
دور تركيا في الجنوب العالمي في ضوء احتمالية تفكك حلف الناتو
د. زاهر البيك -كاتب وصحفي متخصص في الشئون التركية
دور تركيا في الجنوب العالمي في ضوء احتمالية تفكك حلف الناتو
د. زاهر البيك -كاتب وصحفي متخصص في الشئون التركية
عاد الجدل مجددًا حول مستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عقب فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات الأمريكية 2024.
لطالما كان الحلف، الذي تأسس كامتداد لمعسكر «الحلفاء» بعد الحرب العالمية الثانية، موضع تساؤل بشأن ضرورته منذ انتهاء الحرب الباردة عام 1991، وخلال الولاية الثانية للرئيس ترامب، المعروف بنزعته التعديلية، يبدو أن مناهضة الناتو تحوّلت إلى خطاب رسمي للولايات المتحدة.
وتستند هذه المواقف إلى ما يعتبره ترامب تقصيرًا أوروبيًا في الإسهام بميزانية الحلف، إذ سبق له خلال ولايته السابقة أن طالب الأوروبيين بالمساهمة بصورة أكبر وتحمل مسؤولياتهم المالية، زاعمًا أنهم يستفيدون من القوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية دون الوفاء بالتزاماتهم.
لكن يبدو هذه المرة أن نبرة تصريحاته ومستوى توقعاته قد ارتفعا، الأمر الذي يزيد من حدة التوتر بين أعضاء الحلف.
ورغم العبارات الدبلوماسية التي تحيط به، يقوم الناتو في جوهره على اتفاق بسيط: تتكفل الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا، مقابل استفادة مصالحها الاقتصادية من مناخ الاستقرار والرخاء في القارة، وأساس هذا الاتفاق، بطبيعة الحال مرتكز على استمرار التزام واشنطن بهذا الدور، إلا أن الولايات المتحدة اليوم لا تبدو متحمسة للدفاع عن أوروبا كما في السابق، ويرتبط ذلك في المقام الأول بتصاعد التهديد الاقتصادي من الصين، والتي تسعى بحسب ترامب إلى إزاحة الولايات المتحدة من موقعها الاقتصادي المتفوق.
وكما أشار الرئيس ترامب، ترغب الولايات المتحدة بتوجيه مواردها إلى الشرق الأقصى وليس إلى أوروبا في ظل أن الصين عازمة على إزاحة الولايات المتحدة من مكانتها الاقتصادية المتميزة.
تلك الأولويات الاستراتيجية الجديدة تهدد بشكل مباشر بقاء الناتو كمنظومة أمنية غربية، ذلك أن الحلف يمثل كما ذكرنا نظامًا قائمًا على استمرار الولايات المتحدة في حماية أوروبا، وفي حال قررت واشنطن الانسحاب كليًا من الحلف، فإن تفككه سيكون مسألة وقت، لا سيما أن فاعليته كانت -وما تزال- محل جدل.
وفي ظل النقاشات الدائرة هذه الأيام بشأن هذا السيناريو، يُظهر تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأن «إعادة تشكيل البنية الأمنية الأوروبية، إن حدثت، أمر غير ممكن دون تركيا» أن بلاده تستعد لتولي دور أكثر فعالية ومسؤولية في أمن أوروبا في مثل هكذا سيناريو.
ونظرًا لموقعها الجغرافي وكونها تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، تبرز تركيا كدولة ينبغي أخذها بعين الاعتبار فيما يتعلق بالبنية الأمنية الأوروبية.
من ناحية أخرى، يبدو أن أوروبا تتراجع في أجندة الأمن العالمي مع صعود الجنوب العالمي، وهو مصطلح يشير إلى الدول النامية اقتصاديًا، ويشمل بتعريفه الواسع دول أفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وأمريكا اللاتينية.
وغالبًا ما تُصنّف تركيا ضمن هذه المجموعة، باعتبارها دولة نالت استقلالها السياسي والعسكري عن قوى الشمال العالمي في المائة عام الأخيرة، ثم بدأت ترجمة هذا الاستقلال إلى إنجازات اقتصادية ملموسة.
ويُعد مفهوم الجنوب العالمي، الذي تعود جذوره إلى نحو ستين عامًا، من المفاتيح الأساسية لفهم تحولات القرن الحادي والعشرين.
في هذه السنوات التي شهدت دفع القوى الأوروبية إلى الوراء في عدة مناسبات لسنوات طويلة وتحويل الولايات المتحدة تركيزها نحو الشرق الأقصى، حصلت دول الجنوب العالمي على فرصة ثمينة للتركيز على أهدافها المتمثلة في الاستقلال الاقتصادي.
تميل العديد من هذه الدول إلى التعاون مع الدول التي أثبتت موثوقيتها في العقود الأخيرة وتعرض عليها اتفاقيات أكثر عدالة بكثير مقارنة بمنافسيها، بدلًا من التعاون مع دول الشمال العالمي التي تعتبر شركائها التاريخيين والقسريين.
ومن بين هذه الدول تبرز تركيا سواء من خلال مشاركتها في منظمات إقليمية مثل منظمة الدول التركية، والاتحاد الأفريقي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومنظمة التعاون الإسلامي، أو عبر علاقاتها الثنائية المتنامية مع دول الجنوب العالمي، وقد كرّست سياستها الخارجية في إطار رؤية «قرن تركيا» لتوسيع وتعميق حضورها الدبلوماسي متعدد الأبعاد وبناء علاقات هادفة مع تلك الدول.
وتنتهج تركيا في الوقت الحالي سياسات تهدف إلى موازنة سياسات القوى العالمية التي لها آثار مدمرة في دول الجنوب العالمي، وقد أثبتت نضج سياساتها هذه من خلال دورها في تقديم المساعدات الإنسانية والقيام بأنشطة الوساطة في دول كالصومال وليبيا وسوريا كجزء من هذه المقاربة.
كذلك تدافع بشعار «حلول محلية للمشكلات المحلية» عن أطروحة مفادها أن انخراط القوى العالمية في المشكلات الإقليمية لا يؤدي سوى إلى تعميق هذه المشكلات، وفي هذا السياق تنتقد وجود القوى العظمى في دول الجنوب العالمي.
كما أن نهج تركيا تجاه الجنوب العالمي هو نموذج للشراكة المتساوية القائمة على استراتيجية الربح للجميع، على عكس الفهم الذي تتبناه القوى العالمية منذ قرون، وتعترف بدول الجنوب العالمي ككيانات متساوية معها، وتبني علاقاتها معها وفقًا لذلك.
وفي خضم الحديث عن كل ذلك، دعونا لا ننسى أن تركيا أيضًا تعتبر دولة من دول الجنوب العالمي، وتسعى تركيا -كغيرها من دول الجنوب العالمي- إلى خلق مساحة أكبر لنفسها في العالم، وتعزيز استقلالها الاقتصادي، وتنويع فرص التعاون أمامها. وفي هذا السياق، لا بد أيضًا من الحديث عن مسألة عضوية تركيا في مجموعة بريكس.
ومع أن هذه المجموعة تقودها روسيا التي تعتبر أساسًا جزءًا من الشمال العالمي، إلا أنها تعد بمثابة تجسيد لانتقاد الجنوب العالمي للنظام العالمي. ومن الطبيعي أن دعوة تركيا للانضمام إلى هذا الاتحاد الاقتصادي تعد أمرًا بالغ الأهمية من حيث فهم الدور الذي يسنده الجنوب العالمي لتركيا.
وفي هذا العصر المتسم بحالة عدم اليقين نتيجة تزايد الصراعات وانعدام الاستقرار، تشعر تركيا بأنها مضطرة إلى الحفاظ بحذر على علاقاتها مع الدول الأقوى منها والتي اعتادت تاريخيًا على تبني موقف محرض ضد الدول التي تعتبرها أضعف منها.
على الجانب الآخر، تقدم دول الجنوب العالمي لتركيا فرصة بناء علاقاتها معها بشكل مستقل وعادل، وفي هذه المعادلة، أصبحت دول الجنوب العالمي في موقع الشركاء المفضلين بالنسبة لتركيا، نظرًا لأن هذه الدول زادت حصتها في الاقتصاد والسياسة العالميين.
وكنتيجة لذلك، تستحوذ دول الجنوب العالمي عامًا بعد عام على حصة أكبر من واردات وصادرات تركيا. وتقوم تركيا بزيادة عدد بعثاتها الدبلوماسية أيضًا في دول الجنوب العالمي.
وقد زاد عدد البعثات الدبلوماسية في أفريقيا من 12 بعثة في عام 2002 إلى 44 بعثة بعد عشرين عامًا، كما أن الوجود العسكري التركي في الجنوب العالمي هو أيضًا من بين أكثر المواضيع المتداولة. ويحظى الوجود العسكري التركي في أفريقيا، لا سيما في ليبيا والصومال والسودان، بترحيب من صناع القرار والرأي العام في البلدان المضيفة، على عكس التواجدات العسكرية النظيرة تاريخيًا.
ختامًا، يمكن تلخيص دور تركيا في الجنوب العالمي بأنه «شراكة نموذجية» تقوم على الاحترام والمساواة، وتحمل في طياتها بعدًا أخلاقيًا، وتتبنى استراتيجية الربح للجميع، وهو نهج ينسجم مع رؤية تركيا لدور عالمي أكثر عدلًا وتوازنًا، ومتوافق أيضًا مع موقف تركيا الحالي الذي يدعم إحداث تغيير واسع النطاق في النظام العالمي.
ويبدو أن تركيا التي تقيم تعاونًا عميقًا وهادفًا مع دول الجنوب العالمي الصاعدة من أجل نظام عالمي أكثر عدلًا ومشاركة سوف تتولى حتمًا دور «صوت هذه الدول»، علاوة على ذلك، يبدو أن تركيا تتمتع بميزة أكبر بكثير من منافسيها في إقامة شراكات قائمة على أساس الربح للجميع الذي تهدف إليه مع دول الجنوب العالمي، بالنظر إلى موقعها الجغرافي وقدراتها العسكرية والسياسية وتناغمها الاقتصادي.