تقارير

التنافــــس الصيني الهنـــدي على استقطــــاب الشركات العالمية بعـــد كـورونـــــا

يحيى باسم عياش "صحفي وباحث دكتوراه بالإعلام"

أعادت جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19”، وما خلقته من أزمةٍ صحيةٍ عالميةٍ ذات تبعات اقتصاديةٍ وسياسيةٍ واجتماعية، المنافسة العالمية بين الدول، وتحديدا في مجال الاقتصاد، الذي يشهد الكثير من حالة الاستقطاب بين أقطاب الاقتصاد العالمية، خاصة القوى الأكبر بالعالم: الولايات المتحدة والصين.

ساهم تمركز الشركات العالمية في الصين في نمو اقتصادها بشكل متسارع، تمركز شركات عالمية في هذا البلد، ما جعله مصنعا حيويا للعالم، لكن هذه الميزة ربما تتراجع بعد أزمة كورونا، نظرا للضغوط الدولية والعتب المتزايد على بكين، كونها المكان الأول لخروج الوباء العالمي.

وفي كل أزمة تمر بها الصين تتجه الأنظار إلى الجار المنافس الهند، التي تسعى لاقتناص أي فرصة، تمكنها من شغل الدور الحيوي المهم الذي تمتلكه بكين، وتزامن ذلك أيضا مع تجدد التوتر بين البلدين الآسيويين، ما دفع أصواتاً في “نيودلهي” إلى الدعوة لمقاطعة الصين اقتصادياً.

لكن هذه الدعوات أوجدت جدلا واسعا في الهند نفسها، التي تعتقد أن منافستها الاقتصادية للصين أو انتقال الشركات العالمية إليها، يعتمد بدرجة كبيرة جدا على مساندة الدول الحليفة مثل الولايات المتحدة وروسيا، وربما أصبح التحالف الاستراتيجي مع الأولى أقوى من أي وقت مضى، لكن التعاون مع الثانية لا يزال فيه نوع من التوازن, مع محافظة موسكو على علاقات طيبة مع الصين والهند.

التنافس الاقتصادي بين الصين والهند لم يكن وليد اللحظة، لكنه يتجدد ويتضاعف مع كل أزمة، وربما الأزمة الحالية لفيروس كورونا تفتح الباب على مصراعيه في هذا التنافس، وهو ما نشهده مع دول كثيرة تحاول إثبات جدارتها بهذه الأزمة، وتعمل جاهدة على النجاة بنفسها من خطر الانهيار الاقتصادي.

ورغم هذا التنافس إلا أن اللغة الدبلوماسية سادت بين البلدين على مدار العام الماضي، سرعان ما تراجعت في ذروة أزمة كورونا، وتدهورت أكثر نتيجة التوتر الميداني على الحدود بين البلدين وما خلفه من ضحايا، انعكس بشكل مباشر على حالة الاحتقان الداخلي بين الأوساط الهندية والصينية.

طموحات الهند ورغبتها في منافسة الصين على استقطاب الشركات العالمية، طفت على السطح بعدما أعلن مسؤولون في “نيودلهي” أن “موقف الصين الدولي الضعيف، قد يساعد بلادهم في جذب الاستثمارات الخارجية”، وبدأت فرق اقتصادية هندية بالفعل في العمل على جذب الشركات الراغبة في التخلي عن الصين.

ويعتقد المسؤولون في الهند أن أزمة كورونا ستسرع عملية خروج العديد من الشركات العالمية من الصين، لذلك يحرصون على إقناع هذه الشركات بأن أرضهم باتت مناسبةً لنقل نشاطهم الصناعي إليها، لذلك فتحت نيودلهي قنوات اتصال مع شركات أمريكية متعددة الجنسية للحديث معها بهذا الخصوص.

وربما تكون عملية النقل سهلة عند الشركات العالمية التي يوجد لها مصانع حالية بالهند، لكن الأمر يحتاج إلى مرحلة تقييم، حتى يتم اتخاذ قرارات نهائية بالنقل، لأن هذه العملية تواجه صعوبات في نقل سلاسل الإمدادات الضرورية للإنتاج الصناعي.

وخصصت الحكومة الهندية الأراضي للشركات الأجنبية، لكن من غير المرجح أن تنقل الشركات الكبرى نشاطاتها إلى الهند، لمجرد توفر قطع الأرض، لأن خطوط الإنتاج والإمداد أكثر تعقيدا، وعملية تفكيكها تحتاج لوقت وجهد كبيرين.

ومسألة توفير بنية تحتية بالهند مشابهة لما عليه الحال بالصين مثل الموانئ والطرق، والقوى البشرية المتقنة، ليست بالأمر الهين، لأنها عوامل مهمة للشركات العالمية من أجل استمرار صناعاتها الضخمة، ذات الجودة العالية.

كما تشعر الشركات العالمية بالقلق من علاقة الهند المتأرجحة، مع الاستثمارات الخارجية المباشرة وقوانينها التجارية غير المتكافئة، وشعورها بأن الهند استغلت وباء كورونا لبناء جدران حمائية حول نفسها، بدءاً من منع شركات التجارة الإلكترونية بيع المواد غير الضرورية في البلاد، إلى سن قوانين تعرقل انتقال رؤوس الأموال من الدول المجاورة إلى الهند.

وقبل بدء أزمة كورونا، بدأت الشركات الدولية متعددة الجنسيات بالفعل في نقل نشاطاتها إلى دولٍ خارج الصين منها: “بنغلادش وفيتنام وتايوان” نظرا لارتفاع أسعار العمالة في الصين ولأغراض بيئية، وكانت عملية النزوح هذه قد تسارعت في السنوات الأخيرة مع تصاعد التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة.

فمنذ يونيو 2018، قبل شهر واحد من اندلاع الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ارتفعت نسبة الصادرات الفيتنامية إلى الولايات المتحدة بنسبة تزيد عن 50 في المئة والصادرات التايوانية بنسبة 30 في المائة، حسب تقديرات صحيفة ساوث تشاينا مورنينغ بوست الصادرة في هونغ كونغ.

ورغم إخفاق الهند في خلق الظروف التي تسمح للشركات الدولية باستخدام البلاد كقاعدة إنتاجية للتصدير إلى بقية دول العالم، إلا أن بعض الولايات الهندية بدأت مؤخرا في اتخاذ خطوات من شأنها التصدي لمخاوف هذه الشركات من العمل في البلد، وعلى رأسها تغيير قوانين العمل البالية التي سنّت أصلا للقضاء على استغلال العاملين.

فعلى سبيل المثال، علّقت ولايتا “أوتار براديش” و”ماديا براديش” العمل بالعديد من بنود حماية العاملين، واستثنتا المصانع من التقيد بشروط السلامة الأساسية: كالنظافة ، والتهوية، والإضاءة، وتوفير المرافق الصحية، والغرض من ذلك هو تحسين البيئة الاستثمارية وجذب رأس المال الأجنبي.

وعلى صعيد آخر، يربط خبراء عسكريون سوء تعامل الصين مع وباء كورونا والاتهامات الموجهة إليها بالتغطية عليه، وغاراتها العسكرية الأخيرة على مناطق هندية، ما أدى إلى مواجهة بين الجيشين.

وتتطلع الشركات الصناعية لترك الصين، وهذا يجبر بكين على المحاولة لتشتيت الانتباه عن أزمة كورونا، ما يعزز فرص الهند في التقاط الاستثمارات الأجنبية الهاربة من بكين.

وتحاول الولايات المتحدة أن تلعب دور الوسيط بين الهند والصين لحل نزاعهما الحدودي المحتدم، لأن السلام والهدوء يخدم مصالح البلدين، لكن يبدو أن الطرفين رفضا الوساطة الأمريكية، وهو ما جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصيني زهاو ليجيان، بقوله:” إن البلدين لا يريدان “تدخل” طرف ثالث لحل خلافاتهما”.

فيما أوضح وزير الخارجية الهندي “هارش فاردان شرينجلا”، أن بلاده “تعمل مع الجانب الصيني لحل هذه القضية سلميا”، مضيفا أن “القوات الهندية اتخذت أسلوبا مسؤولا تجاه إدارة الحدود ومتابعة البروتوكولات”.

في الواقع، تخلو الأزمات الجيوسياسية من المصادفات، والاشتعال المفاجئ للتوترات لم يكن أمرا وليد الصدفة، وإنما يعتمد على حسابات سياسية واقعية من جانب الدولة الصينية التي تسعى من خلال أنماط سلوك انتهازية، إلى إرسال عديد من الرسائل في وقت واحد، في خضم مساعيها لتحويل ميزان القوى لصالحها، وتعزيز مصالحها، والتأكيد على هيمنتها على منطقة الهند والمحيط الهادي، حسبما يرى محللون.

فقد أشار المحلل الهندي “هوما صديقي” إلى أنه: “فيما يخص الهند، عادة ما تدخل الصين في مواجهات حدودية مع الهند، في أي وقت تبدأ فيه علاقات الهند مع الولايات المتحدة أو شركاء آخرين في (الحوار الأمني الرباعي) في التنامي والتقارب”.

في ظل الوضع الراهن، وجدت الصين نفسها محاصرة من قبل الولايات المتحدة واليابان وأستراليا وكثير من الدول الأوروبية، لدورها في تفشي فيروس “كورونا”. وفي الوقت ذاته، تقاربت الولايات المتحدة مع الهند، وهناك إمكانية قوية أن ينتهي الحال بكثير من الشركات التي ستنقل نشاطها من الصين إلى الاستقرار في الهند. 

وأفادت تقارير بأن واشنطن أمدت الحكومة الهندية بـ”معلومات حول تعزيزات القوات الصينية وعمليات نشر القوات” أثناء أزمة دوكلام عام 2017، ومن المعتقد أن رغبة الهند في تعزيز هذه الترتيبات الخاصة بالتشارك في المعلومات أحد المحفزات وراء توقيع دلهي اتفاقا عسكريا جوهريا مع الولايات المتحدة عام 2018.

وقال الدكتور راج كومار شارما، الاستشاري لدى كلية العلوم السياسية في “جامعة إنديرا غاندي الوطنية المفتوحة” في نيودلهي: “تستعرض الصين عضلاتها العسكرية، ليس فقط أمام الهند، وإنما كذلك أمام الولايات المتحدة ودول أخرى ترفض ادعاءاتها المتعلقة بأحقيتها في السيطرة على بحر الصين الجنوبي”.

ويعتقد المحلل الهندي “سريموني تالوكدار” أن المناوشات الحدودية الأخيرة ربما لها صلة بمنظمة الصحة العالمية، وموقف الهند الصارم إزاء التصدي لأي استثمارات أجنبية مباشرة من دول مجاورة دون موافقة حكومية مسبقة، الأمر الذي يستهدف على نحو غير مباشر الصين.

من جهته، قال “قوه وي مين” المتحدث باسم المؤتمر الاستشاري الصيني:”إنه من غير المنطقي القول إن الصين تنافس من أجل الحصول على الزعامة العالمية عن طريق مساعدة الدول الأخرى في مكافحة فيروس كورونا، واصفاً من يعتقد بذلك بـ “ضيق الأفق” جاء ذلك في تصريح له خلال مؤتمر صحفي قبيل الاجتماع السنوي للمجلس التشريعي الصيني، وهو هيئة استشارية دورها شرفي إلى حد كبير، بهذا التصريح خلال مؤتمر صحفي، قبيل الاجتماع السنوي للمجلس التشريعي الصيني.

الهند أصدرت قرارا الشهر الماضي يلزم أي استثمارات قادمة من دول تشترك الهند معها في حدود، بالسعي أولاً للحصول على موافقة الحكومة، وهدف هذا القرار الحيلولة دون أي استحواذ على شركات هندية تشارك الصين باستثمارات فيها، وأثار القرار بالفعل انتقادات صينية.

من ناحية أخرى، من المقرر أن يتولى هندي منصب رئيس عملية صنع القرار التنفيذي داخل منظمة الصحة العالمية، ومن المعتقد أن الهند ستكون نقطة محورية في خضم الضغوط العالمية المتزايدة على الصين، والفجوة المتفاقمة بين واشنطن وبكين، وسيتعين على الهند حسم موقفها إزاء المطالب الأميركية بإعادة تايوان كمراقب داخل منظمة الصحة العالمية، المطلب الذي ترى الصين أنه يتعارض مع سياسة “صين واحدة” التي تنتهجها. 

من ناحيتها، قالت “تايوان” إنها ترغب في التشارك مع العالم، في تجربتها الناجحة في محاربة فيروس “كورونا”، وذلك بعدما سجلت عدد إصابات بلغ 440 حالة، و7 وفيات، بفضل جهودها بمجال الرصد والوقاية.

إلا أن الصين التي ترى أن تايوان لا تحق لها المشاركة في كيانات دولية باعتبارها دولة ذات سيادة، اعترضت بقوة على مشاركة تايوان في مجلس منظمة الصحة العالمية، إلا إذا أقرت بكونها جزءا من الصين، الأمر الذي رفضته حكومة تايوان.

وأمام هذا كله، يعد أي نجاح تحققه الهند خسارة للصين والعكس صحيح، في ظل احتدام المنافسة بينهما.

إعلام المنتدى

العلاقات العامة والإعلام منتدى آسيا والشرق الأوسط المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى