تقارير

السياسة الماليزية – – الجزء الأول – «التشكل والتكوين»

صهيب أحمد - باحث في شؤون جنوب شرق آسيا

في مايو 2018 شهدت ماليزيا حدثاً سياسياً فارقاً تمثل في خسارة التحالف الحاكم لماليزيا منذ الاستقلال في الانتخابات البرلمانية وفوز تحالف المعارضة لأول مرة، بعكس غالب التوقعات المحلية والدولية التي تنبأت ببقاء السلطة بيد نفس التحالف. وتشهد ماليزيا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن عدة تفاعلات بنيت على هذا التغيير السياسي الذي يشكل منعطفاً جديداً في تاريخها. في هذه السلسلة سنتطرق لشرح ما حدث وما يحدث على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ماليزيا, وسنبدأ في الجزء الأول بمقدمة تشرح شكل الدولة والمجتمع والثقافة الماليزية بالإضافة إلى استعراض الأحزاب السياسية الرئيسية القائمة.

تبلور الدولة والمجتمع الحديثين في ماليزيا 

كانت الدولة الماليزية قبل الاستعمار وخلاله مقسمةً على مناطق متفرقة تقودها عائلات حاكمة ومتنازعة، وتوحدت البلاد بعد الاستقلال في نظام اتحاد فيدرالي كالولايات المتحدة لكنه يتسم بتعقيد وتنوع أكبر، إذ يشتمل الاتحاد الفيدرالي الماليزي على الخصائص التالية:

تنقسم دولة ماليزيا جغرافياً إلى شطرين رئيسيين في شرق البلاد وغربها ويفصل بينهما ساعتان من السفر طيراناً فوق المياه، ويبلغ مجمل عدد الولايات في الشطرين 13 ولاية.

يتألف الشطر الغربي من 11 ولاية، 9 ولايات منها كانت بنظام إدارة ملكية قبل الاستعمار وخلاله، وبقي نفس النظام الملكي والعائلة الحاكمة في كل منها، وولايتان تملكان نظام حكم غير ملكي. وبحكم النظام الفيدرالي، تمتلك كل ولاية جزءاً من الإدارة الذاتية.

أما شرق ماليزيا يتكون من ولايتين تحتضنان فسيفساء من المجموعات العرقية والثقافية المغايرة للجزء الغربي، وتمتلكان بعض الامتيازات المتصلة بالخصوصية الثقافية ونظم إدارة غير ملكية وإدارة ذاتية أوسع من ولايات الشطر الغربي.

ورغم التباعد الجغرافي والتنوع الكبير بين المناطق والثقافات ونظم الحكم وصلاحيات الإدارة الذاتية, لكن الولايات استطاعت تشكيل الاتحاد وتحقيق التنمية والنهضة لاحقاً. تأسس بعد الاستقلال لكل ولايةِ دستورها وبرلمانها المحلي الذي ينتخب بالاقتراع السري المباشر من سكان الولاية ويشكل حزب الأغلبية فيه حكومة الولاية ويديرها بالتشارك مع ملك الولاية (في حالة الولايات الملكية)، بالإضافة لخضوع كل الولايات إلى الدستور الفيدرالي والبرلمان المركزي المنتخب الذي يشكل الحكومة الفيدرالية. وتم تشكيل مجلسٍ لملوك الولايات التسعة ينعقد كل خمس سنوات ليختاروا واحداً منهم كملك دستوري يدير شؤون الاتحاد الماليزي. وبعد الاستقلال تقاسمت البرلمانات والحكومات المنتخبة السلطة مع الملوك ولم تنتزع السلطة منهم إلا بعد التعديلات الدستورية في التسعينات. حينها فقط أصبح رئيس وزراء الاتحاد هو القائد الفعلي البلاد والوزير الأول في الولاية حاكمها، وتراجع دور الملوك وصلاحياتهم في الإدارة والسياسة والاقتصاد، واقتصروا على التدخل لحل الأزمات الحكومية والبرلمانية والإشراف على إدارات الشؤون الإسلامية في الولايات والتمثيل الرمزي للغالبية العرقية وسكان البلاد الأصليين, وأصبح النظام السياسي أقرب للملكية الدستورية البريطانية.

أما الواقع الاجتماعي والاقتصادي الماليزي الحديث فقد تشكل في كنف الاستعمار البريطاني الذي استمر في ماليزيا لأكثر من قرن، وخلال تلك الحقبة استجلب المستعمرون الآلاف من الصين والهند إلى ماليزيا ليكونوا الأيدي العاملة في المؤسسسات والمصالح البريطانية في ماليزيا الأمر الذي أدى إلى إخراج عرقية المالاي وسكان البلاد الأصليين من المعادلة الاقتصادية إلى جانب استبعادهم عن الفعل السياسي الذي احتكرته سلطة الاستعمار. واستقر المجتمع الماليزي قبيل الاستقلال على تشكل 3 مجموعات سكانية رئيسية لكل منها هويته ولغته ودينه وواقعه الاقتصادي. تكونت أكثرية من عرقية المالايو والسكان الأصليين يدين معظمها بالإسلام ولغتها الأم هي لغة المالايو ولكنها لم تملك أكثر من 2% من مجمل ثروات البلاد وتقريباً كانت خارج كل أشكال الاقتصاد الحديث واعتمدت على الزراعة والصيد وقطنت القرى. وتشكلت أقلية صينية ممن يعتنقون البوذية والمسيحية والإلحاد ولها لغاتها الصينية والذين ملكوا جل ثروات ماليزيا ومصانعها وشركاتها واستقروا في المدن. كما تبلورت أقلية هندية يتبع غالبيتها الديانة الهندوسية أو البوذية ويتحدثون اللغة التاملية وشكلوا العمالة الأساسية في العديد من القطاعات المهنية الحديثة (الطب، الهندسة، المحاماة … إلخ) وتشاركوا مع العرقية الصينية بالإقامة في الحضر. بالإضافة إلى وجود مجموعات سكانية صغيرة من بقايا الأعراق الأوروبية المستعمرة وفسيفساء من المجموعات العرقية والثقافية القديمة والمركزة في ماليزيا الشرقية.

بعد الحرب العالمية الثانية وبزوغ آمال في انتهاء الحركات الاستعمارية تشكلت ثلاث منظمات تمثل الأعراق الرئيسية الثلاثة وتحالفت على أساس عقد اجتماعي وسياسي للمطالبة بالاستقلال ولإدارة الدولة بعد تحقيقه، وبعد الاستقلال وبمقتضى ذلك العقد تحصلت كل المجموعات العرقية على المواطنة الماليزية وتشكلت المنظمات الثلاث كأحزاب سياسية ماليزية وتحالفت لإدارة السلطة، وصاغت العقد الاجتماعي وتوافق ما قبل الاستقلال في الدستور. من أهم ما أقره العقد الاجتماعي ودستور الاستقلال، هو ضرورة التعايش بين المكونات العرقية والثقافية المختلفة دون اندماج والمحافظة على المكونات الثقافية (الدين / اللغة / العادات والتقاليد) لكل المجموعات السكانية في البلاد، وذلك على العكس من النماذج السائدة في العالم التي تقتضي الذوبان والانصهار في هوية وطنية مستحدثة (كالحالات الأمريكية أو السنغافورية). فعلى الرغم من إقرار الدستور للإسلام كدين رسمي ولغة المالايو كلغة رسمية للدولة، لكن الدستور نفسه ألزم الدولة والحكومة بالمحافظة على كافة الثقافات الموجودة وتعزيزها، وأكد حرية ممارستها في المجالات الخاصة. ولذلك مثلاً تنشئ الدولة مدارساً حكومية ومنفصلة لمتحدثي اللغات الرئيسية الثلاث (المالايو – الماندرين الصينية – التاميلية الهندية) ولا تمنع الدولة إقامة أي معابد أو جمعيات للديانات المختلفة، ولا يحرم الدستور إقامة الأحزاب وممارسة العمل السياسي على أساس عرقي وثقافي، بل على العكس, أصبحت الأحزاب السياسية القائمة على أساس عرقي وبشكل قانوني هي إحدى سمات السياسة الماليزية الحديثة.

التمييز الإيجابي والسلم الأهلي

كان مما أقره العقد الاجتماعي بين الأحزاب السياسية العرقية قبل الاستقلال، وتمت صياغته في الدستور إقرار سياسة التمييز الإيجابي لصالح عرقية المالاي منذ الاستقلال كمحاولةِ لتعويضهم عن التراجع الاجتماعي والثقافي بسبب اضطهاد المستعمرين لهم، ودفعهم للحاق بالأقليات المتفوقة, وذلك برضى الأحزاب السياسية التي مثلت تلك الأقليات عند الاستقلال. ومن السياسات التي أقرت لتحقيق هذا الإنصاف، سياسة إعطاء الأولوية لصالح عرقية المالايو في الوظائف الحكومية وبعض الامتيازات والإعفاءات في الشؤون الاقتصادية وغيرها, إلى جانب التوافق على هيمنة المالاي على القرار السيادي في ماليزيا. وعلى هذه الأسس بقي التحالف في السلطة منذ الستينات وحتى انتخابات 2018.

 على الرغم من كل ما سبق من التنوعات العرقية والجغرافية والتباينات الدينية والثقافية والاقتصادية وسياسات التمييز الإيجابي, فلقد تميز الماليزيون بدرجة عالية من الهدوء والمسالمة في سلوكهم تجاه بعضهم البعض، وتمتعت دولتهم المستقلة بدرجةِ عالية من الاستقرار والسلم. فباسثناء مواجهات 1969 الدامية بين الأقليات والأغلبية من عرقية المالاي (والتي استمرت لفترة قصيرة)،  والمحاولة الفاشلة لاستقلال إحدى الولايات ذات الأغلبية من العرقية الصينية في نفس الفترة، لم تعرف البلاد الاقتتال الأهلي وحافظت النخب العرقية على حد أدنى من التفاهم والمساومة لكي لا تنقسم البلاد أو أن تنجر إلى أي استقطاب عرقي أو ثقافي يدمرها. ولم تعرف ماليزيا أي استقطاب ديني علماني حاد أو أي استقطاب حاد بين الأديان وغابت هيمنة الأحزاب المتشددة دينياً أو عرقياً عن المشهد السياسي. لكن الاختلاف العرقي والثقافي في ماليزيا بقي حاضراً وانعكس في المنافسة أو التحدي السلمي بين المجموعات السكانية المختلفة باندفاعهم إلى مستويات أعلى من غيرهم من التمسك بثقافاتهم وفي تعزيز معدلات الإنجاب والتكاثر، رغم التنمية وانتشار نمط الحياة الحديث الغربي. فعلى سبيل المثال يوصف المجتمع المسلم في ماليزيا باعتباره مجتمعاً إسلامياً حافظ على الكثير من العادات والتقاليد والعبادات الإسلامية, لكن الطبيعة الاجتماعية الموصوفة أعلاه طبّعت التدين الإسلامي في ماليزيا ليكون تديناً هادئاً أقرب للصوفية المتسامحة عن التعصب أو التشدد. ولذا حتى بعد عملية التنمية والنهضة والتحديث، لم تقم أي حركات أصولية تعادي الحداثة, وكانت البلاد من أقل الدول تصديراً للعناصر الإرهابية في موجات الصعود للحركات الإسلامية المتطرفةو وتعد من أقل الدول الإسلامية تعرضاً لهجمات الإرهابيين. وامتازت الأقليات الدينية في ماليزيا بنفس هذه الأنماط التي استطاعت الجمع بين التمسك بالثقافات والأديان الموروثة، إلى جانب الحفاظ على التعايش والتسامح والسلم الأهلي.

إذا،ً فالتنوع العرقي أو الثقافي أو الديني أو حتى التباعد الجغرافي لا يؤدي بالضرورة نحو العنف والمواجهة والانفصال, وإنما عنصر الإرادة البشرية (الفردية والجماعية) هو القادر على تحديد المخرج من وجود مثل هذه التنوعات حتى بوجود ماضٍ قاتم مثل سياسات التمييز العنصري والتهجير القسري وغيرها. ومتى توفرت تلك الإرادة تستطيع أكثر الشعوب تباعداً وانقساماً وتنوعاً أن تجد المشترك بينها، وأن تتوحد على تأسيسه وحمايته وأن تبني من نفسها أمةً موحدة, مستقرةً ومتطورة. وكان نجاح ماليزيا في بناء استقرار اجتماعي واقتصادي، وخلق تنمية ونهضة في وجود هذه التنوعات هو من عوامل شهرة التجربة الماليزية على المستوى العالمي.

إعلام المنتدى

العلاقات العامة والإعلام منتدى آسيا والشرق الأوسط More »

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button