
السياسة الماليزية – الجزء الرابع – المرحلة الانتقالية بعد 2018م – حتى انتخابات 2022م
صهيب أحمد - باحث في شؤون جنوب شرق آسيا
في الأجزاءِ الماضية، تمَّ تحليل أساسات وتطوُّرات المَشهد السياسيِّ الماليزيِّ التي أدت إلى التَّغيير السياسي التاريخي في 2018م. في هذا الجزء؛ سيتمُّ التطرق إلى تحليل معاني ومآلاتِ هذا التغيير والمرحلةِ الانتقاليةِ القائمة.
الحكومة الأولى بعد 2018م
كما ذكرنا في السَّابق، فقد انقسم المشهدُ الحزبيُّ في ماليزيا بين تيارين: تيارٌ ينطلق من الهويةِ القوميَّة المالاويَّة لأغلبِ سكان البلاد، ويسعى للحفاظِ على الامتيازات الخاصَّةِ بعرقيةِ المالايو في شؤون السياسة والاقتصاد والمجتمع، يُناظِره تيارٌ صاعدٌ يطمح إلى إقامة نظامٍ سياسيٍّ ماليزيٍّ بديل، تتساوى فيه الأعراقُ أمام القانون والدُّستور والأجهزةِ الحكومية، وتبلوَر التياران في تحالفَين انتخابيَّيْن أساسيين، أحدهما يقوده حزبُ (أمنو) الذي لم يغادر السلطةَ منذ الاستقلال، و(تحالف الأمل) بقيادة (د. مهاتير محمد) و(أنور إبراهيم) اللَّذَين ربحا الانتخابات في 2018م، وانتقل بعدها أمنو إلى دور المُعارِض للحكومةِ الجديدة.
لم يكن متوقَّعًا أن يتمكنَ حزب (أبناء الأرض) بزعامة د. مهاتير -الموالي للنِّظام القائم- من الاستمرار طويلًا تحت مظلَّة الأمل بجانب الأحزاب المُناوِئة للنظام، وبالفعل بدأ جناحا التَّحالُف الحاكم في التنازُعِ والتَّصارع على كلِّ ما يُفرقهم، مثل: طبيعة البرنامجِ الحكوميّ، ومدى الإصلاحيةِ الإداريةِ والدستوريةِ والقانونيةِ المطلوبة، إضافةً إلى الاختلافِ على الالتزام بالوعد الانتخابيِّ بتنازُل د. مهاتير عن رئاسةِ الوزراء إلى أنور إبراهيم بعد عامَين من تشكيل الحكومة، وعمل كلٌّ من الجناحَين على كلِّ ما يُمكن من إجراءات؛ لتعزيز موقفه أمام الطَّرفِ الآخر. في الأثناء، كانت شعبيةُ الحكومةِ المُنتخَبة وأحزابها تتراجع إلى حدٍّ كبيرٍ؛ بسبب هذه الصِّراعات الداخلية التي لم تشهدها أيُّ حكومةٍ ماليزيةٍ من قبل، بجانب عدم الالتزام بالوعود الانتخابية، وتراجع نِسب النُّمو الاقتصادي.
الحكومة الثَّانية
ظلَّت الصِّراعاتُ الدَّاخلية في تحالف الأمل تنتهي إلى القبول بالواقعِ الذي يفرضه رئيسُ الوزراء، حتى اقترابِ الموعد المُفترَض لتمرير السُّلطةِ إلى أنور إبراهيم، عندها اشتدَّ الصِّراعُ بين حزب د. مهاتير أبناء الأرض من جهة، وبقيَّة أحزابِ التَّحالف من جهةٍ أخرى على وجوب تولِّي أنور زمام الأمور. وفي فبراير 2020م، أعلن أبناء الأرض انسحابَه من التَّحالف الحاكِم، واضطرَّ د. مهاتير للاستقالةِ من منصبه، لتسقطَ حكومة الأمل بعد مرور أقلّ من عامين على انتخابها، وبعد محاولةٍ أخيرةٍ فاشلةٍ من قيادات حزب د. مهاتير لإقناعه ليترأسَ تحالفًا مع أمنو و(الحزب الإسلامي)، رشَّح الحزبُ القيادي (مُحيي الدين ياسين) الذي أصبح رئيسًا للوزراء على رأس التَّحالفِ الجديد، وعاد تحالف الأمل إلى المعارَضةِ من جديد إلى جانب د. مهاتير محمد الذي فُصل من الحزب الذي أسَّسه؛ لرفضِه التحالف المالاوي، وبدأ بتشكيل حزبٍ جديدٍ باسم (المُحاربين).
بعد أسبوعين من وصول التَّحالفِ إلى السُّلطة، أعلنت ماليزيا الإغلاقَ الشاملَ لمواجهةِ وباء كورونا، وانشغلت الحكومةُ في الإجراءاتِ الخاصَّة بالحدِّ من آثار الوباء والإغلاق على الوضع المَعيشيِّ والاقتصاديِّ للمجتمع. وعلى غِرار تحالف الأمل، بدأت الخلافاتُ بين عناصر التحالف المالاوي في التَّصاعُد، حيث إنَّ الحزبَ صاحب الحصةِ البرلمانيةِ الأكبر في التحالف -أمنو- كان يطالبُ بتعزيز موقِعه في التَّشكيلةِ الحكوميةِ التي غلبَ عليها حزبُ رئيسِ الوزراء -أبناء الأرض-. ورأى الكثيرون أنَّ رئيسَ الوزراء محيي الدين استغلَّ حالةَ الاستنفارِ أمام الوباء لتعزيز موقعه في السُّلطةِ أمام أمنو. وعند اشتداد الصِّراع، منع رئيس الوزراء في أكثر من مناسبةٍ عقدَ جلساتٍ برلمانيةٍ للتصويت على سحب الثِّقةِ من حكومته؛ بحجَّةِ الإغلاق الشامل ومُكافحةِ الوباء، ودفع إلى إعلان حالةِ الطَّوارئ -التي تقضي بمنع تغيير الحكومة- حتى منتصف 2021م.
الحكومة الثَّالثة
عند اقترابِ حالة الطَّوارئ من نهايتها، أعلنت قياداتٌ في أمنو عن سحب دعمِهم لحكومةِ محيي الدين ياسين، وطالبوا بعقد جلسةٍ برلمانيةٍ حالَ انتهاء حالة الطوارئ للتَّصويتِ على سحب الثقةِ من الحكومة، وبعد عِدة محاولاتٍ من مُحيي الدين ياسين للبقاءِ في السُّلطة وعرض التحالُف مع جميع الأحزاب المُعارِضة له، قدَّم استقالتَه وسقطت ثاني حكومةٍ ماليزيةٍ في ثلاث سنوات، وقام نفسُ التحالفِ بين: حزب محي الدين ياسين، وحزب أمنو، والحزب الإسلامي؛ بتشكيلِ الحكومة الجديدة، ولكن بتصدُّرِ أمنو للتَّشكيلةِ الحكومية التي ترأَّسها أحدُ قياداته.
خلال عامٍ من تصدُّر حزب أمنو للحكومةِ الماليزية، عمل الحزبُ على تعزيزِ موقعه، واستعادةِ شعبيَّته من خلال بعض الإجراءاتِ الحكوميةِ الشعبية، مثل: إنهاء حالةِ الإغلاق الشَّامل، والعمل على استعادةِ نشاط المؤسَّساتِ الاقتصادية؛ استعدادًا للانتخاباتِ البرلمانيةِ القادمة، وأُجريت انتخاباتٌ مبكرةٌ في اثنتين من الولاياتِ الماليزية، واكتسح فيها أمنو نتائجَ المجالسِ التَّشريعية، وشكَّل منفردًا حكوماتِ الولايتين، واعتقدت قياداتُ الحزبِ أنَّ المجتمعَ الماليزي جاهزٌ لانتخاب أمنو؛ ليعودَ إلى الحكم منفردًا دونَ الأحزابِ المالاويةِ الأخرى مثل: (حزب محي الدين ياسين، والحزب الإسلامي الماليزي، وحزب المحاربين الذي شكله د. مهاتير محمد)، ولذا خلال العام، استمرَّت التوتراتُ والمُشادات مع أحزابِ التَّحالف الحاكم، إلى جانب التوترِ داخل حزب أمنو بين تيارين مُتصارعَين، فمنذ خروج أمنو من السلطة تشكَّل تياران مختلفان داخل الحزب، أحدهما يمثِّلُ القياداتِ الحاليةَ التي تسيطرُ عليه، وأبرز عناصِر هذا التَّيار خضعت أو تخضع لمحاكماتٍ تتعلق بتُهم فسادٍ إداريٍّ وماليٍّ بعد 2018م، أما التَّيار الآخر كان يمثِّل الصفَّ الثاني من القيادات التي لا توجد أيُّ محاكماتٍ قضائيةٍ ضدَّها وتطمح إلى استبدالِ التيارِ الأول في الحزب، وسعى أبناء الأرض تحت قيادة د. مهاتير أولًا، ثم محيي الدين ياسين؛ إلى استمالةِ التيَّار الثاني في الحزبِ إلى جانبه، الأمر الذي أشعل الصِّراعَ الداخليَّ في أمنو بين التيارَين.
انتخابات 2022م
بعد عامٍ من تشكيل الحكومةِ الثَّالثة، أُعلِن عن حلِّ البرلمان، وعَقد الانتخاباتِ التَّشريعيةِ مبكرًا في نوفمبر 2022م، وسط مشهدٍ انتخابيٍّ غير مسبوق، إذ امتازَ المشهدُ بتماسُكِ الأحزاب المُعارِضةِ للنِّظام السياسيِّ في تحالف الأمل، أمامَ تفكُّكِ وتَبعثُر الأحزابِ المالاوية الداعمةِ للنِّظام القائم، فقد قرر أمنو الدخولَ إلى الانتخاباتِ بنفس تحالفه القديم مع اثنين من أحزاب الأقلِّيات، ودخل الانتخابات حزبُ أبناء الأرض مع الحزبِ الإسلاميِّ باسم (التحالف الوطني)، أمَّا حزب المحاربين بزعامةِ د.مهاتير، فقد دخلَ الانتخابات منفردًا ضِد كلِّ التَّحالُفات. وبعد حملةٍ انتخابيةٍ طالت شهرًا، عُقدت الانتخاباتُ في العشرين من نوفمبر، وكما كانت بعضُ التوقعات؛ أدَّى تبعثُر الأحزابِ المالاويةِ إلى تبعثر الصوتِ المالاوي بينها، الأمر الذي أفضى إلى تصدرِ تحالف الأمل للانتخابات، ولكن دون أن يكسبَ الأغلبيةَ اللَّازمة لتشكيلِ الحكومة منفردًا. وبعدها وفي ظروفٍ استثنائيةٍ، شكَّل أنور إبراهيم حكومةَ ائتلافٍ وطنيٍّ شاملٍ لأغلب الأحزابِ الكبيرةِ في البلاد، ومنها أمنو الذي تراجع في الانتخاباتِ ولم يكن ضِمن الرَّابحين.
وأخيراً ..
يمكن تلخيص المَشهد بأنَّ ماليزيا تجاوزت مرحلةَ الحزبِ الواحدِ بعدما تكرَّرت خسارةُ أمنو للانتخابات، ودخلت في مرحلةٍ من التَّشتت والفوضى بين الأحزابِ التي تسعى لاستبدالِ الحزب الخاسر، ولم يكن مشهدُ التَّفتُّتِ مفاجِئًا للمحللين والمراقبين للمشهد السياسي، لكنه كان مفاجئًا للنَّاخِب الماليزيِّ الذي لاحظ تغليبَ هذه الصِّراعاتِ والمصالح الحزبيةِ على المشكلاتِ الكُبرى من نوع التَّراجعِ الاقتصادي، ومعالجةِ آثار أزمةِ كورونا وغيرها، الأمر الذي أدَّى إلى تراجع نسبِ المشاركةِ الانتخابية، وخسارةِ أغلب الأحزاب القائمة لثقةِ النَّاخِب الذي رفض الحزبَ المُتَّهم بالفسادِ الحكومي، ورفض الأحزابَ والشخصياتِ السياسيةَ التي امتازت بما يمكن تسميته بالفسادِ السِّياسي، الذي تجسَّدَ في تقلُّب الوَلاءات والانحيازات للأحزابِ والبرامج السياسيةِ خلال إدارة الحكومات المُتعاقِبة، إضافةً إلى توظيف حقائق ووقائع مثل تُهم الفساد، أو مواجهةِ كورونا بشكلٍ حزبيٍّ ضد الأطرافِ الأخرى. وإن كانت حالةُ خروج الحزبِ المُهيمن على المشهدِ الانتخابي لعقود هي حالةٌ خاصةٌ بماليزيا في الوقت الراهِن، لكنَّها قد تؤدي إلى نفسِ الأوضاع التي تعيشها كثيرٌ من الحالاتِ الدولية، كالتَّجييش خلف بدائل من خارج الحقلِ السياسيّ، وضد فكرة النُّخب السياسيةِ التي تقوم عليها التعدديةُ والديمقراطيةُ والانتخاباتُ الحرة والنَّزيهة، ولا شك في أنَّ السنواتِ القادمة ستحمل الكثيرَ من التَّفاعلات والتقلُّبات والمتاعب قبل أن يستقرَّ الأمر لنظامٍ قديمٍ أو جديد.