تقارير

العلاقات الأمريكية مع «آسيان» في ظلال الاستقطاب مع الصين

حسام شاكر - خبير في الشؤون الأوروبية والدولية - فيينا/ بروكسيل

كان‭ ‬نفوذ‭ ‬الولاياتِ‭ ‬المتَّحدةِ‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬من‭ ‬تجلِّيات‭ ‬صعودها‭ ‬مع‭ ‬نهايةِ‭ ‬الحرب‭ ‬العالميَّةِ‭ ‬الثانية‭ ‬إلى‭ ‬القيادةِ‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬قوَّةٍ‭ ‬عُظمى،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المنطقةُ‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحرب‭ ‬الباردةِ‭ ‬مسرحًا‭ ‬لأواصر‭ ‬تحالفيةٍ‭ ‬وثقى‭ ‬مع‭ (‬واشنطن‭) ‬من‭ ‬جانب؛‭ ‬ولمغامراتٍ‭ ‬عسكريةٍ‭ ‬أمريكيةٍ‭ ‬باهظة‭ ‬الكُلفة‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬جانبٍ‭ ‬آخر‭.‬

ثمَّ‭ ‬فرض‭ ‬الصعودُ‭ ‬الصينيُّ‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬على‭ ‬الولاياتِ‭ ‬المتحدةِ‭ ‬أن‭ ‬تُعيدَ‭ ‬تكييف‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬رابطةِ‭ ‬دول‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬‮«‬آسيان‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تضمُّ‭ ‬كلًا‭ ‬من‭: ‬إندونيسيا،‭ ‬وماليزيا،‭ ‬وتايلند،‭ ‬والفلبين،‭ ‬وسنغافورة،‭ ‬وفيتنام،‭ ‬وكمبوديا،‭ ‬وميانمار،‭ ‬ولاوس،‭ ‬وبروناي،‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬يُراعي‭ ‬هذا‭ ‬التحدِّي‭ ‬المُستجدّ،‭ ‬مع‭ ‬ملاحظةِ‭ ‬أواصر‭ ‬الصين‭ ‬مع‭ ‬الرابطةِ‭ ‬ذاتها‭ ‬ودولها‭ ‬الأعضاء،‭ ‬خاصةً‭ ‬أنَّ‭ ‬شراكةَ‭ ‬‮«‬آسيان‭ ‬زائد‭ ‬ثلاثة‮»‬‭ ‬تضمُّ‭ ‬الصينَ‭ ‬واليابانَ‭ ‬وكوريا‭ ‬الجنوبية‭.‬

أولويات‭ ‬أمريكية

تسعى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬اليومَ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬دولِ‭ ‬آسيان،‭ ‬إلى‭ ‬الحفاظِ‭ ‬على‭ ‬نفوذها‭ ‬ومصالحها‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬ومحاولةِ‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬ريادتها‭ ‬العالميَّة‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يصيرَ‭ ‬متعدِّد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬وضمان‭ ‬قدراتها‭ ‬في‭ ‬مجالاتِ‭ ‬التَّأثير‭ ‬والتحكُّم‭ ‬والسَّيطرة‭ ‬في‭ ‬خطوط‭ ‬المِلاحةِ‭ ‬والتجارةِ‭ ‬الدولية،‭ ‬وتزداد‭ ‬أهميةُ‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬بالنسبةِ‭ ‬لـواشنطن‭ ‬بالنَّظر‭ ‬إلى‭ ‬سعيها‭ ‬إلى‭ ‬تحجيمِ‭ ‬الصُّعود‭ ‬الصيني،‭ ‬وعرقلةِ‭ ‬تمدده‭ ‬في‭ ‬محيطه‭ ‬الآسيوي‭ ‬بالأحرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفرض‭ ‬عليها‭ ‬محاولةَ‭ ‬توظيف‭ ‬دول‭ ‬المنطقةِ‭ ‬في‭ ‬التَّنافس‭ ‬المتصاعدِ‭ ‬مع‭ (‬بكين‭) ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬أي‭ ‬تصعيدٍ‭ ‬مستقبليٍّ‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭.‬

على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬أظهرت‭ ‬الإدارةُ‭ ‬الأمريكيَّة‭ ‬خلال‭ ‬سنة‭ ‬2022م‭ ‬اهتمامًا‭ ‬متزايدًا‭ ‬بتطوير‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬والتَّعاون‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬آسيان،‭ ‬وتجلَّى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬استضافةِ‭ ‬واشنطن‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬قمةً‭ ‬مشتركةً‭ ‬مع‭ ‬زعماء‭ ‬دولِ‭ ‬الرابطة،‭ ‬ثمَّ‭ ‬تأكَّد‭ ‬هذا‭ ‬المَسعى‭ ‬عندما‭ ‬حضر‭ ‬الرئيسُ‭ ‬الأمريكيُّ‭ (‬بايدن‭) ‬‮«‬قِمةَ‭ ‬آسيان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬انعقدت‭ ‬في‭ ‬العاصمةِ‭ ‬الكمبوديَّة‭ (‬بنوم‭ ‬بنه‭) ‬في‭ ‬نوفمبر،‭ ‬وتخلَّل‭ ‬هاتيْن‭ ‬القمَّتين‭ ‬تأكيدٌ‭ ‬أمريكيٌّ‭ ‬على‭ ‬السَّعي‭ ‬لتطويرِ‭ ‬العلاقات‭ ‬والشَّراكةِ‭ ‬مع‭ ‬دُول‭ ‬المنطقة‭.‬

ويبدو‭ ‬التَّحرك‭ ‬الأمريكي‭ ‬نحوَ‭ ‬دول‭ ‬آسيان‭ ‬مسبوقًا‭ ‬نسبيًّا‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الصِّين‭ ‬التي‭ ‬لديها‭ ‬شراكةٌ‭ ‬مع‭ ‬الرابطةِ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صيغة‭ ‬‮«‬آسيان‭ ‬زائد‭ ‬ثلاثة‮»‬،‭ ‬فبينما‭ ‬أعلن‭ ‬بايدن‭ ‬خلال‭ ‬كلمته‭ ‬في‭ ‬قمةِ‭ ‬آسيان‭ ‬في‭ ‬كمبوديا،‭ ‬أنَّ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ودول‭ ‬الرابطةِ‭ ‬سترفع‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬المُتبادلةَ‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬‮«‬الشراكة‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الشَّاملة‮»‬؛‭ ‬فإنَّ‭ ‬بكين‭ ‬سبقت‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬رفعِ‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬الرابطةِ‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬2021م‭. ‬ومقارنةً‭ ‬بتعهُّد‭ ‬الإدارةِ‭ ‬الأمريكيةِ‭ ‬في‭ ‬‮«‬قمةِ‭ ‬واشنطن‮»‬‭ ‬بإنفاق‭ (‬150‭) ‬مليون‭ ‬دولارٍ‭ ‬للمساعدة‭ ‬في‭ ‬مجالاتٍ‭ ‬منها‭: ‬تحسين‭ ‬البُنيةِ‭ ‬التَّحتيةِ‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬آسيان،‭ ‬وتعزيز‭ ‬أمنها،‭ ‬ومواجهة‭ ‬عواقب‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا؛‭ ‬فإنَّ‭ ‬الصين‭ ‬سبقَ‭ ‬أن‭ ‬تعهَّدت‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭/‬2021م،‭ ‬بتقديم‭ ‬مليار‭ ‬ونصف‭ ‬المليار‭ ‬دولارٍ‭ ‬لدول‭ ‬الرَّابطةِ‭ ‬للدَّعم‭ ‬الإنمائي،‭ ‬والتَّعافي‭ ‬الاقتصادي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ثلاثِ‭ ‬سنوات‭.‬

ولا‭ ‬تبدو‭ ‬الشَّراكة‭ ‬التي‭ ‬تتعهد‭ ‬واشنطن‭ ‬بتطويرها‭ ‬مع‭ ‬دولِ‭ ‬آسيان‭ ‬مؤهلةً‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬لإقصاء‭ ‬بكين‭ ‬عن‭ ‬نهج‭ ‬تعزيزِ‭ ‬علاقات‭ ‬الشراكةِ‭ ‬والتَّعاون‭ ‬مع‭ ‬دولِ‭ ‬الرابطة،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الصِّينيةُ‭ ‬الضخمةُ‭ ‬في‭ ‬السِّكك‭ ‬الحديديةِ‭ ‬للقطارات‭ ‬فائقةِ‭ ‬السُّرعة،‭ ‬ومشروعات‭ ‬البُنى‭ ‬التحتيَّةِ‭ ‬في‭ ‬السُّدودِ‭ ‬والطُّرق،‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬تعزيز‭ ‬الترابطِ‭ ‬ضمن‭ ‬آسيا‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬مَساعي‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬مجالاتِ‭ ‬خُطوط‭ ‬النقل‭ ‬وطرقِ‭ ‬التِّجارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬وتبقى‭ ‬الصين‭ ‬الشريكَ‭ ‬التجِّاريَّ‭ ‬الأول‭ ‬لدولِ‭ ‬آسيان،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقلِّلَ‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬أهميةِ‭ ‬شراكة‭ ‬هذه‭ ‬الدُّول‭ ‬التجاريةِ‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المُتحدة‭ ‬بطبيعةِ‭ ‬الحال؛‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬غالبًا‭ ‬في‭ ‬المرتبةِ‭ ‬الثَّانية‭.‬

التنافس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الصيني‭ ‬في‭ ‬الإندوباسيفيك

يتجسَّد‭ ‬التنافسُ‭ ‬الأمريكي‭-‬الصيني‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬المحيطَيْن‭ ‬الهندي‭ ‬والهادئ‭ (‬الإندوباسيفيك‭) ‬بشكلٍ‭ ‬واضحٍ،‭ ‬ويتَّخذ‭ ‬ذلك‭ ‬منحى‭ ‬التَّسابق‭ ‬إلى‭ ‬إبرامِ‭ ‬علاقات‭ ‬شراكةٍ‭ ‬وتعاونٍ‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭.‬

تبدو‭ ‬الصين‭ ‬حاضرةً‭ ‬بوضوحٍ‭ ‬في‭ ‬توجُّهات‭ ‬واشنطن‭ ‬نحو‭ ‬دُول‭ ‬آسيان،‭ ‬فالولايات‭ ‬المتَّحدة‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحجيمِ‭ ‬الصُّعود‭ ‬الصيني،‭ ‬تدرك‭ ‬أهميةَ‭ ‬التَّحرك‭ ‬متعدِّد‭ ‬المَساراتِ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسعى،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬محاولةُ‭ ‬كسب‭ ‬دول‭ ‬المنطقةِ‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬السَّعي‭ ‬إلى‭ ‬تطويقِ‭ ‬الصين‭ ‬أو‭ ‬إضعاف‭ ‬فُرص‭ ‬تمدُّدِها‭ ‬في‭ ‬محيطها،‭ ‬مع‭ ‬ضمان‭ ‬النُّفوذ‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬منطقةِ‭ ‬المحيطيْن‭ ‬الهندي‭ ‬والهادئ،‭ ‬مع‭ ‬النَّظرِ‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدةَ‭ ‬تقدِّم‭ ‬نفسها‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬آسيان‭ ‬أيضًا‭ ‬بصفتها‭ ‬دولةً‭ ‬مُطلَّةً‭ ‬على‭ ‬المحيطِ‭ ‬الهادئ‭ ‬أيضًا‭.‬

يمنح‭ ‬التسابقُ‭ ‬الأمريكي‭ ‬‭- ‬الصيني‭ ‬على‭ ‬تسجيلِ‭ ‬الحضور‭ ‬وتعزيزِ‭ ‬النفوذ‭ ‬في‭ ‬المنطقةِ‭ ‬وتطويرِ‭ ‬العلاقات‭ ‬معها؛‭ ‬فرصًا‭ ‬لدول‭ ‬آسيان‭ ‬في‭ ‬مُحاولة‭ ‬الاستفادة‭ ‬متعدِّدةِ‭ ‬الأوجه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التنافس،‭ ‬مع‭ ‬إدراك‭ ‬مَحاذير‭ ‬مُجاراة‭ ‬أولوياتِ‭ ‬القطبَيْن‭ ‬المتنافسيْن‭ ‬وعواقب‭ ‬استخدام‭ ‬دول‭ ‬المنطقةِ‭ ‬كأدواتٍ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاستقطاب‭ ‬المُتصاعِد؛‭ ‬خاصَّةً‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الولايات‭ ‬المتَّحدة‭ ‬التي‭ ‬تتبنَّى‭ ‬خطابًا‭ ‬مُحذِّرًا‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬حتى‭ ‬خلال‭ ‬تواصلها‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬آسيان،‭ ‬علاوةً‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬عواصم‭ ‬الإقليم‭ ‬بمخاطر‭ ‬تدحرُجِ‭ ‬هذا‭ ‬التَّنافس‭ ‬إلى‭ ‬صراعٍ‭ ‬دوليٍّ‭ ‬على‭ ‬حِساب‭ ‬مصالح‭ ‬المنطقة‭.‬

ولبعضِ‭ ‬دول‭ ‬آسيان‭ ‬احتياجاتُها‭ ‬الاقتصاديَّة‭ ‬والإنمائيَّة‭ ‬المُلحَّة،‭ ‬خاصَّةً‭ ‬أنَّ‭ ‬جائحة‭ ‬‮«‬كوفيد‭ ‬19‮»‬‭ ‬جرَّت‭ ‬أعباء‭ ‬اقتصاديةً‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬المنطقةِ‭ ‬وغيرها،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬التَّعافي‭ ‬من‭ ‬عواقب‭ ‬الجائحةِ‭ ‬الاقتصادية‭ ‬ضمن‭ ‬أولوياتِ‭ ‬حكوماتها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يلقى‭ ‬اهتمامًا‭ ‬في‭ ‬التوجُّهات‭ ‬الصينيَّة‭ ‬والأمريكيَّة‭ ‬الرَّاميةِ‭ ‬إلى‭ ‬تدعيمِ‭ ‬مصالحها‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬إقليم‭ ‬آسيان؛‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يمثِّل‭ ‬أحدَ‭ ‬مجالات‭ ‬المنافسةِ‭ ‬بين‭ ‬بكين‭ ‬وواشنطن‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬النفوذِ‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الرَّابطة‭.‬

تبقى‭ ‬منطقةُ‭ ‬آسيان‭ ‬عرضةً‭ ‬للتأثُّر‭ ‬متعدِّد‭ ‬الجَوانب‭ ‬بالحربِ‭ ‬التجارية‭ ‬المرشَّحةِ‭ ‬للتَّصاعُد‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدةِ‭ ‬والصين،‭ ‬وقد‭ ‬تحاول‭ ‬بعضُ‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬الاستفادةَ‭ ‬من‭ ‬موجةِ‭ ‬رحيلٍ‭ ‬تدريجيَّةٍ‭ ‬تباشِرها‭ ‬شركاتٌ‭ ‬أمريكيةٌ‭ ‬وغربيةٌ‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬باجتذابِ‭ ‬هذه‭ ‬الشركات‭ ‬إليها‭ ‬ضِمن‭ ‬خياراتٍ‭ ‬أخرى،‭ ‬وهو‭ ‬اتجاهٌ‭ ‬يتَّضح‭ ‬لدى‭ ‬فيتنام‭ ‬مثلًا،‭ ‬علاوةً‭ ‬على‭ ‬دولٍ‭ ‬آسيويةٍ‭ ‬أخرى‭ ‬تتصدَّرها‭ ‬الهند‭.‬

كيف‭ ‬ستدير‭ ‬‮«‬آسيان‮»‬‭ ‬العلاقات‭ ‬والتناقضات‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية؟

تَقع‭ ‬منطقة‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬المُنافسةِ‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين،‭ ‬ويفرض‭ ‬هذا‭ ‬الواقعُ‭ ‬تحدِّياتٍ‭ ‬معقدةً‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬المنطقةِ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬علاقاتٍ‭ ‬حيويةٍ‭ ‬مع‭ ‬الجانبَين‭ ‬الصيني‭ ‬والأمريكي،‭ ‬مع‭ ‬حذرِ‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬من‭ ‬تطوير‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬الطرفَين‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الانزلاق‭ ‬إلى‭ ‬استقطابٍ‭ ‬يستعملها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الطَّرفِ‭ ‬الآخر،‭ ‬أو‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬نفوذٍ‭ ‬إقليميٍّ‭ ‬أو‭ ‬دوليٍّ‭ ‬يُهيمن‭ ‬عليها‭. ‬وتحمل‭ ‬دولُ‭ ‬جنوب‭ ‬شرقِ‭ ‬آسيا‭ ‬خبرةً‭ ‬تاريخيةً‭ ‬مديدةً‭ ‬في‭ ‬التَّعامل‭ ‬مع‭ ‬تنافسِ‭ ‬القوى‭ ‬الإقليميَّة‭ ‬والدوليَّة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المنطقةِ‭ ‬التي‭ ‬تتداخل‭ ‬فيها‭ ‬المصالحُ‭ ‬الخارجيَّة‭.‬

يُلاحظ‭ ‬أنَّ‭ ‬خطابَ‭ ‬واشنطن‭ ‬نحو‭ ‬المنطقة‭ -‬كما‭ ‬يتجلَّى‭ ‬في‭ ‬مؤتمراتِ‭ ‬القمَّة‭ ‬المشتركةِ‭ ‬واللقاءات‭ ‬الثُّنائية‭- ‬يستحضرُ‭ ‬إشاراتٍ‭ ‬واضحةً‭ ‬إلى‭ ‬التنافس‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬دون‭ ‬مُراعاة‭ ‬طبيعةِ‭ ‬علاقاتِ‭ ‬عواصِم‭ ‬الإقليم‭ ‬مع‭ ‬بكين‭ ‬وحساسيتها‭ ‬أيضًا،‭ ‬وقد‭ ‬يُفهم‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬مَضامين‭ ‬هذا‭ ‬الخِطاب‭ ‬أنَّ‭ ‬واشنطن‭ ‬تتوقَّع‭ ‬من‭ ‬شُركائها‭ ‬الآسيويين‭ ‬اصطِفافًا‭ ‬خلف‭ ‬أولويَّاتها‭ ‬في‭ ‬تحجيمِ‭ ‬الصُّعود‭ ‬الصيني،‭ ‬ويُدرك‭ ‬القادةُ‭ ‬الآسيويون‭ ‬أنَّ‭ ‬أنظار‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬استمالتِهم‭ ‬تبقى‭ ‬مركزةً‭ ‬على‭ ‬الصِّين‭ ‬أساسًا‭.‬

وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تحاول‭ ‬الصين‭ ‬التوسُّعَ‭ ‬في‭ ‬التَّشبيك‭ ‬الاستراتيجيِّ‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬مُتحلِّيةً‭ ‬بخطابٍ‭ ‬يركِّز‭ ‬على‭ ‬مفاهيم‭ ‬التَّعاون‭ ‬المتبادَل‭ ‬والمصالحِ‭ ‬المشتركة،‭ ‬لكنَّ‭ ‬هذا‭ ‬التوسعَ‭ ‬يستثير‭ ‬مكامِنَ‭ ‬قلقٍ‭ ‬في‭ ‬محيطها‭ ‬الآسيوي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُبدي‭ ‬ارتياحًا‭ ‬لصعودها‭ ‬المُتعاظِم‭ ‬وقوتها‭ ‬العسكريةِ‭ ‬المُتضخِّمة،‭ ‬تمتدُّ‭ ‬بواعثُ‭ ‬القلق‭ ‬التي‭ ‬تعتري‭ ‬دولَ‭ ‬آسيان‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬المَخاوفِ‭ ‬من‭ ‬تنامي‭ ‬العَسكرةِ‭ ‬الصينية‭ ‬في‭ ‬بحرِ‭ ‬الصِّين‭ ‬الجنوبيّ،‭ ‬وكذلك‭ ‬الإشكالات‭ ‬الثُّنائية‭ ‬المُرتبطة‭ ‬بالحدودِ‭ ‬البحريَّة‭ ‬ومجاري‭ ‬الأنهار،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الهواجسِ‭ ‬من‭ ‬قُدرات‭ ‬بكين‭ ‬على‭ ‬التَّأثير‭ ‬في‭ ‬الطَّبقةِ‭ ‬السياسيةِ،‭ ‬وشُبهةِ‭ ‬سعيها‭ ‬إلى‭ ‬استمالةِ‭ ‬دوائر‭ ‬النُّفوذ‭ ‬في‭ ‬دولِ‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬علاوةً‭ ‬على‭ ‬مفعول‭ ‬النَّزعات‭ ‬القوميةِ‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬دول‭ ‬المنطقةِ‭ ‬التي‭ ‬تتحسَّس‭ ‬من‭ ‬المكوِّنات‭ ‬الإثنية‭ ‬الصِّينية،‭ ‬وتخشى‭ ‬أن‭ ‬تُستعمَل‭ ‬جيوبًا‭ ‬للنفوذ‭ ‬الصينيِّ‭ ‬فيها،‭ ‬ومن‭ ‬شأن‭ ‬مكامِن‭ ‬القلقِ‭ ‬هذه‭ -‬في‭ ‬العموم‭- ‬أن‭ ‬تُضافَ‭ ‬إلى‭ ‬بَواعث‭ ‬حِرص‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬على‭ ‬تنمية‭ ‬علاقاتٍ‭ ‬استراتيجيةٍ‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتَّحدة‭ ‬تساعدها‭ ‬على‭ ‬إضفاء‭ ‬قدرٍ‭ ‬من‭ ‬التَّوازنِ‭ ‬إزاء‭ ‬الصُّعود‭ ‬الصيني‭ ‬في‭ ‬الإقليمِ‭ ‬والعالم،‭ ‬ويُرجَّح‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬أن‭ ‬تتراجعَ‭ ‬التحفُّظاتُ‭ ‬التقليديَّة‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬آسيان‭ ‬عن‭ ‬تنميةِ‭ ‬شراكاتٍ‭ ‬دفاعيةٍ‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬كلَّما‭ ‬أسفرت‭ ‬الصينُ‭ ‬عن‭ ‬قدراتٍ‭ ‬عسكريةٍ‭ ‬أكبر،‭ ‬واستعرضت‭ ‬قوتَها‭ ‬في‭ ‬المُحيط‭ ‬البحريّ،‭ ‬لكنّ‭ ‬التحفُّظات‭ ‬من‭ ‬نفوذِ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدةِ‭ ‬وتأثيراتها‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المَقام‭ ‬أيضًا،‭ ‬وهي‭ ‬تمتدُّ‭ ‬إلى‭ ‬المخاوفِ‭ ‬من‭ ‬إضرار‭ ‬ذلك‭ ‬بحيويَّة‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنها‭ ‬مع‭ ‬الصين،‭ ‬والمكاسِب‭ ‬التي‭ ‬يُمكن‭ ‬تحقيقها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشاريع‭ ‬واستثماراتٍ‭ ‬صينيةٍ‭ ‬واعدة،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الهواجسِ‭ ‬من‭ ‬قدراتِ‭ ‬واشنطن‭ ‬على‭ ‬التَّأثير‭ ‬في‭ ‬الواقعِ‭ ‬السياسيِّ‭ ‬لبعض‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬خاصةً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إثارة‭ ‬ملفَّات‭ ‬الدِّيمقراطيةِ‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭. ‬

سيتعيَّن‭ ‬على‭ ‬رابطةِ‭ ‬آسيان‭ ‬أن‭ ‬تحافظَ‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬التَّوازنات‭ ‬والتَّناقضات‭ ‬بين‭ ‬مصالح‭ ‬دولِ‭ ‬الإقليم،‭ ‬وتوجُّهات‭ ‬القُطبيْن‭ ‬الأمريكي‭ ‬والصيني‭ ‬المتنافسَيْن‭ ‬على‭ ‬النفوذِ‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬ولا‭ ‬ينبغي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشَّأن‭ ‬إغفال‭ ‬طبيعةِ‭ ‬رابطة‭ ‬آسيان‭ ‬وتقاليدها‭ ‬في‭ ‬إدارةِ‭ ‬العلاقات‭ ‬والتناقضاتِ‭ ‬بين‭ ‬دُولها‭ ‬الأعضاء،‭ ‬ومع‭ ‬الأقطابِ‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية‭ ‬أيضًا،‭ ‬فالمنظَّمةُ‭ ‬ليست‭ ‬بمثابة‭ ‬منصَّةٍ‭ ‬مشتركةٍ‭ ‬للتواصل‭ ‬والتَّنسيقِ‭ ‬ورعاية‭ ‬المصالح‭ ‬المتبادَلة‭ ‬ودَرء‭ ‬النِّزاعات‭ ‬المُحتمَلة،‭ ‬وليست‭ ‬اتحادًا‭ ‬يتحرَّى‭ ‬توحيدَ‭ ‬مواقف‭ ‬دُوله‭ ‬الأعضاء‭ ‬بالأحرى،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬طبيعةِ‭ ‬آسيان‭ ‬الاصطفافُ‭ ‬مع‭ ‬قُطبٍ‭ ‬دوليٍّ‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬قطبٍ‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الخِطابات،‭ ‬وتبقى‭ ‬للدُّول‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬الرابطةِ‭ ‬حساباتها‭ ‬المُتباينة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلَّق‭ ‬بالعلاقاتِ‭ ‬مع‭ ‬قُطبَي‭ ‬التنافس‭ ‬الأمريكي‭ ‬والصيني‭ ‬على‭ ‬أيِّ‭ ‬حال،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬سَواء‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬التَّفاهم‭ ‬مع‭ ‬بكين‭ ‬أيضًا‭ ‬أو‭ ‬التَّساوقِ‭ ‬معها‭. ‬

أي‭ ‬تأثيرات‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي؟

كان‭ ‬التَّنافس‭ ‬على‭ ‬نَسْج‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬وتعزيز‭ ‬النُّفوذ‭ ‬من‭ ‬سِمات‭ ‬حقبةِ‭ ‬الحرب‭ ‬الباردةِ‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬بتفكُّك‭ ‬الكتلةِ‭ ‬الشَّرقية‭ ‬وانهيارِ‭ ‬الاتحاد‭ ‬السُّوفيتي،‭ ‬وهو‭ ‬يبدو‭ ‬اليوم‭ -‬من‭ ‬جديد‭- ‬أحدَ‭ ‬ملامح‭ ‬الوُلوجِ‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬متعدِّد‭ ‬الأقطاب‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقودٍ‭ ‬تقريبًا‭ ‬من‭ ‬أُحاديَّة‭ ‬القطبيَّة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أنَّ‭ ‬التسابقَ‭ ‬الأمريكي‭-‬الصيني‭ ‬على‭ ‬المصالح‭ ‬لا‭ ‬يقتصــرُ‭ ‬على‭ ‬دولِ‭ ‬رابطــــة‭ ‬آسيـــــــــــــــــــــــــان،‭ ‬كما‭ ‬يُلاحَظ‭ ‬مثلًا‭ ‬في‭ ‬سَعي‭ ‬إدارةِ‭ ‬بايدن‭ ‬إلى‭ ‬التَّقاربِ‭ ‬مع‭ ‬القارَّةِ‭ ‬الأفريقيَّة‭ ‬بعد‭ ‬سنواتٍ‭ ‬من‭ ‬التجاهل،‭ ‬إذ‭ ‬تجلَّى‭ ‬في‭ ‬عقدِ‭ ‬قمَّةٍ‭ ‬مع‭ ‬خمسين‭ ‬من‭ ‬القادةِ‭ ‬الأفارقة‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭/‬2022م،‭ ‬وليس‭ ‬خافيًا‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬القمةَ‭ ‬جاءت‭ ‬بعد‭ ‬تراخٍ‭ ‬أمريكيٍّ‭ ‬استمرَّ‭ ‬ثمان‭ ‬سنواتٍ‭ ‬منذ‭ ‬عقد‭ ‬القِمة‭ ‬الأمريكيَّة‭-‬الأفريقيَّة‭ ‬الوحيدة،‭ ‬التي‭ ‬التأمت‭ ‬خلال‭ ‬ولايةِ‭ (‬باراك‭ ‬أوباما‭) ‬سنة‭ ‬2014م،‭ ‬وأظهرت‭ ‬إدارة‭ (‬دونالد‭ ‬ترامب‭) ‬بعده‭ ‬تجاهُلًا‭ ‬نسبيًّا‭ ‬لأفريقيا،‭ ‬واستمرَّ‭ ‬ذلك‭ ‬تقريبًا‭ ‬خلال‭ ‬النِّصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬ولايةِ‭ ‬بايدن،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يقُم‭ ‬بأي‭ ‬زيارةٍ‭ ‬إلى‭ ‬البُلدان‭ ‬الأفريقيةِ‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬سنة‭ ‬2022م‭. ‬ومن‭ ‬الواضحِ‭ ‬أنَّ‭ ‬عقدَ‭ ‬القمة‭ ‬التي‭ ‬تخلَّلتها‭ ‬تعهّداتٌ‭ ‬ماليةٌ‭ ‬لفائدةِ‭ ‬الدول‭ ‬الأفريقيةِ‭ ‬بمقدار‭ ‬55‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬سِياق‭ ‬سَعي‭ ‬واشنطن‭ ‬إلى‭ ‬تعزيزِ‭ ‬حضورها‭ ‬العالميِّ‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التَّنافس‭ ‬الصِّيني‭ ‬والرُّوسي‭ ‬مع‭ ‬الولاياتِ‭ ‬المتحدة،‭ ‬خاصةً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تمكَّنت‭ ‬روسيا‭ ‬من‭ ‬تسجيل‭ ‬حضورٍ‭ ‬خاطفٍ‭ ‬وغير‭ ‬متوقَّعٍ‭ ‬في‭ ‬بُلدانٍ‭ ‬أفريقيَّة،‭ ‬وامتنعت‭ ‬دولُ‭ ‬القارَّة‭ ‬عن‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬العُقوبات‭ ‬الأمريكية‭-‬الغربية‭ ‬المفروضةِ‭ ‬على‭ (‬موسكو‭) ‬بعد‭ ‬اندلاعِ‭ ‬حرب‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬علاوةً‭ ‬على‭ ‬إدراك‭ ‬واشنطن‭ ‬تعاظُم‭ ‬النفوذِ‭ ‬الصيني‭ ‬المُزمِن‭ ‬في‭ ‬القارَّة‭ ‬السَّمراء‭.‬

مِن‭ ‬شأنِ‭ ‬هذه‭ ‬التوجُّهات‭ ‬نحوَ‭ ‬البُلدان‭ ‬الآسيويةِ‭ ‬والأفريقيةِ‭ ‬أن‭ ‬تمنحَ‭ ‬انطباعًا‭ ‬بشأن‭ ‬امتداد‭ ‬تنافس‭ ‬الأقطابِ‭ ‬الدوليَّة‭ ‬إلى‭ ‬العالمِ‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي،‭ ‬والمَلمح‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشَّأنِ‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬التَّوجُّه‭ ‬الصَّريح‭ ‬نحو‭ ‬تعزيز‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬دون‭ ‬التخلِّي‭ ‬عن‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتَّحدة‭ ‬أو‭ ‬الشُّركاء‭ ‬الأوروبيين،‭ ‬كما‭ ‬تجلَّى‭ ‬في‭ ‬عقدِ‭ ‬القمَّة‭ ‬الخليجية‭-‬الصينية‭ ‬في‭ ‬الرياض‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭/‬2022م،‭ ‬وهو‭ ‬حدثٌ‭ ‬نوعيٌّ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشَّأن‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬قرابةِ‭ ‬نصف‭ ‬سنةٍ‭ ‬على‭ ‬عقد‭ ‬مؤتمر‭ ‬قمة‭ ‬في‭ (‬جدة‭) ‬بحضورِ‭ ‬بايدن‭ ‬مع‭ ‬قادةِ‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬والعراق‭ ‬ومصر‭ ‬والأردن،‭ ‬وقد‭ ‬ألمحَ‭ ‬الرئيسُ‭ ‬الأمريكي‭ ‬خلالَ‭ ‬‮«‬قمة‭ ‬جدة‭ ‬للأمن‭ ‬والتنمية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬انعقدت‭ ‬في‭ ‬يوليو‭ ‬إلى‭ ‬تنافُس‭ ‬الأقطاب‭ ‬الدوليَّة‭ ‬والإقليميَّة‭ ‬على‭ ‬المنطقةِ‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬لن‭ ‬نترك‭ ‬فراغًا‭ ‬تملؤه‭ ‬الصين‭ ‬أو‭ ‬روسيا‭ ‬أو‭ ‬إيران‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬إشارةٌ‭ ‬تُعيد‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان‭ -‬من‭ ‬الناحية‭ ‬اللَّفظيةِ‭ ‬على‭ ‬الأقل‭- ‬استراتيجيةَ‭ ‬‮«‬ملء‭ ‬الفراغ‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تبنَّتها‭ ‬الولاياتُ‭ ‬المتحدة‭ ‬خلال‭ ‬الحربِ‭ ‬الباردة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طرحَها‭ ‬الرئيسُ‭ (‬أيزينهاور‭) ‬سنة‭ ‬1957م؛‭ ‬لإحلال‭ ‬النُّفوذ‭ ‬الأمريكي‭ ‬محلَّ‭ ‬القوتَين‭ ‬الاستعماريَّتين‭ ‬البريطانيةِ‭ ‬والفرنسيَّة‭. ‬في‭ ‬المُحصِّلة،‭ ‬لم‭ ‬تفرز‭ ‬‮«‬قمة‭ ‬جدة‮»‬‭ ‬عن‭ ‬نتائج‭ ‬ملموسةٍ‭ ‬وبدت‭ ‬حصيلتُها‭ ‬فاتِرة،‭ ‬بل‭ ‬إنَّ‭ ‬التَّطورات‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬القِمة‭ ‬أوحَت‭ ‬بقناعة‭ ‬قادةِ‭ ‬الإقليم‭ ‬بتراجُع‭ ‬نفوذِ‭ ‬الولايات‭ ‬المتَّحدة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المنطقةِ‭ ‬والعالم،‭ ‬وبأنَّ‭ ‬واشنطن‭ ‬لا‭ ‬تمثِّل‭ ‬شبكة‭ ‬أمانٍ‭ ‬مضمونة‭ ‬لعواصم‭ ‬الإقليم‭ ‬في‭ ‬التَّعاملِ‭ ‬مع‭ ‬التَّهديداتِ‭ ‬الأمنيَّة،‭ ‬ومن‭ ‬شأن‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬يُفسِّر‭ ‬تعبيرَ‭ ‬عواصم‭ ‬خليجيةٍ‭ ‬وعربيةٍ‭ ‬عن‭ ‬نَزعة‭ ‬استقلاليةٍ‭ ‬نسبيَّة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقةٍ‭ ‬منذُ‭ ‬نهاية‭ ‬الحربِ‭ ‬الباردة‭ ‬في‭ ‬إدارةِ‭ ‬علاقاتها‭ ‬الخارجيَّة،‭ ‬مثلًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬تطوير‭ ‬العلاقاتِ‭ ‬مع‭ ‬بكين،‭ ‬أو‭ ‬إبطاء‭ ‬الاندفاع‭ ‬التَّطبيعي‭ ‬نحوَ‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬أو‭ ‬الإحجام‭ ‬عن‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬سياسةِ‭ ‬العقوبات‭ ‬الغربيَّة‭ ‬على‭ ‬موسكو،‭ ‬بل‭ ‬والإقدام‭ ‬على‭ ‬خطواتٍ‭ ‬تحمل‭ ‬طابعَ‭ ‬التحدِّي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬إنتاج‭ ‬النِّفط‭ ‬وسقوف‭ ‬الأسعارِ‭ ‬ضمن‭ ‬آليَّة‭ ‬‮«‬أوبك‭ ‬بلس‮»‬‭ ‬مع‭ ‬روسيا،‭ ‬دون‭ ‬الاكتراث‭ ‬بالإلحاحِ‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشَّأن‭.‬

سيتعيَّن‭ ‬على‭ ‬الأقطابِ‭ ‬الدَّوليةِ‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تعزيزِ‭ ‬المصالح‭ ‬والنفوذ‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬تتنافسَ‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬خياراتٍ‭ ‬محفِّزةٍ‭ ‬لشركائها‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬ومن‭ ‬شأن‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬يتيحَ‭ ‬مزايا‭ ‬أفضل‭ ‬وهوامشَ‭ ‬مناورةٍ‭ ‬أوسع‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الشُّركاء‭ ‬في‭ ‬إبرام‭ ‬الاتِّفاقات‭ ‬والتَّفاهُمات‭ ‬دون‭ ‬الاضطرار‭ ‬إلى‭ ‬المُكوثِ‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تبعيةٍ‭ ‬لقطبٍ‭ ‬أُحادي،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬فمن‭ ‬المرجَّحِ‭ ‬أن‭ ‬يتزايدَ‭ ‬المَنحى‭ ‬الاستقلاليُّ‭ ‬النسبيُّ‭ ‬في‭ ‬السياساتِ‭ ‬الخارجيَّة‭ ‬للدول‭ ‬العربيَّة‭ ‬والإسلاميَّة،‭ ‬ولدولٍ‭ ‬آسيويةٍ‭ ‬وإفريقيةٍ‭ ‬أيضًا،‭ ‬وأن‭ ‬تجتهدَ‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬مُحاولة‭ ‬توظيف‭ ‬التنافسِ‭ ‬بين‭ ‬الأقطاب‭ ‬المتنافسةِ‭ ‬أو‭ ‬الصَّاعدة‭ ‬في‭ ‬رعايةِ‭ ‬مصالحها،‭ ‬وتوفير‭ ‬شبكات‭ ‬أمانٍ‭ ‬بديلةٍ‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬سَعَت‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬وجهةِ‭ ‬علاقاتها‭ ‬الخارجيَّة،‭ ‬أو‭ ‬تنويع‭ ‬شبكةِ‭ ‬علاقاتها‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬وقد‭ ‬تجلَّى‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬بوضوحٍ‭ ‬مع‭ ‬عجزِ‭ ‬الولاياتِ‭ ‬المتَّحدة‭ ‬خلال‭ ‬سنة‭ ‬2022م‭ ‬عن‭ ‬تعميمِ‭ ‬نهج‭ ‬العُقوبات‭ ‬التي‭ ‬فرضتها‭ ‬في‭ ‬مواجهةِ‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬بلدانٍ‭ ‬أخرى،‭ ‬كانت‭ ‬تُعَد‭ ‬حليفةً‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬مقرَّبةً‭ ‬منها‭ ‬خارج‭ ‬النِّطاق‭ ‬الأوروبي‭-‬الغربي‭.‬

بوسع‭ ‬القضيَّة‭ ‬الفلسطينيَّة‭ ‬أن‭ ‬تستفيدَ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التَّطور‭ ‬أيضًا‭ ‬إن‭ ‬سجَّلت‭ ‬هذه‭ ‬القضيةُ‭ ‬حضورًا‭ ‬متصدِّرًا‭ ‬ضمن‭ ‬أولوياتِ‭ ‬الدول‭ ‬العربيةِ‭ ‬والإسلاميَّة،‭ ‬وتماسكت‭ ‬المواقفُ‭ ‬الرسميَّة‭ ‬العربية‭ ‬بهذا‭ ‬الشَّأن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬ينضج‭ ‬حتى‭ ‬حينه‭ ‬بوضوح،‭ ‬ومن‭ ‬شأنِ‭ ‬تراجُع‭ ‬النُّفوذ‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬أن‭ ‬يُلحِق‭ ‬أضرارًا‭ ‬بنهج‭ ‬الانزلاقِ‭ ‬التطبيعيِّ‭ ‬الذي‭ ‬اكتسب‭ ‬أحدَ‭ ‬مبرِّراته‭ ‬من‭ ‬الضُّغوط‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬واشنطن‭ ‬لنسجِ‭ ‬علاقاتٍ‭ ‬تطبيعيةٍ‭ ‬بين‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬والعالم‭ ‬العربي،‭ ‬ومن‭ ‬محاولةِ‭ ‬كسب‭ ‬الولايات‭ ‬المُتحدة‭ ‬عبر‭ ‬التقارُبِ‭ ‬مع‭ ‬‮«‬دولة‮»‬‭ ‬الاحتلال‭ ‬التي‭ ‬يُفترَض‭ ‬أنَّها‭ ‬محظيةٌ‭ ‬لديها‭.‬

إعلام المنتدى

العلاقات العامة والإعلام منتدى آسيا والشرق الأوسط More »

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button