
بريكس والصين: تحالـف الجنــوب العالمــــي في مواجهة الهيمنة الغربية
د. محمد مكرم بلعاوي - رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط
تفرض التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة، واقعًا جديدًا، تحاول فيه قوى صاعدة إعادة رسم ملامح النظام الدولي.
وفي قلب هذا التحول، تقف دول الجنوب العالمي، بقيادة الصين وروسيا، ساعيةً إلى كسر هيمنة القوى الغربية التي ظلت لعقود تمسك بزمام القرار العالمي، سياسيًا واقتصاديًا وحتى أمنيًا.
ولم تُخفِ الصين في السنوات الأخيرة امتعاضها الواضح من النظام الدولي القائم، والذي ترى أنه بني على أسس غير عادلة تخدم مصالح الغرب على حساب الدول الأخرى، معتبرة أنه يتسم بالتحيّز، ويمارس ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا العالمية، فضلاً عن إخفاقه في تقديم حلول ناجعة للنزاعات والصراعات الدولية المتجددة.
في مقابل ذلك، تروّج الصين لرؤية لعالم أكثر عدالة وشمولية، تستند إلى الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ويُتيح للدول النامية فرصة حقيقية للنهوض وتحقيق التنمية المستقلة.
ومن هذا المنطلق، لم يكن إنشاء منظمة بريكس في عام 2006 حدثًا معزولًا، بل جاء كتجلٍ مؤسسي لطموحات الجنوب العالمي في التحرر من النفوذ الغربي، فقد ضم التكتل البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، كردّ فعل مباشر على السياسات الغربية القائمة على فرض العقوبات وإعاقة صعود الاقتصادات الجديدة.
وشكل التكتل منذ تأسيسه مشروعًا استراتيجيًا أوسع، يعكس تطلعات الجنوب العالمي للعب دور فاعل ومؤثر في صياغة مستقبل العالم، عبر بناء منصة بديلة للتعاون بين الدول النامية تُعزز استقلالها الاقتصادي وتُعيد صياغة موازين القوى العالمية بعيدًا عن النفوذ الغربي.
بريكس كمرآة للجنوب العالمي
منذ تأسيسها، شكّلت بريكس مشروعًا استراتيجيًا أوسع يعكس تطلعات دول «الجنوب العالمي»، وهو المصطلح الذي تعود جذوره إلى ستينيات القرن العشرين، كمفهوم بديل عن مصطلحات مثل «العالم الثالث»، للعب دور فاعل ومؤثر في صياغة مستقبل العالم، عبر بناء منصة بديلة للتعاون بين الدول النامية تُعزز استقلالها الاقتصادي وتُعيد صياغة موازين القوى العالمية بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
وتحظى بريكس بدعم متزايد من دول الجنوب التي تسعى إلى تقليص النفوذ الغربي على اقتصاداتها ومؤسساتها، ومن أبرز إنجازاتها إنشاء بنك التنمية الجديد عام 2015 كبديل للمؤسسات المالية الغربية التقليدية، بهدف تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة في دول بريكس والدول النامية الأخرى، بما يعزز استقلالية هذه الدول ويقلل اعتمادها على الأنظمة المالية الغربية.
ومع مرور الوقت، ازداد نفوذ المجموعة واهتمام الدول بالانضمام إليها، مثل السعودية والأرجنتين ومصر وإيران، في مؤشر واضح على رغبة متزايدة بين دول الجنوب في بناء تحالفات اقتصادية وسياسية بديلة. ولم يعد التعاون بين أعضاء بريكس مقتصرًا على الاقتصاد فقط، بل امتد إلى مجالات التكنولوجيا والطاقة والتعاون الأمني، ما أثار قلق العواصم الغربية التي تخشى من تصاعد نفوذ هذا التكتل الذي يعكس بوضوح نهوض الجنوب العالمي.
في هذا السياق، تلعب الصين دور القائد الأساسي في تعزيز تحالف الجنوب العالمي، للتأكيد على استقلالية هذه الدول وتحدي هيمنة الغرب. واليوم، يشمل الجنوب العالمي دولًا في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، ويُعتبر مرادفًا لمجموعة الـ77 التي تضم 134 دولة.
الصين والجنوب العالمي
تلعب الصين دور القائد الأساسي في تعزيز تحالف «الجنوب العالمي»، الذي يشمل اليوم دولًا في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، ويُعتبر مرادفًا لمجموعة الـ77 التي تضم 134 دولة.
ويُستخدم مصطلح «الجنوب العالمي» للإشارة إلى الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، كما يُستخدم لتسليط الضوء على التفاوتات العالمية بين الشمال والجنوب.
وتتمتع الصين ودول الجنوب العالمي برؤية مشتركة تدعو إلى تعديل النظام العالمي القائم، حيث تتماهى هذه الدول مع بكين في إدراكها لوجود مصالح مشتركة تدفعها لدعم هذا التغيير.
وتسعى الصين إلى استثمار هذا التماهي لتقوية نفوذها العالمي، لا سيما مع تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة، حيث من المتوقع أن تزداد العلاقة بين الصين ودول الجنوب قربًا في ظل ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وإذا استمرت السياسات العدائية تجاه الصين والدول النامية، فقد تجد بكين فرصة إضافية لتعميق الانقسام بين الجنوب والغرب، وتقديم نفسها كقوة مسؤولة تدافع عن التعددية والتعاون الدولي.
وقد تُوظّف الصين كذلك سياسة ترامب العدائية تجاه الدول الآسيوية وحلفاء الولايات المتحدة لتعزيز علاقتها بدول الجنوب، خاصة إذا استمر خطابه في مهاجمة المؤسسات الدولية، وفرض عقوبات جديدة، والانسحاب من الالتزامات البيئية والاقتصادية العالمية.
كما تمنح سياسات ترامب الصين مساحة أوسع لتقديم نفسها كقوة مسؤولة داعمة للنظام التعددي وصديقة للدول النامية. وقد تستفيد بكين من تراجع التزام واشنطن بالحلفاء التقليديين في أوروبا والناتو، عبر ملء الفراغ الاستراتيجي من خلال مبادرات اقتصادية وأمنية جديدة.
قوة الجنوب العالمي
تعتمد الصين في استراتيجيتها على قوتها الاقتصادية ونفوذها المتزايد في دول الجنوب العالمي، التي تمثل نحو 85% من سكان العالم وما يقارب 39% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وتُعد الصين الدولة الوحيدة حاليًا التي تُظهر طموحًا وقدرة واضحة على إعادة تشكيل النظام العالمي. وقد طرحت بكين سلسلة من المبادرات الكبرى في مجالات الاقتصاد والسياسة والتنمية والعلاقات الدولية، من أبرزها «مبادرة الحزام والطريق» لتعزيز البنية التحتية والتجارة العالمية، و»مبادرة الأمن العالمي» لتعزيز السلام والاستقرار، و»مبادرة أصدقاء السلام» لحل النزاعات السياسية بطرق سلمية.
وتسعى الصين إلى تصدير صورة نفسها باعتبارها بطلة لقضايا الجنوب العالمي، مؤكدة أنها «أكبر دولة نامية»، كما صرح بذلك «لي شي»، الممثل الخاص للرئيس الصيني شي جين بينغ، في قمة مجموعة الـ77 والصين التي عُقدت في هافانا بكوبا، في سبتمبر/أيلول 2023.
ردود الفعل الغربية
ينظر الغرب إلى بريكس باعتبارها أداة لتعزيز نفوذ الصين وروسيا في دول الجنوب العالمي، بما قد يُضعف التحالفات الغربية التقليدية ويطرح نموذجًا اقتصاديًا بديلًا، يشكل تحديًا للهيمنة الغربية وقدرتها على السيطرة على النظام الدولي.
وتمثل مجموعة «بريكس» أكثر من 40% من سكان العالم، وتعمل الصين على توسيع دائرة نفوذها الاقتصادي والسياسي عبر المجموعة، حيث ضمت مؤخرًا دولًا جديدة مثل الأرجنتين ومصر وإيران إليها، إضافة لوجود البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا، كوسيلة لتعزيز رؤيتها للنظام الجديد، وتقديم بديل للنظام الاقتصادي والسياسي الحالي.
وفي هذا السياق، قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في سبتمبر/أيلول 2022، إن العالم يقف على أعتاب حقبة جديدة من العلاقات والمنافسة على تحديد شكل النظام العالمي، وإن روابط الدول أصبحت متشابكة أكثر من أي وقت مضى.
وعلى الرغم من النجاحات التي حققتها بريكس، إلا أن التكتل يواجه تحديات داخلية، مثل اختلاف المصالح والتنوع بين أعضائه، مما يجعل من الصعب صياغة سياسات ورؤية موحدة تمثلها، إضافة إلى ذلك، تواجه المجموعة تهديدات أميركية وتحذيرات أوروبية، تسعى إلى تقويض جهودها في بناء نظام عالمي جديد.
مستقبل النظام العالمي
تسعى دول الجنوب العالمي، بقيادة الصين وروسيا، إلى بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، يتحدى الهيمنة الأميركية والأوروبية، من خلال ربط آسيا وأفريقيا وأوروبا بشبكة متكاملة من البنية التحتية والتجارة، تعزز من مكانة بريكس كقوة اقتصادية وسياسية صاعدة.
في المقابل، تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على تعزيز تحالفاتهم التقليدية وتحديث أدوات النظام الدولي القائم لمواجهة التحديات الجديدة.
ويبقى مستقبل النظام العالمي مفتوحًا على جميع الاحتمالات، في ظل التنافس المحموم بين القوى الكبرى، وسعي دول الجنوب العالمي إلى تحقيق مصالحها وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية.