
الأديب علي أحمد باكثير صوت الأُمَّة في زمن النَّكبات
بقلم: سمير عطية - مدير بيت فلسطين للثقافة
لم يكن أهلُ مدينة (سورابايا) في إندونيسيا يعلمون أنَّ الطِّفل الذي وُلد في مدينتهم في 15/ ذي الحجة من عام 1328هـ، الموافق 21/ ديسمبر/1910م، سيكونُ أديبًا ذا شأنٍ عظيم، يجمع في إبداعه بين العالَمَين العربيِّ والإسلاميِّ في مؤلَّفاتٍ سيبقى أثرها طويلًا.
ولذلك يواصل الكُتَّاب الاحتفاءَ بسيرته، وتواصل محافلُ الثَّقافة والمعرفة ترديد اسمه والفخر بمُنجزاته الثقافيَّة، ولِذا من المهم أن يتعرَّف القُرَّاء على سيرة هذا العَلَم الخفَّاق في سماءِ الأدب، فمن هو؟ وما هي سيرته؟ ولماذا نهتمُّ اليوم بتسليطِ الضوء على سيرته؟ سيرة لم تَنل العتمة منها فهي مضيئةٌ وهَّاجة.
ولادته ونشأته
وُلد علي أحمد باكثير لأبوَين من منطقةِ (حضرموت) في اليمن، كانا يعيشان في إندونيسيا، حيث مكث باكثير عشرةَ أعوامٍ فيها، قبل أن يسافرَ به والده إلى منطقة (حضرموت) في مدينة (سيئون)؛ لينشأَ ويتعلَّمَ بصحبة أشقائهِ من أبيه عام 1920م.
الأمر الذي جعل إندونيسيا حاضرةً في الحديث عنه في كلِّ مرَّة، وسطَّرت حروف اسمها حتى الآن في سيرة حياته، مَسقطًا لرأسه، وانعكاسًا لتاريخ شعبه اليمنيِّ الذي عرف جزء منه تلك الدِّيار وعاش فيها سنواتٍ طويلة.
التَّعليم المُبكِّر
وجدَ والده فيه النُّبوغَ المبكِّر، فكان قرار السَّفرِ يستحق كي يظفرَ وَلده علي بالتعليم المُناسِب، هناك تلقَّى تعليمَه في مدرسة (النهضة العلميَّة)، المدرسة التي درس فيها علومَ اللُّغة العربية، والشَّريعة الإسلامية، وقد كان من أهمِّ أساتذته ومشايخه الذين درس على أيديهم عمُّه الشاعرُ اللُّغَوي النَّحوي القاضي (محمد بن محمد باكثير(، وتلقَّى علومَ الدين على يدِ الفقيه )محمد بن هادي السقاف(، ولم يقف الأمر عند الأساتذةِ فحسب، بل وجد فيها أقرانًا يشاركونه اهتماماته، وكان منهم (محمد بن عبدالله السقاف) الذي سيُعرَف بعد ذلك بالفقيه واللُّغوي.
لم يقتصر الأمر عند التَّعليم فقط، بل ظهرت مواهبُ الفتى علي أحمد باكثير مُبكِّرًا، فنظَم الشِّعرَ وكتبه وهو في الثَّالثة عشرة من عمره، وتولَّى التدريسَ في مدرسة النهضةِ العلمية، وتولَّى إدارتها وهو دونَ العشرين من عمره، فجمع منذ وقتٍ مبكرٍ في شخصيته بين الكتابةِ الشعريَّة والأدبية، والشخصيةِ الإدارية، والرسالةِ التربوية والتعليمية، الأمر الذي شكَّل مضمونًا مهمًّا بعد ذلك في موضوعاتِ كتاباته واهتماماته.
باكثير والعائلة
تزوج الأديبُ علي أحمد باكثير في وقتٍ مبكرٍ لم يتجاوزْ فيه ثمانيةَ عشر عامًا، ولكنَّه فُجِع بموت زوجتهِ في شبابها أيضًا عام 1927م، سافر بعدها بأعوامٍ وتحديدًا في عام 1931م، من حضرموت في رحلةٍ طويلةٍ شملت: عدن، والصومال، والحبشة، والحجاز التي استقرَّ بها زمنًا ليس طويلًا قبل أن يستقرَّ في مصر، لقد يمَّمَ صوبَ أماكن جديدةٍ أراد من خلالها أن يتعرَّفَ إلى العالم، وأن يكسبَ لقمة عيشه بالعلمِ والتعلُّم، لم يعد إلى إندونيسيا مسقطَ رأسه، ولا إلى حضرموت إلّا زائرًا بعد ذلك بأعوام، فقد رأى في مصرَ مكانًا يليق بطموحاته الأدبيَّةِ وأحلامه الثقافيَّة.هُناك في مصر، تزوَّج بعد أن أنهى دراستَه الجامعيَّة من سيدةٍ مصريَّةٍ لها ابنةٌ من زوجٍ سابقٍ، وقد تربَّت الابنةُ مع أمِّها وزوج أمها باكثير الذي لم يُرزَق بأطفال.
دراساته الجامعيَّة ووظائفه العمليَّة
مُحمَّلًا بأحلامهِ وأشواقهِ وآماله، وصل باكثير إلى مِصر، وكان من المهمِّ له أن يضعَ خُطواته على الطَّريق العلميِّ والمعرفيِّ الصحيح، وحدث هذا في عام وصوله 1934م، حيث التحق بـجامعةِ (فؤاد الأول- جامعة القاهرة حاليًّا-) التي حصل منها على ليسانس الآدابِ قسم اللُّغة الإنجليزيةِ عام 1939م.
لم يكن طالبًا ذا طموحٍ ثقافيٍّ تقليديّ، بل ذهب في اتِّجاهات تطوير ذاته وسعى نحوَ تقديم الجديد للمكتبةِ الأدبيةِ العربيةِ منذ تلك المرحلةِ من عمره، فقد ترجم مسرحيةَ (روميو وجولييت) للأديب الإنجليزي (وليم شكسبير)، إذ كتبها باكثير بالشعر المُرسَل في عام 1936م، وبعدها بعامين -أي عام 1938م- ألَّف مسرحيَّته الشهيرة (أخناتون ونفرتيتي) بشِعر التَّفعيلة؛ ليكون بذلك رائدَ هذا النَّوع من النَّظم في الأدبِ العربي وِفق عددٍ من المصادر التي جعلته سابقًا للشاعرةِ العراقية (نازك الملائكة) ومواطنها الشَّاعر (بدر شاكر السَّياب).
لم يتوقف طُموح باكثير إلى الدراسةِ الجامعيَّةِ فقط، فالتحق بعد تخرُّجه في الجامعة بمعهدِ التَّربيةِ للمعلمين، وحصلَ منه على الدُّبلوم عام 1940م، وعمل مدرِّسًا للُّغةِ الإنجليزية لمدَّة أربعةَ عشرَ عامًا، سافر بعدها إلى فرنسا عام1954م في بعثةٍ دراسيَّةٍ حرة، أضافت كلٌّ من هاتين التجربتَين في التَّعليم والسفر الكثيرَ إلى رصيده المَعرفيِّ والإبداعيّ، الذي انعكس في مؤلَّفاته وشخصيته الثَّقافية، التي أتاح لها الاستقرارُ في مصر التواصلَ مع رجال الفِكر والأدب، فباتت العلاقةُ وثيقةً بأعلامِها، ونذكُر منهم الأُدباء: عبَّاس محمود العقَّاد، وإبراهيم المازني، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وصالح جودت، ومُحب الدِّين الخطيب وغيرهم، وقد علا نجمُه حتَّى ذكر بنفسه في مقابلةٍ مع إذاعة (عدن) عام 1968م، أنَّه يُصنَّف كثاني كاتب مسرحٍ عربيٍّ بعد توفيق الحكيم.
بعد عودتهِ من فرنسا عام 1955م، انتقلَ للعمل في وزارةِ الثَّقافة والإرشاد القومي بمَصلحةِ الفنون وقت إنشائها، ثم انتقل إلى قسم الرَّقابة على المُصنَّفات الفنية، وظلَّ يعمل في وزارةِ الثقافةِ حتَّى وفاته.
مختارات من كنوز باكثير الأدبيَّة
أهم مسرحياته
السِّلسلة والغُفران التي نالت جائزةَ وزارةِ المعارف لعام 1949م، مَسرح السِّياسة، ليلة النَّهر، التوراة الضَّائِعة، إمبراطورية في المَزاد، إله إسرائيل، مأساة زَينب، مسمار جُحا، الوطن الأكبر، شيلوك الجديد، سرّ شهرزاد.
أهم رواياته
الثَّائر الأحمر، سلَّامة القَس، سِيرة شُجاع، وا إسلاماه، الفارس الجميل، ليلة النَّهر، الشَّيماء، عودة المُشتاق، ومن أعمالِه الأخرى: نظام البُردة أو ذكرى محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد مُثِّلت روايته «وا إسلاماه» عام 1961م، في فيلمٍ سينمائيٍّ باللغتَين: العربية، والإنجليزية، وقُدم عمله الشِّعري أوبريت «الشيماء.. شادية الإسلام»، وروايته «سلَّامة القَس» في فيلمَين سينمائيَّيْن.
الجوائز التكريميَّة
نظرًا لإنجازاته الثَّقافية والمَعرفيَّة والتعليمية، فقد كُرِّم باكثير بجوائزَ وأوسمةٍ كثيرةٍ، منها: جائزة وزارةِ المَعارف 1945م عن روايةِ «وا إسلاماه»، وجائزة وزارةِ الشُّؤون الاجتماعية عِدة مرات، وجائزة المجلسِ الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية 1960م، وجائزة الدَّولة التقديرية في الآداب 1962م، ووسام العلوم والفنون من الدَّرجةِ الأولى 1963م، ووسام عيد العِلم ووسام الشِّعر، ومنحته -بعد وفاته- دولةُ اليمن الجنوبية -سابقًا- وسامَ الآداب والفنون 1985م، والجمهوريةُ اليمنية -بعد الوحدة- وسامَ الاستحقاق في الأدبِ والفنون 1998م.
وفاته – جاء الحَتْف وبقي الحَرْف
أُصيبَ علي باكثير بأزمةٍ قلبيةٍ مُفاجئةٍ فتُوفيَ في القاهرة، في غُرَّةِ شهر رمضان المبارك لِعام 1389ه، الموافق10/ نوفمبر/1969م، إثر أزمةٍ قلبيَّةٍ حادة، وقد دُفِن بمدافن الإمام الشافعي في مقبرةِ عائلة زوجته المصريَّة.
من أقوال باكثير في فلسطين
«في التَّاريخِ العربيِّ والإسلاميِّ مواقفُ عظيمةٌ رائعةٌ ينبغي أن يعِيَها الجيلُ العربيُّ الحاضِر، حين تصوّر في صورةٍ دراميةٍ مؤثِّرة، و(شكسبير) كتب كثيرًا من المسرحياتِ التَّاريخيةِ التي استلهم فيها تاريخَ بلاده، والمعروف أنَّ التاريخَ يربط حاضرَ الأمة بماضيها، ولا حياةَ لأمةٍ مبتورةِ الصِّلة بماضيها، لقد عالجتُ القضايا العربيةَ كلها تقريبًا من خِلال مسرحيَّاتي، واهتممت بقضيةِ فلسطين بالذات، لأنَّها قضيةُ العربِ الكُبرى، وكتبتُ أول مسرحيةٍ عن فلسطين سنة 1944م، وهي «شيلوك الجديد» قبل النَّكبة، وبعدها «شعب الله المختار» و»إله إسرائيل»، وأخيرًا «التوراة الضائعة» بعد نكسةِ 5/ حزيران سنة 1967م. إن ما صدرَ من مؤلَّفاتٍ عن القضية الفلسطينية أنا راضٍ عن القليل منها، وإن كنتُ أعتقد على العموم أنها جميعًا دون مستوى القضيةِ بكثير، وما زالت القضية الفلسطينية تنتظر العملَ الأدبيَّ الذي يتكافأ مع جَلالِها وخطرها وأهميَّتها بالنسبة لمستقبلِ الأُمة العربيةِ والإسلاميةِ. إن الرسالةَ التِّي يحملها الشُّعراء والأدباء هي أن يُعمِّقوا إحساسَ الأُمةِ بالمأساة الفلسطينية ويذكِّروها بأنَّها قضية حياةٍ أو موت، قضية مصير الأمةِ العربيةِ والإسلاميةِ كلها». وكان باكثير يردِّدُ عبارته المشهورة: «لَأن أكونَ راعيَ غنمٍ في حضرموت، خيرٌ لي من الصَّمت المُميت في القاهرة».
قالــــوا في باكثيــــــر
الأستاذ علي الطنطاوي:
«إني لَأفخرُ أني أول من كتب بحثًا في مجلةِ (الآداب) البيروتية، قُبَيل وفاة باكثير بشهرين، أثبتُّ فيه أنَّ باكثير هو رائدُ شعرِ التَّفعيلة بلا مُنازِع، وأني أول من أصدرَ كتابًا عن باكثير بعنوان: (دراسات في أدب باكثير) عام 1975م.
الدكتور الرِّوائي نجيب الكيلاني:
« لقد كان الأستاذُ علي أحمد باكثير يتميز بخَطِّه الإسلامي، وفكرهِ السِّياسي المُبلوَر، وتعبيره الواعي من خلال مسرحياته وقصصه عن قضايا إسلاميةٍ معاصِرةٍ، ومشكلاتٍ اجتماعيةٍ شائعةٍ، ويستلهم التاريخَ في الكثير من قصصه ومسرحياته.»
الدكتور حلمي محمد القاعود:
«كان علي أحمد باكثير من ذلك الطِّراز الذي لا يُخافِت بصوته الإسلامي، ولا يُساوِم على تصوره الإيماني، وكان في الوقتِ نفسه رائدًا من رُوَّاد أدب الحَدس الصَّادق، وهو الأدبُ الذي يستشرِفُ المستقبلَ من خلال الماضي والحاضر، فكان سابقًا عصرَه، وكان غريبًا في زمانه، لأنه رأى ما لم يَرَه غيره، أو رآه غَيرُه وسكتَ عنه، فقد رأى ولم يسكت، ولِكلِّ هذا فإنَّ باكثير عاش مِحنةَ التفرُّدِ والتَّميز والرِّيادة والمُكاشَفة، ودفع الثَّمنَ غاليًا عندما تعرَّض للحصارِ الأدبيِّ، والقَمع الفكريِّ، والتَّجميدِ الوظيفيّ».
الدكتور محمد أبو بكر حميد:
«لقد عاش باكثير حياته كلها قانِعًا براتبه الذي لا يكاد يسدُّ حاجته، لا يركض خلف مالٍ يجنيه من كتبه، مُكتفيًا بانتشارها وذيوعها، مُنصرِفًا عمَّا يتهالكُ عليه الناسُ في دنياهم إلى جوٍّ روحيٍّ خالصٍ لنفسه، يشعر دائمًا بالاطمئنان إلى المستقبل، فلم يشعر يومًا أنَّه فقيٌر أمام صاحب مال، مؤمنًا بأنَّ غناه في نفسِه وعلمِه وأدبِه».
الأستاذ خيري حماد:
«أبصرتُ الدَّمعاتِ تتساقط من عَيْنَي الأستاذ علي أحمد باكثير وهو يقفُ عند شريط الحدود الفاصلِ بين قطاع غزة والأرض المُحتلة على بُعد أمتارٍ قليلة، وهو يرى «الثكنةَ الإسرائيلية» وقد ارتفع عليها «العلم الإسرائيلي»، رأيت عَبَرات باكثير فلم أتعجَّب، فلقد أحبَّ باكثير فلسطينَ كما أحبَّ وطنه حضرموت والقاهرة وكل وطنٍ عربي، بل إنَّ لفلسطين مكانةً خاصةً في نفسه رافقته طوالَ حياته، فلقد أحبَّ باكثير فلسطين حُبًا عميقًا».
قصيدة مآذن إستانبول
اخترت هذه القصيدةَ لأهميَّتها، فهي «قصيدةٌ نادرةٌ تنشر لأوَّل مرةٍ، وهي من آخر ما نظم الشاعرُ علي أحمد باكثير أثناء زيارتهِ لتركيا في 26/5/1969م، حصل عليها الشيخُ (عبد الله عقيل عبد الله) الأمين العام المُساعِد لرابطةِ العالم الإسلامي من الأستاذ (أمين مصطفى سراج) الذي كان مرافِقًا لباكثير أثناء رحلته»، وِفقَ ما نشره موقعُ (رابطةِ أدباء الشام) في حينه:
وَكَــــــــمْ بالآستانــــــــــةَ مِنْ مَعـــــــــــــانٍ
أثــــــــارتْ في حنــــايـــــــــايَ الشُّجونا
معــــــــــانٍ ليــــــــسَ تَعــــــــــــدِلُها مَعانٍ
تُفجّــــــــــرُ في الفــــــؤادِ هُدىً مُبينا
مآثـــــــرُ مِـــــــنْ بَنــــي عُثمانَ شادتْ
مِنَ الدِّينِ الحنيفِ بِها حُصونا
جوامــــــــــعُ مُشْمَخِـــــــــرِّاتٌ حِســــانٌ
خــــــوالــــــــدُ مِــــــــــنْ بِناءِ الخالِدينا
تَــــــــــراها مِـــــــــنْ بَعيـــــــدٍ كَالرَّواسي
فَإِنْ دَوَّيـــــــــــنَ أَقــــــــــررنَ العُيــــــــــــــونا
بِفـــــــــَنٍّ عَبقــــــــريٍّ مُستَــــمَـــــــــــــــــــــــــــدٍّ
مِنَ الإسلامِ يَهــــــــدي الحائرينـــا
كَأنَّ قِبابهــــــا خُـــــــــوذات صُلـــــــــــــــبٍ
لَمعـــــــــتْ عَلــــى رُؤوسِ مُجاهِدينـــا
وَمنْ يَنظــــــــرْ مَـــــــآذِنهــــــــــا يَجِدْها
رِماحًـــــا في صُـــــــدورِ الكافِرينــــــــــــا
****