تقارير

باكستان النوويــة ..مـن حلــم الـرَدع إلى قُدرة المواجهة

طارق المصري باحث في الشؤون الآسيوية

تُعتبر الطاقة النوويّة واحدةً من أنواع الطاقة المُستخدمة في توليد الكهرباء، وتُعرف بأنّها تلك الطاقة المُنتَجة بواسطة السيطرة على تفاعلات انشطار أو اندماج الأنوية الذرية، وتُعتبر هذه الطاقة من وجهة نظر العلماء مصدراً حقيقياً لا ينفد، حيث شكلت نسبة الكهرباء المولّدة بواسطة الطاقة النوويّة ما يقارب 14% من إجمالي الطاقة الموجودة في العالم. وأُقيمت أول محطة توليد في العالم في الاتحاد السوفيتي في عام 1954م، والآن يوجد حوالي 448 مفاعل نووي في العالم قيد التشغيل و53 مفاعل قيد الإنشاء حالياً. بالإضافة لاستخدامات طبية وصناعية وزراعية، أما الجانب السلبي التدميري فيتمثل بوجود تسع دول نووية تمتلك نحو 9 آلاف سلاح نووي سواء كانت هذه الأسلحة منتشرة أو مخزنة، فرغم وجود اتفاقية لحظر الانتشار النووي عام 1970م فلم توقعها الهند ولا باكستان ولا إسرائيل ولا جنوب السودان ولا كوريا الشمالية، فهناك دول قلصوا ترساناتهم النووية بينما زاد حجم ترسانات الصين وباكستان والهند وكوريا الشمالية، ويبقى لباكستان خصُوصية واعتبارات نستعرضها بما هو قادم.

تعد جمهورية باكستان الإسلامية، الدولة الإسلامية الوحيدة في العالم التي تمتلك تكنولوجيا صناعة السلاح النووي، فقد اهتمت بالمجال النووي منذ خمسينيات القرن الماضي واليوم أصبحت هيئة الطاقة الذرية الباكستانية من كبريات الهيئات العالمية المشابهة، التي تشغل ما يزيد عن 60 مؤسسة ومعهداً وجامعة يعمل فيها ما يقرب من 6 آلاف موظف من تخصصات مختلفة، ولم تتمكن هذه الدولة من امتلاك هذه التكنولوجيا العليا الا بعد سنوات من دراسات وتجارب متكررة.

كان المحفز الأول في عام 1964م عندما شعرت باكستان إثر قيام الصين باختبارها النووي الأول أن هذا الحدث سيحفز الهند المنافس الاستراتيجي للصين في منطقة الهند الصينية لتطوير قدرة نووية عسكرية خاصة لتحقق بها عتبة الردع الاستراتيجي بين البلدين وراحت باكستان تدرس إمكانية البدء في برنامج مواز للبرنامج النووي الهندي الذي بدء فعلياً في عام 1954م عندما أنشأ الهنود مؤسسة الطاقة الذرية ومركز “بإهابها” النووي وبناء مفاعل نووي، وأنها ستكون قادرة على صنع سلاح نووي في غضون عام ونصف.

وفي عام 1965م أطلق وزيرة الخارجية “ذو الفقار علي بوتو” تصريحه الشهير “أن على الباكستانيين أن يأكلوا العشب وأوراق الشجر لتطوير سلاحهم النووي إذا فعلت الهند ذلك، فقام بتدشين مشروع مفاعل نووي بحثي يستخدم اليورانيوم المخصب في منطقة “نيلور” قرب إسلام أباد العاصمة ولما أنُجز، تنصل الأمريكيون عن اتفاقية تشغيله فشكلت باكستان فريق عمل لتشغيله وبعد جهد جهيد نجحوا في شباط 1972م بتشغيله وبعد سنوات تحول للعمل بيورانيوم أقل تخصيبًا بسبب خطورته.   

وفي عام 1971م شنت الهند الحرب التي قسمت بها باكستان ولقد ولد هذا الحدث تولد شعوراً مريراً لدى الباكستانيين، فتنادوا الباكستانيون لمؤتمر علمي سري في مدينة “مولتان” دعا فيه الرئيس “بوتو” صراحةً العلماء الباكستانيين إلى تطوير سلاح نووي وجمع علماء باكستان الأكاديميين لبناء قنبلة نووية في غضون سنوات بدعوى الحفاظ على بقاء الوطن، كما عين بوتو “منير أحمد خان” رئيسًا لهيئة الطاقة الذرية  كما قاد العالم الباكستاني “محمد عبد السلام” الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء مهمة إنشاء جمعية الفيزياء النظرية،  وفعلا دشنت باكستان وفي عام 1973م محطتهم النووية الأولى في مدينة كراتشي صنع كندي بقدرة 125 مغا واط  وتعمل باليورانيوم العادي والماء الثقيل ولكن تنصل المزود عن تزويد الجانب الباكستاني باليورانيوم  فظلت المحطة معطلة عدة سنوات حتى تمكن الباكستانيون من إنتاج الوقود بأنفسهم.

لتأتي الصاعقة الكبيرة والمحفزة في 18 آب عام 1974م عندما فجرت الهند قنبلتها النووية الأولى باسم «بوذا المبتسم» اجتمع مجلس الوزراء الباكستاني بعد أسابيع وشكل فريق عمل علمي سمي “مجموعة الواحة” وحُدد هدفها وهو “إنتاج السلاح النووي”.

تم التعاقد مع فرنسا لتزويد باكستان بمعمل لتكرير اليورانيوم المستنفد لاستخلاص اليورانيوم -235 والبلوتونيوم-239، ثم تنصلت فرنسا مرة أخرى وامتنعت عن الوفاء بالتزامها بضغوط أمريكيا.

أما الحدث الجانبي الذي غير المعادلة كلها هو أن مدير يعمل في قسم الطاقة النووية والمفاعلات التابع لهيئة الطاقة الذرية الدولية في فيينا عاصمة النمسا، وهو الدكتور “عبد القدير خان” الحاصل على نيشان الامتياز عام 1996م، قد أرسل رسالة إلى رئيس وزراء باكستان “ذو الفقار علي بوتو” قائلاً فيها: حتى يتسنى لباكستان البقاء كدولة مستقلة فإن عليها إنشاء برنامج نوويّ. وفي عام 1975م طلب الرئيس من عبد القادر خان أن يرأس برنامج باكستان النووي، لتأتي هنا فترة عبد القدير خان “أبو القنبلة الذرية الإسلامية” والذي ترك بصمته في مجال تخصيب اليورانيوم للرتبة المناسبة لصناعة السلاح النووي.

أدرك عبد القدير خان أنه لن يستطيع في ظل البيروقراطية والروتين القاتل إنجاز شئ بإشرافها، مما جعله يطلب من” ذو الفقار علي بوتو” إعطاءه حرية كاملة للتصرف من خلال هيئة مستقلة خاصة ببرنامجه النووي، فأنشأ معمل كاهوتا لتخصيب اليورانيوم بجهودهم الذاتية والذي سمي باسمه في فترة لاحقة تكريما له.

نظم عبد القدير خان عصابة توريد للحصول على المعدات والمواد اللازمة لإتمام البرنامج من بعض الدول الأوربية، وتوريد الإلكترونيات خاصة لصناعات مشبوهة ولكنها قانونية.

تحدث الدكتور خان عن الاوربيين قائلاً: لقد كان لديهم الاستعداد لعمل أي شيء من أجل المال ما دام المال وفيرًا!. يتلخص إنجاز الدكتور عبد القدير خان العظيم في تمكنه من إنشاء مفاعل في ستة أعوام دفعة واحدة! لم يقتنع أقران عبد القدير بجدوى ما يفعله ولكنه نجح وعليه أشادت باكستان بعبد القدير جزاءً لجهوده، وصار يُلقب “أبو قنبلة اليورانيوم”.

وفي 5 تموز 1977م أطاح انقلاب عسكري يقوده الفريق “محمد ضياء الحق” بحكومة السيد “بوتو”، الداعم القوي لبرنامج بلاده النووي، ووضع الأخير في السجن وتم إعدامه شنقاً ولكن قائد الانقلاب الجديد قد تبنى هذا البرنامج ودعمه.

أنشأ الباكستانيون معملاً بلجيكي الصنع في عام 1980م وتقول بعض المصادر-أحد العلماء العاملين في مشروع كاهوتا- إنه في عام1980م أنتج الباكستانيون أول كمية من اليورانيوم المخصب، وفي شهر آذار عام 1983 م بدأ العلماء الباكستانيون تجارب تفجيرات باردة (اقل من انفجار فعلي) وقبل انقضاء ذلك العام، أعلن “قدير خان” أن معمله قادر على تصنيع سلاح نووي ما يفهم منه بالعرف أنه قد صنع.

وفي 22 أيلول 1984م كشفت باكستان مؤامرة قيل بأنها من تدبير دبلوماسي أمريكي يعمل مع الهند وإسرائيل للتجسس على المواقع النووية الباكستانية، ما دفع الجنرال “ضياء الحق” إلى إصدار تهديد علني باستخدام القوة النووية ضد الهند ومن يتعاون معها في هذا المسعى.

ويرى ميزووكامي الكاتب بمسائل الدفاع والامن القومي في سان فرانسيسكو انه ما يزال غامضاً متى أكملت باكستان صناعة قبلتها النووية بالضبط. وبحسب عدة تقارير مخابراتية منها أمريكية ونقلاً عن مجلة “فورين أفيرز” ذكرت فيها “بينظير بوتو” رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة أنها أسلحة بلادها كانت سرية حتى عليها. (وخلصت تقارير المخابرات الأميركية من تلك الفترة إلى أن الجيش الباكستاني لم يكن يحيطها علماً بتفاصيل برنامج الأسلحة النووية).

وفي عام 1998م أجرت الهند في موقع “بوكران” للتجارب النووية سلسلة من خمس تجارب ثلاثة منها يوم 11 أيار وهي قنبلة هيدروجينية وقنبلتان انشطاريتان واثنتان يوم 13 أيار ورفعت وتيرة تهديدها العسكري لباكستان باجتياحها ومسحها من خريطة العالم ليأتي الرد من رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف أن باكستان ستقوم باختبارها النووي في قلب العاصمة الهندية “دلهي” إن هي أقدمت على أي حماقة عبر الحدود.

لكن الرد باكستاني الحقيقي كان في 28 أيار “اليوم المشهود” إذ قامت باكستان بتفجير قنبلتها النووية الأولى في تلال “رأس كوه” الواقعة في تلال “بلوتشستان” ثم سارعت يوم 30 أيار لاختبار خمس قنابل أخرى، متجاهلة لكل الضغوطات وعمت الأفراح في كل باكستان ووزعت الحلوة في الشوارع، أفضى التحركات الدولية عن عقوبات شملت كلا من الهند وباكستان.

إلا أن أكثر ما كان يخيف الجميع هو التجربة السادسة الأخيرة، التي تتعلق بسلاح هيدروجيني تحت الأرض أحدثت ارتجاجاً كبيراً في الجبال زُعم انه بتعاون كوري شمالي، لكن لا إجماع في الآراء حول هذا الاستنتاج.

ولم تقف هنا الانجازات بل وفي عام 2000 م نجح الباكستانيون في تشغيل معمل لمعالجة الوقود النووي وفصل البلوتونيوم بجهد محلي.

وفي 2005 م أعلن الباكستانيون أن برنامجهم العسكري حقق ما يسمى عتبة الردع النووي، ما فهم منه أنهم ربما نجحوا في اختبار قنابل إستراتيجية ربما هيدروجينية رداً على ما يعتقد أن الهند قامت به عام 1998 م. وفي عام 2006م دشن الباكستانيون مشروعاً لإنشاء محطة نووية جديدة من صنع محلي وبقدرة 300 ميغا وات.

 يقول الدكتور “عبد القدير خان” في إحدى مقالاته: “أحد أهم عوامل نجاح البرنامج في زمن قياسي كان درجة السرية العالية التي وعناية الله ثم إصرار الدولة كلها على إتقان هذه التقنية المتقدمة التي لا يتقنها سوى دول قليلة في العالم، فما كان لأحد أن يصدق أن دولة غير قادرة على صناعة إبر الخياطة ستتقن هذه التقنية المتقدمة”.

ختاماً.. باكستان الآن وحتى إعداد هذا المقال تمتلك خمس محطات طاقة نووية ومختبرين بحثيين اثنين وتشغلها اعتبارًا من عام 2012م، وتشكل الكهرباء التي تولدها محطات الطاقة النووية نحو 8% من الكهرباء المولدة في باكستان. كما وتخطط باكستان لإنشاء 32 محطة طاقة نووية بحلول عام 2050. وقريباً سيتم تشغيل أول  محطة وهي “كراتشي 2” وذلك في أواخر2021م، ومحطة “كراتشي 3” في أواخر عام 2022م، ومحطة “تشاشما 5” والتي لم يذكر تاريخ بدء عملها حتى الآن.

وأما في الجانب العسكري وقوة الردع تمتلك باكستان قدرات نووية تعرف بالثالوث النووي أي في “البر والجو والبحر” وتحاول الآن بناء ثالوث نووي خاص. الخبراء يعتقدون أن مخزون باكستان النووي يزداد باضطراد ففي عام 1998، قدر المخزون من خمسة إلى خمسة وعشرين قنبلة اعتمادًا على كمية اليورانيوم المخصب الذي تحتاج إليه كل قنبلة. وتشير التقديرات إلى أن لدى باكستان اليوم ترسانة من 110 إلى 140 قنبلة نووية. ويمكن أن تصبح بسرعة ثالث أكبر قوة نووية في العالم بحسب مركز “ستيمسون”. 

أما نظم الإطلاق النووية البرية لدى باكستان فهي على شكل سلسلة صواريخ “حتف” قد يصل مداه 1242 ميلاً قد وُضع في الخدمة حالياً. وصواريخ “شاهين 3” الذي يصل حتى 1708 أميال، وأما جواً فهناك المقاتلات الجوية المعدّلة لإطلاق قنابل نووية. وصواريخ محمولة على السفن وغواصات، بالإضافة لصواريخ “بابور” المجنحة وهي من نوع صواريخ “كروز” الحديثة والتي تم اختبارات إطلاقها مؤخرا من الغواصات في كانون الثاني من هذا العام 2020م.

يثير التوتر الهندي-الباكستاني الرعب في البلدين وفي الدول المجاورة بسبب تسلّحهما النووي، الأمر الذي عبّر عنه رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان في 2019م بعد إسقاط “إسلام آباد” طائرتين هنديتين اخترقتا الأجواء الباكستانية وأسر طياريها، حيث قال إن باكستان والهند “غير مسموح لهما بأي خطأ في الحسابات بالنظر لإمكاناتهما العسكرية” في إشارة إلى الأسلحة النووية. ومن الواضح أن باكستان تطوّر قدرة نووية قوية لا يمكنها فقط ردع حرب نووية، بل يمكنها خوضها كذلك، وهذا ما يجعل باكستان والهند في خضم سباق تسلح نووي يمكن أن يؤدي نسبياً إلى محزونات نووية عالية تذكرنا بالحرب الباردة.

إعلام المنتدى

العلاقات العامة والإعلام منتدى آسيا والشرق الأوسط More »

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button