاقتصاد العالمي سلوكُ الصين في توسُّع دورها في محيط خريطةِ القوى الاقتصادية الدولية، من خِلال مشروع «طريق الحرير» وكذلك بنك التَّنمية الأساسيَّة الآسيوي، كما تُعتبر الصين ثاني مُقرِضٍ على مستوى العالم بعد المؤسساتِ الماليةِ الدولية، حيث تبلغُ قروضها الخارجية المقدَّمة للدولِ الناميةِ بما يتراوح بين (500 مليار- 1 تريليون دولار).
صراع ممتد
قد تُخفي الصورُ المُبهِجة والكلماتُ المعسولة أمام الكاميرات الصراعَ المُحتدِمَ بين القوى الاقتصادية الكُبرى، وهو صراعٌ يتَّخِذ أشكالًا مُتعددة، وقد تكون الصورةُ الخِتامية التي عكستها اجتماعاتُ قادة مجموعة العشرين واحدةً من الصور الخادِعة.
فالصِّراعُ القائم مُتعدِّد المحاور، كما تغيب عنه الأبعادُ الأيديولوجيَّة، وتحكمه المصالحُ بشكلٍ كبيرٍ، فالتجمع الذي يضمُّ مجموعةَ العشرين لا يُمثل تكتلًا تحكمه قوانين أو لوائح، ولكن مجرد منتدىً تُطرح فيه أجندة قضايا التعاون الاقتصادي، وليس لِما تُفضي إليه اجتماعات المجموعة أيُّ صفةٍ إلزاميةٍ، وهو ما يمكن رصده بوضوحٍ من خلال قراءة مضمون البياناتِ الختاميةِ التي تصدر في نهاية كلِّ اجتماعات مجموعةِ العشرين.
ما يراهن عليه البعضُ من ميلاد نظامٍ اقتصاديٍّ عالميٍّ متعدد الأقطاب، من خِلال بروز بعض الأدوار لتجمُّع البريكس، لا يُمكن البناء عليه؛ لوجود مصالح كبيرة تربط أعضاءَ البريكس بأمريكا بما فيهم الصِّين، وحتى تجمُّع الآسيان أو غالبية الدولِ الآسيويةِ تحاول بناء علاقاتٍ مع الجميع، والبُعد عن المواجهات، بما يمكِّنها من تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية بشكلٍ أفضل.