
ديناميكيات القوى الصاعدة والمهيمنة في جنوب شرق آسيا «دراسة تحليلية وفق نظرية توازن المصالح»
قراءة في كتاب - د.عبير عبد الله الرنتيسي دكتوراة في العلوم السياسية
اسم الكتاب :
ديناميكيات القوى الصاعدة والمهيمنة في جنوب شرق آسيا
«دراسة تحليلية وفق نظرية توازن المصالح»
تأليــــــــــف :
عمار كريم حميد
الناشــــــــــر:
سلسلة الأطاريح والرسائل الجامعية، مركز الرافدين للحوار، الطبعة الأولى، بيروت 2021م
يُناقش هذا الكتاب الذي يقع في 286 صفحةً الصراعَ في منطقةِ جنوب شرق آسيا بين قوتين إحداهما مُهيمنةٌ ومؤسسةٌ للنِّظام الإقليميِّ لهذه المنطقة وهي الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، والأخرى صاعدةٌ وعازمةٌ على تعديل الوضع الرَّاهن فيها وهي الصِّين الشعبية، وتُعد هذه المنطقة مُهمة جدًا جيوبوليتيكيًّا، حيث تتوسط محيطَين كبيرين هما المحيط الهادئ والهندي، كما تأخذ حيِّزًا مهمًّا في الإدراك الاستراتيجي الأمريكي، حيث تُعد امتدادًا لمنظومة تحالفاتها في آسيا، المحيط الهندي، وفي الوقت نفسه تُمثِّل المجال الحيوي للقوةِ الصَّاعدة -الصين-.
وتأتي أهميَّة هذه الدِّراسة من ضرورةِ تحليل ديناميكيات القوى المُهيمنة والصَّاعدة، ومصالح كلٍّ منهما، سواء تلك الأمنيَّة التي تتعلق بالحفاظِ على الوضع الراهن واستقراره، أم تهدف إلى التَّغيير وكسب المزيد من الأراضي والقوة والنُّفوذ.
يضمُّ الكتاب أربعةَ أجزاء:
الجزء الأول: الإطارَ النَّظري للدراسة.
ويعرض مفهومَي التَّوازن والمُسايرة في العلاقات الدَّولية من منظور نموذج توازن القوى، ونظريتَي: توازن التهديد، وتوازن المصالح.
الجزء الثاني: منطقةَ جنوب شرق آسيا من حيث الأهميَّة والإدراك.
الجزء الثَّالث: فيطبِّق فيه المؤلف افتراضات نظريَّة توازن المصالح في المنطقة، وصراع المصالح والقُدرات ونقاط الصِّدام بين القوتين المُتنافستين.
الجزء الرابع: نقاش سيناريوهات مستقبليةٍ للمنطقة.
وتناقش الدراسة توازنَ المصالح والاستقرار الإقليمي في المنطقة، وتمثل أبرز نقاط التَّصادُم بين الصِّين وأمريكا حول نقطتين مهمتين، تسعى فيهما الصين لتعديلِ الوضع الراهن في مقابل سَعي الولايات المتَّحدة للإبقاء عليه، وهما: بحر الصين الجنوبي، وتايوان.
وتُشير الدراسةُ إلى نموذجين للسُّلوك من جانب دولِ المنطقة، هما: التَّوازن، والمُسايرة، وذلك من خلال التَّقارب مع الولاياتِ المتَّحدة وبعض دول الوضعِ الراهن في المنطقة؛ لموازنةِ الوجود التوسُّعي للصين، بينما تعتمد دولٌ أخرى سلوكَ المسايَرة.
وتتَّبع دول الوضع الراهن بشكلٍ جماعيٍّ تقريبًا في استجابتها للقوةِ الصَّاعدة؛ ومحاولة ترويضها بالمؤسَّسات الإقليميةِ سلوكَ أو استراتيجيَّة (الإلزام)، وقد نجحت هذه الترتيبات في تجنُّبِ إمكانيَّة الهيمنة الصينية على جنوب شرق آسيا بالكامل، عن طريق إلزامها بالمؤسسات متعددةِ الأطراف، والآليَّات القانونيةِ والمُؤسَّسية.
يناقش الكاتِب في الفصول الأخيرة عِدة سيناريوهات للعلاقةِ بين القوتين، ويتمثل السيناريو الأول بتفوق قوة الوضع الراهن الأقوى في النِّظام، من خلال ردعٍ مباشرٍ للصين في حال تحركها باتجاه قلب الوضع الراهن بالقوة في أبرز نقاطِ التَّصادم مثل: بحر الصين الجنوبي، وتايوان، أو الرَّدع غير المباشر ومَفاده توصيل فكرةٍ إلى الصين بوجود معارضةٍ دوليةٍ متعددة الأطراف سوف تترتَّب على ذلك، وأنَّها قادرةٌ بالفعل على الدِّفاع عن تلك المَصالح.
ويكتمل السيناريو بعدَّة عناصر، أهمُّها اصطفاف دول المنطقةِ مع الولايات المتَّحدة لموازنةِ الصين، وبضبطِ إيقاع المنطقة بالسَّيطرة الأمريكيَّة على تصرفات الحُلفاء والأصدقاء، ولا سيَّما أولئك الذين لديهم خلافاتٌ مع الصين، وخاصةً تايوان.
وهناك تحدياتٌ أمام هذا السيناريو أهمها إمكانية تآكل المِصداقيَّة الأمريكية، والانحياز الأمريكي الجغرافي للشَّرق الأوسط، الذي ترك شعورًا لدى الحلفاء في منطقةِ شرق آسيا وجنوب شرقها، بأنَّ منطقتهم لا تُمثل أولويةً لحليفهم الكبير.
بينما ينطلق السِّيناريو الثَّاني من فرضيَّة سيطرةِ الصين في النظام الإقليمي للمنطقة، أو نجاحها في إعادة هيكلةِ النظام، بما يتَّفق ومصالحها وأهدافها في المنطقة.
ومن ضمن فُرص تحقق السيناريو: استمرار النُّمو الاقتصادي الصيني، ومُسايرة دول جنوب شرق آسيا لها، ونجاح الصين في السَّيطرةِ الكاملةِ على بحر الصين الجنوبيّ، وضم تايوان، وتفوق القُدرات الصينيَّة البحريَّة، واستمرار الرئيس (شي جين بينغ) على رأسِ السُّلطة في الصين، واستخدام دول المنطقة حائط صدٍّ في مواجهة الاستراتيجيَّات الموجَّهة ضد الصين.
بينما تأتي كَوابح هذا السيناريو بتباطؤ النُّمو الاقتصادي الصيني، واستخدام ورقة الضَّغط المُتمثِّلة بإغلاق المَضائق في المنطقةِ من قِبل الولايات المتَّحدة وحلفائها في وجه السُّفن الصينية، وتصاعُد التَّوترات القوميَّة في الأقاليم الصينية، والنظر بعين الشَّك إلى المبادراتِ الصينية، ومنها مُبادرة «الحزام والطريق».
يأتي السيناريو الثَّالث بالتَّوازن بين القوتين في حالةٍ من التَّعايُش، وتقع فُرص تحول السيناريو من خلال إرساء نوعٍ من التوازن بينهما في المنطقة، وتطلُّعهما إلى نمطٍ جديدٍ من العلاقات تتمُّ بتوازن المصالح، وإمكانيَّة تعاونهما لدَرْء أزماتٍ عالميةٍ خطيرةٍ مثل «كوفيد 19»، ويمكن أن يعيدَ هذا التعاون ترتيبَ خارطةِ نفوذ القوتين إقليميًّا ودوليًّا.
وحسب المُعطيات، يرجَّح بقاء السيناريو الأول في المدى المَنظور، أمَّا على المستوى المتوسِّط، فيمكن أن يتحققَ السيناريو الثالث القائم على أساس التَّوازن في المصالحِ بين القوتين في ظلِّ نظامٍ إقليميٍّ مستقرٍّ نسبيًّا.
ويخرج الكاتب بعدة استنتاجاتٍ أهمها:
إنَّ النظريَّة الواقعيَّة الجديدة لم تَعد المدرسة الأبرز في تفسيرِ الأحداث والعلاقاتِ الدولية بشكلٍ عام، وسُلوكيات التَّحالفات والاستجابة للقوةِ الصَّاعدة بشكلٍ خاص، وأن هناك مدرسةً جديدةً تُسمّى الواقعية الكلاسيكيَّة الجديدة، وتأتي نظريَّة توازن المصالح في سِياق هذه المدرسة، خاصةً في تحليل سلوك التَّحالفات، واستجابة الدول للقوةِ الصَّاعدة، وقد أعادت هذه النظريَّة الاهتمامَ للدول ذات النوايا التعديليَّة، وأثرها في تغيير مسار التَّوازنات في منطقةٍ معينة.
وعلى الرغم مما يُطرح حول تراجع الهيمنةِ الأمريكية دوليًّا وإقليميًّا، إلا أنَّ الولايات المتحدة لن تسمح على الأقل في المدى المَنظور بالتخلِّي عن وضعها الراهن، قد يُنذِر تصاعد الصين العسكري والاقتصادي والسِّياسي بتهديد هذه الهيمنة، وتشمل الاستراتيجيَّات الأمريكيَّة في الاستجابةِ لهذا الصُّعود باتباع استراتيجياتٍ موازنة، تحدُّ بها من سَعْي الصين للهيمنةِ على المنطقة، وشرق آسيا بشكلٍ عام.
وفي الأخير، تمثِّل هذه الدراسة أهميةً كبيرةً في تحليل العلاقاتِ الدولية بين القوى العُظمى، خاصةً على مستوى الأنظمةِ الإقليميَّة، وبينما كان النِّظامُ الدولي يتابع الأزمةَ بين الصين والولايات المتَّحدة، نشبت أزمةٌ أخرى على المِحور الروسي الأطلسي في أوكرانيا لنفس الأسباب، بسبب محاولةِ روسيا كقوةٍ صاعدةٍ أخرى تعديل قواعد النِّظام الدولي الحالي، والدخول كطرفٍ في رسم العلاقةِ مع دول شرق أوروبا، بما يضمن مصالحها السِّياسية والاستراتيجيَّة.