
مـاذا يعني الاعتماد على الطاقة المتجددة جيــوســيــــاســيــاً؟
أسامة الغول - صحفي وباحث في مرحلة الدكتوراه
باتت الطاقة المتجددة مشروعاً استراتيجياً طموحاً لكثير من الدول التي تخطط لمستقبل شعوبها واستقرارها، فلا قدرة لأي دولةٍ على الاستمرارية دون وجود مصادر طاقة مستمرةٍ ومتوفرةٍ، خاصة إذا ما علمنا أن تلك المصادر هي شريان حياةٍ رئيسي تتوقف عليه عجلة الاقتصاد والأعمال، فضلاً عن تحقيقها رفاهيةً لا تنعم بها كثير ٍمن الدول والشعوب التي تسعى لموطئ قدم في عالمٍ تحكمه القوة والنفوذ والمصالح. من جانب آخر، أدت التغييرات المناخية وعديد الأزمات الدولية السياسية وما رافقها من سلبيات متعلقة باستخدام الطاقة التقليدية(النفط والغاز) إلى المساهمة في رسم توجهات استراتيجية تجاه الطاقة المتجددة المتصالحة مع البيئة والإنسان، والتي من الممكن الحصول عليها دون دفع أثمانٍ باهظةٍ سواء سياسية كانت أم مادية!! فهل يشكل الاعتماد على الطاقة المتجددة عوامل جديدة مؤثرة على القوة والنفوذ ومصالح الأعمال وتبدل الأولويات؟
لأكثر قرن من الزمن، كانت الدول التي لديها النفط والغاز تمتلك القوة، بالمعنيين الحرفي والسياسي، حيث عمدت لبيعهما مقابل أرباح ضخمة، أما الدول التي اعتمدت عليها في تسيير حياتها اليومية فقد دفعت الكثير من الدماء والمال في سبيل استمرار حصولها عليهما.\
في هذا الإطار، يواجه العالم نقطة تحوُّل غير مسبوقة، حيث يمثِّل تغيُّر المناخ تهديداً حقيقياً وداهماً للرخاء الذي يتمتّع به الكثيرون اليوم وما تطمح إليه الملايين وتعمل من أجل تحقيقه غداً، فتغيُّر المناخ لا يزال متواصلاً إلى حدٍّ كبير من جرّاء الانبعاثات المتأتية من احتراق أنواع الوقود الأحفوري، الأمر الذي يفرض علينا أن نخفِّض استهلاكنا من هذه المحروقات الكثيفة الكربون، أما الطاقات المتجدِّدة فيمكن، ويجب، أن تكون جزءاً محورياً من البدائل الآنية والمستقبلية حيث باتت الرياح الشاطئية حالياً واحداً من أكثر مصادر الكهرباء المتوافرة كمصدر من مصادر الطاقة النظيفة أو الخضراء .
وتكمن أهمية الطاقة المتجددة بأنها ستصبح المصدر الرئيس للطاقة في البلدان الفقيرة والمناطق النائية، خصوصًا أن هذه المناطق ولا سيما منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والاتحاد الأوروبي، تتوافر فيها ظروف مناخية مؤاتية (أشعة الشمس، الرياح).
لكن يبدو أنه لا يوجد إجماع على موعد الانتقال من الوقود الأحفوري إلى الطاقة النظيفة، حيث هناك العديد من التنبؤات المختلفة حول متى سيصل الطلب العالمي على النفط إلى الذروة ومن ثم ينهار. يتوقع المخططون في شركة “شل” أن ذلك قد يحدث في وقت مبكر من عام 2025، وهكذا فإن بعض الدول المنتجة للنفط تحاول الاستعداد للحظة التي تصبح فيها غير قادرة على الاعتماد على النفط، وتتطلع إلى تنويع اقتصاداتها وإيجاد مصادر أخرى للطاقة، إلا أن الدول الأخرى الأكثر تشككاً تبدو واثقةً من أن الطلب على النفط والغاز سيستمر لبعض الوقت. بحلول نهاية العام الحالي، هناك توقعات بأن يتفوق الإنفاق في استثمارات الطاقة المتجددة على الإنفاق على مشاريع استكشاف وإنتاج النفط والغاز في آسيا باستثناء الصين في ظل المساهمة الكبيرة في استثمارات «الطاقة النظيفة» من قبل أستراليا ودول آسيوية أخرى، مثل فيتنام، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وفقاً لمؤسسة “ريستاد إنيرجي” للبحوث والاستشارات.
يقول جيرو فاروجيو، مدير قسم الطاقة المتجددة في ريستاد: “تملك كل واحدة من هذه الدول المشاريع المستقبلية لعمليات تطوير الطاقة المتجددة بأنواعها كافة، بما في ذلك طاقة الرياح البحرية، والأهم من ذلك؛ تضع معظم هذه الدول خططاً كبيرة لدمج الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة لديها، مع وجود سياسات داعمة لذلك”.
وتتوقع ريستاد أيضاً، استمرار مصادر الطاقة المتجددة في تحقيق نمو قوي مثل ما شهدته أستراليا حتى عام 2018 . وفي الهند، تشهد البلاد عمليات توسعة كبيرة في مجال الطاقة المتجددة؛ ما دفع شركات مثل “شل” و”بتروناس” إلى الدخول في قطاع الطاقة المتجددة على الصعيدين التجاري والصناعي حيث يزيد استثمار الهند، وللمرة الأولى في تاريخها، في الطاقة الشمسية عنها في الفحم بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي حيث تجاوز إجمالي استثماراتها في توليد الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة عن تلك التي تستثمرها في الوقود الأحفوري للسنة الثالثة على التوالي.
تأمين إمدادات الطاقة
تسعى الدول الآسيوية في ظل تصاعد المخاطر الجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط مؤخرًا على خلفية ازدياد حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة للتحرك على عدة مستويات لتأمين إمدادات كافية من الطاقة لتلبية احتياجات أسواقها لتجنب تعرضها لصدمات حادة ويشمل ذلك الحصول على إمدادات إضافية من النفط الخام من أسواق أخرى (مثل: الولايات المتحدة، وروسيا، والبرازيل، وغيرها).
تعرضت إمدادات النفط بمنطقة الشرق الأوسط لمخاطر واضحة منذ خروج الولايات المتحدة الأمريكية في مايو 2018 من الاتفاق النووي النهائي المبرم بين إيران والقوى الدولية في يناير 2016، وهي خطوة أعقبها قيام واشنطن بتشديد العقوبات على الأنشطة الاقتصادية في إيران بما في ذلك قطاع الطاقة، حيث تم حظر تصدير منتجات النفط الإيرانية للأسواق الدولية ومن بينها الآسيوية بطبيعة الحال.
وبالتوازي مع ازدياد حدة توترات منطقة الشرق الأوسط، تصاعدت مخاوف مشتري النفط في آسيا من نقص إمدادات الطاقة لديهم، لا سيما وأنهم يعتمدون على الواردات القادمة من الشرق الأوسط في تلبية حوالي 50% من استهلاكهم مقارنةً بحوالي 16% في الدول الأوروبية، بل وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 80% كما هو الحال في اليابان. تجدر الإشارة هنا إلى أن خامات النفط المنتجة في الشرق الأوسط تتميز دون غيرها بجودتها العالية، وانخفاض كلفة نقلها للأسواق الآسيوية.
ومن اللافت أيضًا أنه في أعقاب الهجوم على منشآت أرامكو in سبتمبر الماضي، اتجهت بعض المصافي النفطية الآسيوية للحصول على إمدادات إضافية من السوق الأمريكية على غرار مصفاة النفط التابعة لشركة «ني سون» للتكرير والبتروكيماويات الفيتنامية حيث تعاقدت على استيراد مليوني برميل من خام «غرب تكساس الوسيط» من الولايات المتحدة حتى نهاية الربع الرابع من العام الجاري، فضلًا عن شراء شحنات أخرى من خام «بوني الخفيف» النيجيري وذلك في إشارة تؤكد اتجاهها نحو تنويع مصادر الواردات وسط توترات منطقة الشرق الأوسط.
ودفع تصاعد المخاطر الجيوسياسية بالشرق الأوسط مؤخرًا بعض الدول الآسيوية لطرح خيار استخدام المخزونات الاستراتيجية من النفط الخام بحوزتها إن دعت الظروف إلى ذلك، وذلك على غرار كوريا الجنوبية التي أعلنت في 16 سبتمبر الماضي أنها بصدد دراسة سحب نفط من احتياطيات الخام الاستراتيجية لديها إذا تدهورت أوضاع واردات النفط الخام، وهذا إجراء تقليدي عادةً ما تتخذه الدول المستهلِكة للنفط في حال حدوث أزمات طارئة لدى موردي النفط الذين تعتمد عليهم. وفي السنوات الماضية، عملت بعض الدول الآسيوية على بناء مستويات كافية من الاحتياطيات الاستراتيجية والتجارية لديها للتعامل مع الأزمات الطارئة في أسواق النفط العالمية.
على سبيل المثال، تمتلك الصين أكبر مستوىً من الاحتياطيات الاستراتيجية في آسيا بحوالي 325 مليون برميل، أي ما يكفي لتغطية نحو 33 يومًا من الواردات الصينية من النفط الخام. بيد أنه بالنظر لدول أخرى مثل الهند، نجد أن لديها مستويات منخفضة من الاحتياطيات الاستراتيجية تقدر بنحو 5.33 ملايين طن (أي نحو 39 مليون برميل) وهو يكفي لتلبية حوالي 9.5 أيام فقط من احتياجات البلاد من الخام، مع العلم بأن شركات تكرير النفط في الهند تحتفظ هي الأخرى بمخزونات من الخام كافيةً لتزويدها باحتياجاتها لمدة تتراوح بين 15 إلى 20 يومًا.
وربما وسط تنامي توترات الشرق الأوسط تتجه الدول الآسيوية -ومن بينها الهند- لزيادة مستويات الاحتياطيات الاستراتيجية لديها وذلك للوفاء باحتياجاتها في حال حدوث أزمات خارجية، وتفادي تعريض أسواقها لصدمات حادة، وهذا ما سيقتضي منها على أية حال في الفترة المقبلة زيادة التركيز على الاستثمار في البنية التحتية لتخزين النفط.
وعلى مستوى آخر، كثّفت بعض الحكومات الآسيوية مؤخرًا من وتيرة إجراءاتها التي كانت قد بدأتها منذ سنوات لتنويع مزيج الطاقة لديها، وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة (مثل: الغاز الطبيعي، والطاقة الشمسية، والرياح) في توليد الكهرباء، وقد أعلنت اليابان في 24 سبتمبر الماضي عن خطة جديدة لضخ استثمارات بنحو 10 مليارات دولار في مشاريع الغاز الطبيعي المسال في جميع أنحاء العالم وذلك في مسعى منها على ما يبدو لتعزيز أمن إمدادات الطاقة لديها، وتقليل الاعتماد على النفط الخام بشكل عام. لهذا يبدو أن التوجه إلى استخدام الطاقة المتجددة(الشمس والرياح الشاطئية)، والاستغناء عن استخدام الطاقة التقليدية (النفط والغاز) يساعد على حدوث تحولات إقليمية ودولية، وتغير في التحالفات وتقليص الانتشار العسكري لحفظ الإمدادات التلقليدية من الطاقة، لذلك لنتخيل أن بلداً مستقراً منتجاً للنفط في منطقة الخليج أصبح فجأةً دولةً فاشلةً بعد الاستغناء عن نفطه وغازه، لن تكون هذه كارثة على البلد نفسه فحسب، بل يمكن أن يكون لها أيضا تداعيات هائلة على العالم بأسره. كما أن بعض الدول التي لديها وفرة من طاقة الشمس والرياح أو المد والجزر لن تصبح مكتفية ذاتياً فحسب، بل يمكنها أيضا تصدير بعض من طاقتها عبر ما يسمى بوصلات ضخمة يمكن إنشاؤها لهذا الغرض، وقد يكون هناك مكاسب للسلام العالمي أيضاً، فإذا لم يعد العالم بحاجةٍ إلى الكثير من النفط الذي يمر عبر مضيق هرمز كل يوم، فربما لن يحتاج إلى جيوش جرارة وأساطيل بحرية للدفاع عنه، وبالتالي من المتوقع بشكل كبير أن تتراجع الأهمية الكبيرة للجغرافية السياسية المرتبطة بالنفط. وعليه، يمكن القول في الختام إن الدول الآسيوية تسعى حثيثًا نحو تأمين احتياجاتها من الطاقة من مصادر متنوعة في ظل تصاعد المخاطر الجيوسياسية بالشرق الأوسط. مضيق هرمز كل يوم، فربما لن يحتاج إلى جيوش جرارة وأساطيل بحرية للدفاع عنه، وبالتالي من المتوقع بشكل كبير أن تتراجع الأهمية الكبيرة للجغرافية السياسية المرتبطة بالنفط.
وعليه، يمكن القول في الختام إن الدول الآسيوية تسعى حثيثًا نحو تأمين احتياجاتها من الطاقة من مصادر متنوعة في ظل تصاعد المخاطر الجيوسياسية بالشرق الأوسط.