السياسة الماليزية – الجزء الثاني / «حقبة النهضة الأولى»
صهيب أحمد - باحث في شؤون جنوب شرق آسيا
في هذه السِّلسلة, بدأنا في الجزءِ الأول بمقدمةٍ شرحت تشكُّلَ الدولة والمجتمع الماليزي, والأحزاب السِّياسيَّة الرئيسيَّة القائمة. وفي هذا الجزء الثاني سنتطرَّقُ إلى التَّنميةِ والنَّهضةِ التي اشتهرت بها ماليزيا, وانعكاسات تلك النَّهضةِ على السياسةِ والمجتمعِ الماليزي وواقعها اليوم.
رغم وجود صناعاتٍ ومهنٍ حديثةٍ في ماليزيا منذ الاستعمار, إلا أنَّها كانت على نِطاقٍ ضيقٍ جداً ويوازي حجمَ مجتمعِ الأقلياتِ العِرقية, ولذا بقيَ مُجمَل الاقتصادِ الماليزي يُصنَّف كاقتصادٍ بدائيٍّ يعتمدُ على الزراعة وتربية المواشي والصيد، ولكن بعد حُكمٍ بدأ في العام 1981 وامتد لعقدين, نجحَ الطبيبُ والسياسي د. مهاتير محمد في تحويلِ الاقتصاد الماليزي إلى اقتصادٍ حديث قائم على الصناعاتِ والخدمات, ودخلت ماليزيا في عدَّةِ صناعاتٍ صعبةٍ ومعقدةٍ لم تدخلْها أغلبُ دولِ العالمِ الثالث، وبعدَ أن حقَّقَ رئيسُ الوزراءِ مُبتغاه في إدارةِ الدَّولة، تنازلَ عن الحكمِ بشكلٍ طَوعيٍّ في عام 2003, وخرجَ من دورِ القيادةِ المباشرةِ إلى دورِ المؤثِّر في المساراتِ العامَّةِ للدولة من خلفِ المسرح, مُخلفًا وراءَه دولةً حديثةً وعصريةً وذائعةَ الصيتِ على مستوى العالم. في سياقِ هذه السلسلة, من المهم التعرف على بعضِ أسبابِ النَّهضة الماليزية ونتائجها, والتي قد تساعدُنا في فهم التجربة الماليزية, بالإضافةِ إلى فهم بعض أسبابِ تأخُّرِ الواقعِ العربيّ عن هذه التجربة.
بذور النَّهضة الماليزيَّة
بعدَ صعود التَّوترات العِرقية – المذكورة في الجزء الماضي – في ستينيَّات القرن, أدركت النُّخبُ السِّياسيَّة والاجتماعيَّة ومن ورائِها الجماهير، النهايةَ السيِّئةَ التي قد تصلُ إليها تلك التوترات، وأنه لا يمكن تحقيقُ أيِّ مكتسباتٍ على أيّ مستوى ولأيّ مجموعةٍ سكانيةٍ بوجودِ انقساماتٍ حادةٍ تمزقُ المجتمعَ وتدمرُ بُنية الدولةِ الماليزية. ولذا سارعت النُّخبُ إلى تهدئةِ الأوضاع, وعقد مُصالحة مُجتمَعية وترتيب العَقدِ الاجتماعي الذي تنازلت فيه النُّخبُ العِرقية عن بعضِ متطلباتِها لتحصيلِ البعض الآخر، ووصلَ الجميعُ إلى قناعةٍ بوجوبِ العملِ على ما يوحِّدُ البلاد ويُجمِّعُ سكانها, وهو الرَّغبةُ في الاستقرارِ وتحقيقِ التَّنميةِ والازدهارِ الاقتصادي, وكانت تلكَ هي البدايةُ الحقيقيَّةُ للنهضةِ الماليزية بعدما كادت أنْ تغرقَ في أتون تفكك المجتمع الماليزي وحرب أهلية وانفصال لأكثر من ولاية.
من أوائلِ الأدواتِ التي تم تفعيلُها لتحقيقِ التنمية كانت المؤسسية، فمنذ الاستقلال, أُنشِئت في ماليزيا المؤسساتُ الحكوميَّةُ المحترِفةُ والمتخصِّصَة, وكانت تؤدِّي دورَها بالبحثِ والدراسةِ وإعطاء رأيها ومشورتِها في مجالاتِ اختصاصِها إلى القيادةِ السِّياسية، وفي غالب الأحيان, كانت القيادةُ السياسيةُ – رغم قوتها وكارزميتها – على مستوى كافٍ من الاحترافيةِ للأخْذِ بهذه الآراء المتخصِّصة ضمنَ اعتباراتها, أو حتى إعطائها الأولوية عند تحديدِ المواقفِ وأَخْذِ القرارات، ولذا استطاعَ الأداءُ الحكومي الماليزي النجاحَ لاعتمادِه على مبدأِ المؤسَّسِيَّة واحترام أصحاب التَّخصُّصات, ونفي الأداء الارتجاليّ أو الفرديّ للقيادةِ الماليزيَّة حتى ولو كانت خبيرةً كما في حالة د. مهاتير محمد، وهي بالتَّأكيد كانت قاعدةً تم تجاوزُها عدةَ مرات, لكنَّها بقيت قاعدةً أساسيةً في الحكمِ وإدارةِ الدولة، وبالتوازي مع هذه العلاقة بين مؤسسات الدولة والقيادة السياسية, كان فرضُ النظامِ والتزامِ المجتمع بالضوابط والقوانين، إذ لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال لأيِّ دولةٍ أو مجتمع الإنجاز والتقدُّم للأمامِ في حالِ شيوع الفوضى, سواءً على مستوى الأداءِ الحكوميِّ والعلاقة بين مؤسَّساتِ السلطة, أو على مستوى المجتمع وعلاقته ببعضِهِ أو علاقته بمؤسساتِ الدَّولةِ والقيادةِ السياسية، وهو من أشدِّ الأمورِ التي تفتقدُ إليها مجتمعاتُ العالم الثالث, ومنها المجتمعات العَربيَّة.
التعليم كان وبدون أدنى شكٍ هو أساسُ تطوُّرِ المجتمع الماليزي, ومن ثم اقتصاده وصناعاته وخدماته، وقبلَ أن يستلم د. مهاتير السُّلطة, شَغِل منصبَ وزير التَّعليم في فترةِ السبعينات في حكومتين, وبدأَ منذ ذلك الوقت بإعطاءِ الأولويَّةِ للتعليم في خُطَّتِه للنهوض بماليزيا، وبعد أن استمرَّت سياساتُ دعمِ وتطويرِ التَّعليم طوال السبعينات وحتى منتصف الثمانينات, حصدت البلادُ الثمارَ حينما أنتجَ التعليمُ أيدٍ عاملةً ومتخصِّصةً في عدةِ مجالات، وكانت تلك العمالةُ هي أساسُ النجاحِ في المشاريعِ الصناعيَّةِ والخدميَّة التي قامت في البلاد، علاوةً على تثبيتِ ثقافةِ القبولِ بالتعدُّدِيَّة الثَّقافية والعِرقية, والتركيز على العملِ والإنتاجِ للتقدمِ في المجتمع, وترك أسباب التخريبِ والتمزيقِ والدمار.
بالإضافةِ إلى ما سبق, حرصَت الدولةُ الماليزيةُ على الحفاظِ على مستوىً متدنٍ نسبيًا للفسادٍ إذا ما قورِنَ بدولِ العالمِ الثَّالث، وحتى فضيحة الفسادِ الماليِّ الشهيرةِ لرئيس الوزراء السَّابق نجيب عبدالرزاق ذ والتي سنتطرق إليها لاحقًا -, لم تكن بذلكَ الحجم الذي عطَّلَ النُّموَ الاقتصادي أو أوقفَ مسيرةَ التطورِ والتحديثِ في ماليزيا. وعلى الرَّغمِ من وجود فسادٍ ماليٍ ونهبٍ للأموالِ العامَّة, وفسادٍ إداريٍّ وخللٍ في نزاهةِ التعيينات الحكومية وغيرِها منذ الاستقلال, لكنَّ ذلك لم يقطع طريقَ التنميةِ والنهضةِ أو يوقفه. وأدَّى في أسوءِ الأحوالِ إلى تعطيلٍ جزئيٍّ وتأخيرٍ في بعضِ المواضع.
لم تستقر ديموقراطيةٌ ليبراليةٌ كاملة في ماليزيا, لكن لا يمكنُ توصيف النظام الماليزي بأنَّه نظامٌ دكتاتوري أو نظامٌ شموليّ أو نظام طغيان، فلقد تأسَّسَت التَّعدديةُ السياسيةُ في ماليزيا منذ استقلالِها وبشكلٍ حقيقيّ, وقد قادت التعددية في أكثر من مرةٍ لخسارةِ حزب UMNO الحاكم للانتخابات في بعضِ الولايات الماليزية, ووصلت الأحزابُ المعارضةُ إلى السُّلطة في تلك المناطق, علاوةً على خسارةِ التحالفِ الحاكمِ للانتخابات المركزية في 2018, ووصول أحزابٍ معارضةٍ إلى السلطة الفيدراليَّة لأولِ مرة، وكانَ هذا من العواملِ المساعدةِ على محاصرةِ الفساد, ودَفْعِ القيادةِ السِّياسيةِ للتَّركيزِ على الإنجازِ وتحقيقِ التَّنميةِ والاستقرار, واعتبارِ الإنجاز هو وسيلةُ البقاءِ في السلطة.
آخرُ العوامل الممكن ذكرُها في هذا السياق, هو غيابُ أي تدخلٍ خارجيٍ مثابر لتعطيلِ التَّنمية الماليزية. فحتى نهاية الثمانينات, لم تكن الدولُ الكبرى في العالمِ تعطي كثير الاهتمام والانتباه لمنطقةِ جنوب شرق آسيا, ولم تتدخل فيها بشكلٍ حقيقي، وهو الأمر الذي سهَّلَ على ماليزيا وغيرها من دول المنطقة تحقيقَ تنميةٍ اجتماعيةٍ واقتصاديَّة دونَ مشاكلٍ ومعيقات كُبرى، وعلى الرغم من أنَّ الأسبابَ المذكورة قد تبدو بسيطة, لكنَّها كانت أساسيَّةً في تحقيقِ النَّهضةِ الشهيرةِ في ماليزيا, والانتقالِ إلى حالةِ التطورِ والحداثةِ والرخاء الاقتصادي.
نتائج النَّهضة الماليزيَّة
بخلافِ الانطباعِ السائدِ في أذهانِ الكثيرين, لم تبلغْ ماليزيا بالحداثةِ ذ حتَّى اليوم – مستوى الدول الغربية, ولم تحل كلَّ مشاكلِ الاقتصادِ الحديث وتوفير الخدمات، وما زالَ هنالِك الكثيرُ أمامَ ماليزيا لتفعلَه لتحديثِ البُنيةِ التَّحتية والخدماتِ العامَّة والخدمات الإلكترونية وغيرها، وما زال لديها الأكثر لتطورَّه على صعيدِ الثَّقافة العامَّة في البلاد تجاه مواضيعَ مثل تقبُّل التنوع العِرقي والثقافي, وثقافة الإنتاجِ والعمل, وحتى أمور مثل الحِسّ الفني والجمالي والذوق العام وغيرها، إذن, فالإنجازُ الحقيقي لماليزيا لم يكن تقدمُها على الدول الغربية واليابان وكوريا, لكنَّه كان تقدمُها على جيرانِها من دولِ المنطقة, بالإضافةِ إلى تقدمها مقارنةً بما كانت ماليزيا ذاتها تعيشه في الستينات والسبعينات، وكان هذان العاملان هما سبب شهرةِ التَّجربةِ على المستوى العالمي, وتصنيف الشرق والغرب للتجربة الماليزية كتجربةٍ ناجحةٍ في التَّنمية والنهضة، ومع أنَّ ماليزيا لم تحل كل مشاكلها, لكنها أنجزت الكثير وعلى عدة مستويات.
أولًا: المستوى الاقتصادي
- تحويل الاقتصاد الماليزيّ من اقتصادٍ زراعي إلى اقتصادٍ يقومُ على الصناعة, وتم التأسيس لصناعاتٍ صعبةٍ ومعقدةٍ مثلَ: السيارات، والأجهزة الكهربائية، والأجهزة الإلكترونية, بلغ فيها حجمُ الإنتاجِ وجودته مستوى التصدير إلى عدة مناطق في العالم تشمل: آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، والشرق الأوسط، ووصل حجمُ الصادرات من هذه الصناعات الماليزية أكثر من 100 مليار دولار أمريكي في العام 2019 (40% من الصادرات).
- توفير البُنية التحتية اللَّازمة لاستقطابِ الاستثمارات الأجنبيةِ المباشرة بأحجامٍ كبيرةٍ إلى ماليزيا, والتي تبلغ قيمتُها الآن أكثر من 150 مليار دولار (13% من حجم الاقتصاد الماليزي).
- تحسين الإنتاج ورَفْع حصَّة الفرد من الناتج القومي، فعلى الرغم من أنَّ إجمالي الناتج القومي GDP PPP لماليزيا أصغرُ من الإجمالي في كلٍّ من إندونيسيا وتايلاند والفلبين, لكن إذا ما تم توزيع هذا الإجمالي على عدد السكان, تكون حصةُ الفرد الماليزي الأعلى في منطقةِ جنوب شرق آسيا بعد الدول فائقة الصِّغَر (بروناي وسنغافورة)، ويعتبرُ مستوى الدَّخل السَّنوي للفرد الماليزي الأعلى بين باقي دول العالم الثالث بعدَ دُولِ الخليجِ العربي.
- المحافظة على مستوى نموِّ الاقتصاد بمعدل 5.4% طوال الأربعين عامًا الماضية, ولم ينزل المعدل السنوي عن 4% إلا في أربعة أعوام كانت خلال أزماتٍ إقليميةٍ وعالميَّة، وهو الأمر الذي وفر دائمًا سوقًا نشطةً وفرصًا للعمل, وتدنٍ لنسبةِ البطالةِ في المجتمع الماليزي التي كانت تبلغُ قبل أزمة كورونا حوالي 3%.
ثانيًا: المستوى السِّياسي
- المحافظة على مستوىً عالٍ من الاستقلاليةِ السياسيةِ, ولم تؤدِ السياسةُ الماليزية -التي تميل إلى المهادنة والتصالح وعدم التَّصادُم- إلى التفريطِ في مبدأِ السِّيادة الوطنية, ولم تكن تتنازلُ فيما يخصُّ قرارها الداخلي، فعلى سبيل المثال, رفضت ماليزيا وبكلِّ حزمٍ أخْذَ قروضٍ ماليةٍ من صندوق النَّقدِ الدولي عندما حلَّت بها الأزمةُ المالية في 1998, وهو القرضُ الذي كان سيساعدُ ماليزيا في تجاوزِ الأزمةِ المالية, لكنَّه اشترط تغييرًا في سياساتٍ اقتصاديةٍ مَحليةٍ تُؤدي بالضرورةِ إلى إضعافِ الدولة، واستطاعت ماليزيا بالجهودِ الوطنيةِ الحكوميةِ والأهليةِ تجاوزَ الأزمة دونَ أخذِ القروض المصحوبةِ بالشُّروط الاجتماعية والاقتصادية.
- حسن الأداء في الإدارةِ العامة, أعطى للنِّظامِ السياسي شرعيةً حقيقيةً وقبولًا شعبيًا، وبغضِّ النَّظرِ عن الحساباتِ الحزبية, كانت دائمًا المشاركة الشعبية العالية في الانتخابات – التي لم تنزل عن 70%- دليلًا على قبولِ النِّظام السِّياسي والاقتناع به، وهو الأمرُ الذي وفَّر استقرارًا سياسيًا عاليًا جدًا سمح بتدفقِ الاستثماراتِ الأجنبية, واستقرارِ السوقِ الاقتصادي وسهلَ طريقةَ التَّنمية.
ثالثًا: المستوى الاجتماعي
- نظرًا لطبيعةِ النِّظام السِّياسي غير الشُّمولي, فلقد تأسَّسَت في ماليزيا منذ الاستقلال العديدُ منَ المُنظَّماتِ غير الحكومية NGOs الفاعِلةِ في المجالاتِ السياسيةِ والاجتماعية، وكانت تلك المؤسسات من أدوات المجتمع للتفاعلِ مع المراحل المختلفة, والتنظيم في تحقيق المطالب والمُبتغيات, وقد أدَّت تلك المنظماتُ بالفعل إلى تغيير الكثيرِ من الأمورِ والوقائع والقرارات والسياسات في تاريخِ البلاد.
- رغم وجود المشكلة العِرقية حتى الآن لكنَّها غالبًا كانت مشكلةً خاملةً, كما وساعدت التنميةُ على زيادةِ الاستقرار الاجتماعي بين الأعراقِ والثقافاتِ المختلفة, حتى بلغ السُّلَّمُ الاجتماعيُّ مستوىً يسمح بالتفاعلِ الثَّقافي الإيجابي بين الأعراق -في المدن الكبرى على الأقل- وتَبادُل العاداتِ والطِّباع والسلوكيات.
- مَحْوَ الأميةِ في ماليزيا ورَفْعِ مستوى التعليم، إذ بلغت نسبةُ الأمية في ماليزيا 5% في العام 2018, وتتكون نصفُ القوى العاملةِ في ماليزيا من أصحابِ التعليمِ الجامعي.
أدوار الأحزاب السِّياسيَّة خلال فترة النَّهضة
كان حزب اتحاد الملايو الوطني UMNO هو صاحبُ الفضلِ الأكبرِ بين الأحزابِ في تحقيق التَّنمية, باعتبارِه الحزب الذي قاد الحكومةَ طوالَ سنواتِ النهضة، ولدورِه القياديِّ في التنمية, إضافةً إلى دوره في تحقيقِ الاستقلال, وصلت شعبيةُ الحزبِ في ذُروةِ التنمية الاقتصادية ليكسب انتخابات 1995 ويحصل على أكثر من 85% من مَقاعد البرلمان، التي مثَّلت الماليزيين من مُختلَف الأعراقِ والطَّبقاتِ الاقتصاديةِ والمناطقِ الجغرافية، واستطاع البقاءَ في السلطةِ منذ الاستقلال، وحيازة ما لا يَقِلُّ عن ثُلثيِّ المقاعد حتى رحيل د. مهاتير محمد عن السُّلطة.
في نفس الفترة, كان قد تشكَّل فقط حزبان اثنان من الأحزابِ السياسيةِ المُعارِضةِ المذكورة ِفي الجزءِ الأول من هذه السلسلة، ورغم أنَّ هذه الأحزاب استمرَّت في دورِ المعارضة من منطلقِ قدرتها على تحقيق أفضل مما كان, لكنَّها بالتأكيد لم تصل في يومٍ من الأيامِ درجةَ التعاونِ مع جهاتٍ خارجيةٍ أو محاولة تدميرِ النِّظام السياسي أو المجتمع في سبيل الوصولِ إلى السلطة، وكانت دائمًا تقبل بالانتخابات وبنتائِجها, حتى حينما لم تحصل على 15% من مُجمَلِ مقاعد البرلمان في انتخابات 1995، وبذلك كان دورُها إيجابيًا في استقرار الدولةِ والنظام السياسي والاقتصاد, والتزمت بالمسيرةِ السِّلمية والنهجِ الديموقراطيِّ للتنافسِ على السُّلطة.
هذه باختصار هي ملامحُ النهضةِ التي تعيشُها ماليزيا منذُ التسعينات, ولا شكَّ أنَّ القيادةَ السياسية كانت صاحبةَ الدورِ الطليعي والمبادِر لتبني المسارات التي أدَّت إلى التنمية، لكن لا يجوزُ على الإطلاقِ إغفال حقيقة مهمة, وهي أنَّ الشعب الماليزي بعمومِه كان متجاوبًا بشكلٍ بنَّاء مع توجهات القيادة الوطنية, وأن مجمل المجتمع الماليزي اجتهدَ وعملَ خلال تلك الفترة لإنجاحِ المبادراتِ والمشاريعَ الحكومية, وأنَّه تعاطى بإيجابيةٍ مع القيادةِ السياسية وأعطاها الفُرَصَ للإدارةِ وتدبيرِ شؤون البلاد.