
الإِدارة التعليميـــة في كوريا الجنوبية وأثَرِها في نهضة الدولة
د. طارق خضر / دكتوراه في التربية والمناهج
تُعدُّ كوريا الجنوبية – جمهورية كوريا – من أكثرِ دولِ العالَم تعليمًا، وِفقًا لمنظمةِ التَّعاوُن الاقتصاديّ والتَّنمِية (OECD) والصادرِ عام 2018م، فقد أكمل 70%من أفرادِ الشَّعب الكوري والذين تَترَاوَحُ أعمارُهم بين 24 و35 عامًا شكلاً من أشكالِ التَّعليم العالي وهي من أعلى النِّسب على مستوى العالم.
بعدَ خمسٍ وثلاثين عامًا من خضوعِ شعبها لسيطرةِ اليابان تحرَّرَت كوريا من الاستعمار الياباني عام 1945م، ورغم فَقرِها بموارِدها الطبيعية وتميُّزها بوعورةِ تضاريسِها، وسَواحلِها الصخريَّة شديدة الانحدار ومُناخها القاريّ، إلّا أنَّ هذا لم يمنعْها مِن أنْ تَتَطوَّرَ وتنموَ في غُضونِ سنواتٍ قليلةٍ بِسبب اهتمام حكوماتِها المتعاقبةِ بموضوع التعليم وتطويرِه، فتحوَّلت من مُجتمَعٍ زراعيٍّ فقيرٍ وواحدة من أفقرِ بلدان العالم، إلى المرتبةِ الثانيةَ عشرةَ بين أكبرِ الاقتصادات في العالم ورابِع أكبر اقتصادٍ في آسيا.
أَنشأَت التقاليدُ الكُونفوشيوسيَّة مجتمعًا يجلسُ فيه الباحثُ على قمَّةِ التَّسلسلِ الهرمي الاجتماعي، والذي يعتبر تحقيق المعرفة أولويةً له، والشخص المتعلِّم في كوريا يحظَى باحترامٍ كبير؛ لذلك نلاحظُ حاليًا أنَّ أكثرَ من ثلثيّ الشباب الكوريِّين يلتحقون ببرامجِ التعليمِ العالي.
الحكومة والاهتمام بالتَّعليم
كانت نقطةُ التحوِّل في تاريخِ هذا البلد مع قيام الجمهوريَّةِ الكورية عام 1948م، حيث بدأت الحكومةِ بتغييراتٍ جَذريةٍ ورَسم خططٍ طَموحةٍ للنِّهوض بها على الصُّعد كافةً، وجعلت من التعليمِ أداةً فعَّالةً وأساسيَّةً في مسيرة التنمية السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، وخَطَّت في دستورِها الصادر عام 1948م والمُعدَّل عام 1987م ما يَحفظُ لكلِّ أبناء الشَّعبِ بشتَّى أعمارِه وشرائِحه حقَّ التعليم، فوَرَدَ في المادَّة رقم»31» من الدستورِ الكوري بَند رقم 3- التعليم إجباريٌّ ومجانيٌّ، وفى بند رقم4- استقلال التعليم ومهنيّته وحياده السياسي واستقلال معاهد التعلم العليا مكفولة، كما أكَّد البند رقم 5- على تشجيعِ الدَّولة على التعليمِ مدى الحياة.
تضاعَف التزامُ الحكومةِ الكورية الجنوبيَّة بعدَ الحرب بل أصبحت أكثر حِرصًا على التعليم، فَفِي عام 1945م، بلغ مُعدَّل الإِلْمام بالقراءةِ والكتابة 22 %، بينما الآن تحومُ هذه النِّسبة حول 99 %، وهي تُعتبَر واحدةً من أعلى المعدلاتِ في العالم، ويَعتقدُ الكوريون الجنوبيُّون أنَّ التعليمَ هو السببُ في نموِّ بلادِهم وتحويلهم من أحدِ أفقرِ البلدان في العالم إلى الاقتصاد الثَّاني عشر دوليًا.
وعلى الرَّغم من نُشوبِ الحربِ الكورية عام 1950م، والتي دمَّرت حوالي 40 % من المباني المدرسيةِ وما تَبِعَهُ من إغلاق المدارس في جميعِ أنحاء البلاد، إلّا أنَّ هذا لم يَحرِف البوصلةَ الحكومية عن أهدافِها، ومعَ العددِ القليل جدًا من المباني التي سَلِمَت خِلال الحرب، سأل المعلمون الإدارة التَّعليميَّة أين ينبغي أن تُعقَد الصفوف؟، فكان الجوابُ حازِمًا: «أن يدرسوا بالخارج! على مجاري الأنهار، وعلى سُفوحِ الجبال وفي أيِّ مكان، وبدون الكُتب»، وفِعلًا هذا ما حدث، لقد تَعلَّم الطلابُ في الجداولِ الجافَّة، وداخلَ الخيامِ وفي محطَّات القِطارات التي لمْ تسلَم من القصف، وعَمِلت المجتمعاتُ المحليَّة معًا لجمع الأموال وإعادة بناء المدارس، وبِحُلول ربيع عام 1951م، أُعيد فتح 60 % من المدارس، وعاد ثلثا أطفالِ الدَّولة مرةً أخرى إلى صفوفِهم، وتضاعَف عددُ المدارس في 1954م لتصبحَ 19.693 مدرسة بعد أن كان ثلاثة ألاف فقط. وارتفع عددُ الطُّلاب من 1.5 مليون إلى 11.5 مليون طالب (ربع السكان) وأصبح عدد جامعاتِها نحو 300 جامعة.
ومِن المُلفِت في هذه المقارنَة البسيطة في عام 1960م لم يكن هُناك فارقٌ في الدخلِ القَوميّ بين باكستان وكوريا الجنوبيَّة، ولكن الفارقَ الكبير كان بين المُسجلين في المدارس الابتدائية، فبينما كانت النسبة في باكستان 30%، تجاوزَت نسبة المسجلين في كوريا الجنوبية 94 %.
ومِمَّا يُميِّز التعليم في كوريا الجنوبية هو تخصُّص الجهاتِ التي تُشرِفُ على تطويرِه، ومن هذه الجهات المعهد الكوري للمناهجِ والتقويمِ وخدمات المعلوماتيَّة والأبحاث والتربية الكورية، وتُظهِرُ الحكومةُ التزامًا ثابتًا بالاستثمارِ في التعليم، وفي تصريحٍ لوزارةِ الماليةِ الكورية الجنوبيَّة في أغسطس 2019م، ذكرت فيه أنّ ميزانيةَ التعليم بلغت 146 مليار دولار أمريكي أَي بزيادِة قدرها 10.5 % من ميزانيَّة الحكومة المركزيَّة.
دَورُ الإِدارة المدرسيَّة والمُعلِّمين في تطوير التَّعليم
مُدير المدرسة يتحملُ العِبءَ الأكبر، وهو المسؤولُ الأوَّل عن مُخرَجات المدرسة، ويتميزُ منصبُ مدير المدرسة بأهميةٍ كبيرة، ولا يَصلُ إلى درجةِ مدير إلّا من أمضى خمسةً وعشرين عامًا في مِهنة التّعليم، على أنْ يعملَ مُعلِّمًا في إحدى المراحل ثم مُعلمًا أوَّل ثُمَّ وكيلًا لمدةِ سِتِّ سنوات، ليصبحَ بعدها مُديرًا مسؤولًا ذا صلاحيات تَفوقُ نظيرَه في عددٍ كبيرٍ من الدول كالولايات المتَّحدة وبريطانيا.
وتُعَدُّ مهنة التعليمِ من المهن المرغوبةِ في كوريا نظرًا لارتفاع مستوى الأَمن الوظيفيّ، حيث يبلغُ معدَّل الرواتب فيها ما بين 16000 دولار – 37000 دولار في السنة (1350 – 3100 دولار في الشهر).
يتمُّ تأهيل المعلمين في الجامعةِ حسبَ المراحل الدراسية، إذ يوجد 13 جامعة لإعدادِ المعلمين والمعلمات للتَّدريس في المرحلة الابتدائية فقط، وعدد آخر من الجامعات لإعداد معلمي المرحلتين المتوسِّطة والثانوية، ورُخصة التدريس لا تُعطى إلّا لمَن اجتاز اختباراتٍ صَارِمةً وحصلَ على شهادة البكالوريوس مِن إِحدى الجامعات التَّربوِية، أو من أحدِ الأقسام التربويَّة في الجامعات الأخرى، وتحظَى هذه المهنة بإقبالٍ كبيرٍ على الرغمِ من أنَّ 20% فقط منهم يجدون فرصةَ عملٍ كمعلمين في المدارسِ الثانوية.
مِن مُميِّزات نظام التعليم توفيرُ بيئة العملِ الصحيَّةِ التي تُساعد المُعلم على الأداءِ المتميز، فالمعلم يشاركُ في اتِّخاذ القراراتِ المتعلقةِ بالعملية التَّربوية كافةً، حيث يُشَكِّل المعلمون نصفَ مجلسِ إدارةِ المدرسة المكوَّن عادةً من 12 عضوًا، (6) منهم من أولياء الأمور و (6) من المعلِّمين، ويساعِد هذا النوعُ من المشاركةِ في اتِّخاذ القرار على رفعِ مُستوى الانتماءِ للمدرَسة وللمِهنة.
وتتميزُ الإدارةُ التَّعليميَّةُ الكوريَّة بوجودِ جمعِيَّات المعلمين المحلِّية على مستوى المدينةِ والمقاطعة، واتِّحاد المعلمين الكوري (KFTA) هو المُمثلُ المركزيّ لهذه الجمعيّات، ويلتقي سنويًا مع وزارةِ التعليم وتنمية الموارد البشريّة لمناقشةِ رفاهيَّة المعلمين، كما توجد لهم ثلاثُ نقاباتٍ للمُعلِّمين.
نِظام التَّعليم والمناهج:
ينقسمُ هيكلُ التعليم العام الكوريّ إلى ثلاثةِ أجزاء: سِتّ سنواتٍ في المدرسة الابتدائية، تَلِيها ثلاثُ سنواتٍ في المرحلةِ الإعدادية، ثم ثلاث سنواتٍ في المرحلة الثَّانوية، ولا تزالُ الفصولُ الدراسيةِ في العديدِ من المدارسِ الثانوية المُختلِطة مقسَّمةً على أساس الجنس، والمناهجُ موحدةً لكِلا الجنسين، ووصلت نسبةُ الاختلاط في الصفِّ الواحد في أقصى صُورِها إلى 10%.
يتكوَّنُ المنهجُ الأساسيّ مِن تِسع موادٍ أساسيَّة: التَّربية الأخلاقيَّة، واللُّغة الكورية، والدِّراسات الاجتماعية، والرياضيَّات، والعلوم، والتَّربية البَدَنية، والموسيقى، والفنون الجميلة، والفنون العمَليَّة، يبدأُ تعليمُ اللُّغةِ الإنجليزيَّة في الصفِّ الثَّالث الابتدائيّ، ومِن الجديرِ بالإشارةِ أنّ كوريا حصلت على أقلِّ المعدلاتِ في تغيُّب التلاميذِ عن المدارس بنسبة 2% وإذا ما قُورِنَت بِدُولٍ أخرى كإيطاليا فقد وصلت نسبة الغياب فيها الى 50 %، والولايات المتحدة الأمريكية الى أكثر من 30 % سنة 2015م.
مِن خِلال المسابقاتِ الدوليةِ وخاصةً ما أعلنته منظَّمةُ التعاون الاقتصاديّ والتَّنمية (OECD) عن نتائجِ برنامج 2015 لِتَقييم الطلاب الدوليين (PISA)، والذي شمِل حوالي 540،000 من الشبابِ في سن 15 عامًا في 72 دولةٍ مختلفة، حَصَد الطالبُ الكوريّ مراتبَ متقدِّمة مِثل المرتبةِ الأولى في الرياضيات، والثَّالثةِ في القراءة، والخامسةِ في العلوم، وتمتلكُ كوريا أيضًا نظامًا مدرسيًا عالي الجَودة عند قياسِه من خِلال أداءِ الطُّلاب في الاختبارات الموحدَة، تُصنَّف الدولةُ باستمرارٍ بين أفضلِ البُلدان أداءً في برنامجِ تقييمِ الطلابِ الدَّوليين (PISA).
ويُعتبَر التَّعليم هو الأداة الأُولى لتغييرِ ونهضةِ أيّ مجتمع إذا ما وُضِعَ على رأس سُلَّمِ الأولويات، وأخَذَ ما يستحِقّه من اهتمام الجهاتِ الحكوميةِ صاحِبة القَرار مع ربطه بالرُّؤية الصحيحةِ للتطويرِ والتحديث، والذي سيجعلُ المؤسَّسات التَّعليميَّة تخدمُ الخُطط والبرامجَ التَّنمَوية التي تَتَطلبُها مجتمعاتُها، لأنَّ التعليمَ هو الرافعةُ الأساسيَّة للتنميةِ الاقتصاديّة والحضاريّة في أيِّ مجتمع.