
كيف تعيد التحالفات الاستراتيجية تشكيــل خريطـة الأمـن الآسيوية?
طارق المصري - كاتب وباحث بالشؤون السياسية
في ظل التحولات الجيوسياسية الكبرى التي يشهدها العالم اليوم، أصبحت آسيا مركزًا للصراعات الإقليمية والدولية، خصوصًا مع صعود الصين كقوة عالمية وتراجع النفوذ الأمريكي النسبي في المنطقة، ويبرز هذا التراجع في سياق تصاعد دور دول الجنوب العالمي، حيث تلعب الدول النامية والصاعدة اليوم دورًا أكبر في إعادة تشكيل النظام الدولي، وتحقيق مكتسبات متنوعة، في ظل تنامي سياسة «الانكفاء الأميركي» كعامل مؤثر في ديناميكيات الأمن الإقليمي الآسيوي.
ويفتح هذا الوضع الباب أمام الصين ودول جنوب آسيا لتعزيز نفوذها الأمني والعسكري والاقتصادي، عبر مسارات عدة، من أبرزها التحالفات الاستراتيجية، وهي سياسة تعتمدها الولايات المتحدة أيضًا إلى جانب حلفائها.
لقد شكّل القرن العشرون، الذي يُعرف بـ»عصر التنظيم الدولي»، محطةً بارزة في بناء التحالفات بين الدول، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث برزت «الإقليمية» كظاهرة سياسية فاعلة، حيث دعا أنصار هذا التوجه إلى إنشاء كيانات إقليمية كبديل للعالمية، بهدف تعزيز الأمن المشترك، ما أدى إلى بروز «نظرية السلم الإقليمي»، خاصة بين الدول المتقاربة جغرافيًا.
وفي خضم هذا التحول، وجدت الدول النامية ودول الجنوب العالمي نفسها أمام تحديات جيوسياسية واقتصادية متسارعة، فاتجهت نحو تعزيز التعاون الإقليمي لتعويض ضعفها التنافسي في النظام الدولي.
ومع تصاعد التنافس بين العملاقين الأمريكي والصيني، باتت آسيا مركزًا لهذا الصراع، في مشهد ينذر بتحولات عميقة في بنية النظام الدولي، مع صعود قوى جديدة وتراجع أخرى، وإعادة تشكيل التحالفات التقليدية، مما يجعل من الأمن الإقليمي الآسيوي أحد أكثر الملفات تعقيدًا، حيث تتداخل المصالح الاقتصادية والعسكرية للدول الكبرى مع طموحات القوى الإقليمية الصاعدة، مما يضفي طابعًا ديناميكيًا على التحديات الأمنية في المنطقة، ويجعلها بؤرةً للتوترات والفرص على حدٍ سواء ومن أكثر القضايا تعقيدًا وإلحاحًا عند تلك الدول.
بيئة أمنية متغيرة وتحديات مركبة
يُعد الأمن الإقليمي الآسيوي من أكثر الملفات تعقيدًا عالميًا، نظرًا لتداخل المصالح الاقتصادية والعسكرية للدول الكبرى مع طموحات القوى الإقليمية الصاعدة، ويمتاز المشهد الأمني الآسيوي بتنوع التهديدات، بدءًا من النزاعات الحدودية، وسباق التسلح النووي، مرورًا بالتنافس بين القوى العظمى، ووصولًا إلى انتشار بعض الجماعات الإرهابية، وتوترات ساخنة في بحر الصين الجنوبي بين الصين من جهة والفلبين وفيتنام وماليزيا من جهة والتصعيد العسكري بينهم بسبب بناء الجزر الاصطناعية من قبل الصين.
إضافة إلى وجود تدخلات من الولايات المتحدة في حرية الملاحة، وتوترات في شبه الجزيرة الكورية والتي لا تزال واحدة من أكثر المناطق خطورة في العالم، وتوترات جزر سينكاكو/ديياوي المستمرة بين اليابان الصين، والصراع الهندي الباكستاني على كشمير منذ تقسيم شبه القارة الهندية في عام 1947م، بالإضافة لسباق التسلح العسكري الصاروخي والنووي بينهما، وتداعيات الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وغيرها من القضايا والتوترات في الخليج العربي والمنطقة الآسيوية.
ومما زاد الوضع سخونة تداعيات الحرب الأوكرانية الروسية، وازدياد الارتباطات الروسية مع دول آسيا عموماً والصين خصوصا والتي أصبحت تشاركها بعد المناورات البحرية في المحيط الهادي، إلا أن التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين يعد المحرك للعديد من التوترات الأمنية في الجنوب الآسيوي، خاصة في مناطق مثل بحر الصين الجنوبي وتايوان.
التحالفات كأداة لإعادة التوازن
شهدت القارة الآسيوية نشوء عدد من التحالفات الأمنية على مر العقود، بعضها يعود إلى فترة الحرب الباردة، وأخرى حديثة تستجيب للمتغيرات الجيوسياسية المتسارعة.
وتمثل التحالفات الأمنية والسياسية أداة حاسمة لإعادة توازن القوى في آسيا، حيث تسعى الدول الصاعدة لتعويض ضعف قدراتها العسكرية عبر التعاون مع قوى كبرى، وتشكّل هذه التحالفات وسيلة للحصول على التكنولوجيا والاستثمارات الدفاعية، وردع التهديدات، سواء عبر «المظلة الأمريكية» أو التوازن عبر الصين وروسيا.
كما تلعب العوامل التاريخية دورًا محوريًا في بناء هذه التحالفات، مثل الإرث العدائي بين الهند وباكستان، أو بين اليابان والصين، ما يدفع الأطراف إلى البحث عن تحالفات تُعزز وضعها الاستراتيجي.
وفي هذا الإطار، يُعد الردع النووي غير المباشر، كالمظلة الأمريكية لكوريا الجنوبية واليابان، نموذجًا لتوازن الردع في آسيا، في مواجهة الخطر النووي الكوري الشمالي.
ويمكن تقسيم التحالفات إلى قديمة وجديدة، فالأحلاف القديمة مثل حلف (ANZUS)عام 1951م بين الولايات المتحدة، أستراليا، نيوزيلندا حيث كان الهدف منه تعزيز التعاون الأمني بين الدول الأعضاء، خاصة في مواجهة التهديدات في منطقة المحيط الهادئ، وتحالف Five Power Defence Arrangements) FPDA) ترتيبات الدفاع بين القوى الخمس» عام 1971م بين المملكة المتحدة، أستراليا، نيوزيلندا، ماليزيا، سنغافورة لتوفير ضمانات أمنية لماليزيا وسنغافورة في أعقاب انسحاب القوات البريطانية من المنطقة، وغيرها من التحالفات.
أما التحالفات الجديدة فهي أكثر فعالية، ويعد أبرزها تحالف Quad (الحوار الأمني الرباعي) عام 2007م، بين الولايات المتحدة، اليابان، الهند، أستراليا، وهدفه الرئيسي تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومواجهة النفوذ الصيني المتزايد.
وتحالف (AUKUS)2021م الذي يضم الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، أستراليا، والذي يهدف لتعزيز التعاون في مجال التكنولوجيا العسكرية والأمن البحري، وشمل تزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي والبريطاني في المحيط الهادئ لمواجهة التوسع الصيني، ويعد من أكثر التحالفات العدائية للصين.
وعلى الجانب الأخر يأتي تحالف SCO (منظمة شانغهاي للتعاون) الذي تأسس عان 2001 ويضم الصين، روسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، الهند، باكستان، بهدف تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي بين الدول الأعضاء، مع التركيز على مكافحة الإرهاب والتطرف.
وينظر إلى المنظمة كمنصة للصين وروسيا لتعزيز نفوذهما في آسيا الوسطى ومواجهة النفوذ الغربي، ففي قمة عام 2019م، أكد بوتين على أهمية التعاون الاستراتيجي بين روسيا والصين في مواجهة النفوذ الأمريكي في آسيا.
كما أن هناك تحالفات متشابكة بين الدول مثل تحالف (RCEP) الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة عام 2020م بين الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا، نيوزيلندا، ودول (ASEAN) العشر، تحت هدف تعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء، ويعتبر هذا التحالف محاولة صينية لتعزيز نفوذها الاقتصادي في آسيا، ضد تأثير الولايات المتحدة في المنطقة.
ويُمثِّل انخراط الدول الآسيوية في تحالفات أمنية انعكاسًا لتداخل معطيات تاريخية وجيوستراتيجية أمنية واقتصادية، تتصدّرها التهديدات الأمنية المباشرة، والنزاعات الإقليمية، وسعي مشترك لتحقيق توازن القوى ضد الهيمنة الصينية أو الأمريكية.
كما توفر التحالفات مع القوى الكبرى فرصةً للحصول على التكنولوجيا العسكرية والاستثمارات الدفاعية، وتلعب العوامل التاريخية دورًا محوريًا في الاصطفاف ضمن التحالفات، وتدفع العداءات المتراكمة كالخلاف الهندي الباكستاني أو التوتر الياباني الصيني إلى البحث عن حلفاء لتعويض الضعف العسكري الذاتي، نظرًا لعدم قدرة معظم الدول الآسيوية على مواجهة التهديدات منفردة.
الصين مقابل أمريكا
تسعى الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إلى ترسيخ نفوذها من خلال مشاريع كبرى مثل مبادرة الحزام والطريق، ومفهوم «الحلم الصيني» الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ لاستعادة مكانة بلاده كقوة عظمى، مع التركيز على التنمية الاقتصادية والعسكرية.
في المقابل، تواصل الولايات المتحدة تعزيز وجودها العسكري والسياسي والحفاظ على هيمنتها التقليدية عبر التحالفات (مثل Quad وAUKUS) وفرض استراتيجيات اقتصادية لمواجهة هذا الصعود الصيني وتعزيز وجودها العسكري في المحيطين الهندي والهادئ، وقد وصف ترامب الصين بأنها «التهديد الأكبر لأمريكا»، في تعبير عن ذروة التوتر بين القوتين.
هذا التنافس يؤثر على ملفات ساخنة مثل تايوان، حيث تدعم أمريكا استقلال الجزيرة، بينما تعتبرها الصين جزءًا من أراضيها، ما ينذر باحتمال نشوب مواجهة عسكرية، ويخلق بيئة أمنية معقدة، ويزيد تزداد التوترات في المنطقة ويرفع حدة المنافسة في مجالات مثل التكنولوجيا والتجارة، الا أن مكاسب التحالفات والرهان عليها جعلها تتخطى فكرة الإقليمية، بعد ظهور مجموعة بركس (BRICS) عام 2009م، التحالف الاقتصادي والسياسي والذي يشمل بعضًا من أكبر الاقتصادات الناشئة في العالم.
آسيا في قلب صراع التحالفات
تشهد آسيا اليوم تقاطعًا نادرًا بين المصالح الاستراتيجية العالمية، والتطلعات الإقليمية، والصراعات القديمة المتجددة، ومع صعود الجنوب العالمي، تتجه العديد من دول القارة إلى بناء تحالفات جديدة، أو إعادة تفعيل التحالفات القديمة، بما يتيح لها تحقيق التوازن بين النفوذين الأميركي والصيني.
ومع انسحاب أمريكا من بعض الجبهات، مثل أفغانستان، وتراجع حضورها في الشرق الأوسط، تتسارع التغيرات الأمنية في آسيا، وسط بروز تحالفات دول الجنوب العالمي وعلى رأسها مجموعة بريكس كلاعب مستقل في إعادة تشكيل قواعد اللعبة.