
مـلامــح نظــام عالمـي نـاشـئ
يأتي انتخاب الرئيس دونالد ترامب لولاية ثانية في وقت يشهد اضطرابًا عالميًا وتحولات كبيرة، حيث يتولى الرئيس الأمريكي فعليًا تصفية «الإمبراطورية الأمريكية».
وصف الرئيس الصيني شي جين بينغ العصر الحالي بأنه فترة مليئة بالأحداث، تشهد «تغيرات لم تُرَ منذ قرن»، كما أقر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن «300 عام من الهيمنة الغربية تقترب من نهايتها».
يُعد الرئيس ترامب أول رئيس أمريكي منذ جون كينيدي لا ينتمي إلى المؤسسة الأمنية التقليدية للولايات المتحدة، بل تعهد علنًا بتفكيك «الدولة العميقة»، واستعداده للتحدث مع «الأعداء التقليديين» مثل روسيا وإيران وكوريا الشمالية، ويرى أن الحلفاء الأوروبيين وحلف الناتو يشكلون «عبئًا»، بل إنه مستعد لعقد صفقة مع الصين، التي وصفتها أحدث تقييمات التهديدات الاستخباراتية الأمريكية في 25 مارس 2025 بأنها «التهديد العسكري الأكثر شمولية وقوة للأمن القومي الأمريكي”.
تحدث هذه التطورات في سياق ثلاثة تحولات أساسية في النظام العالمي المعاصر:
أولاً، تراجع الغرب وصعود الجنوب العالمي بالتزامن، حيث أعلنت مجلة «الإيكونوميست» في 9 مايو 2024 أن «النظام الدولي الليبرالي الغربي (ما بعد الحرب العالمية الثانية) يبدو أنه يتفكك».
ثانيًا، الصعود الهائل للصين، خاصة في المجالات المتقدمة من العلوم والتكنولوجيا، مما يعزز سعي بكين لقيادة ظهور نظام عالمي بديل لا يعتمد على الهيمنة الغربية المتلاشية، بل يدعم ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي ومبادئ التعايش السلمي الخمسة.
وقد أعدت جامعة هارفارد الأمريكية تقريرًا بحثيًا بعنوان «الصين مقابل الولايات المتحدة – المنافسة التقنية الكبرى»، أشار إلى أن «الصين تبدو وكأنها تتفوق على الولايات المتحدة في التصنيع عالي التقنية، خاصة في الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس، والروبوتات، والحوسبة السحابية، والعلوم، والتكنولوجيا، والهندسة والرياضيات (STEM)». ووصفت «الإيكونوميست» في خبرها الرئيسي في 15 يونيو 2024 الصين بأنها «القوة العظمى العلمية»، مشيرة إلى أن «النظام العلمي القديم، الذي كانت تهيمن عليه الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، يقترب من نهايته».
تستشهد «الإيكونوميست» ببعض الحقائق المثيرة للاهتمام في هذا الصدد: 40% من الأوراق البحثية الأصلية في الذكاء الاصطناعي تصدر الآن من الصين، بينما تصدر 10% فقط من الولايات المتحدة و15% أخرى من أوروبا/المملكة المتحدة؛ ومن بين أفضل عشر جامعات بحثية علمية، توجد 6 جامعات في الصين؛ وتعد جامعة تسينغهوا، التي تخرج منها الرئيس شي جين بينغ، أفضل جامعة في العالم في العلوم والتكنولوجيا اليوم، كما أن مركبة الفضاء الصينية هي الأولى التي تجلب عينات إلى الأرض من الجانب البعيد من القمر.
ثالثًا، بدأت الولايات المتحدة والغرب بالفعل في حرب باردة جديدة لاحتواء الصين وكبح صعودها، حيث وصفت الصين حلف شمال الأطلسي «الناتو»، الذي يقع مقره في أوروبا، بأنها «تهديد»، وبعد قمة مجموعة السبع لعام 2024 في إيطاليا، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرًا بعنوان: «الصين تنضم إلى قائمة أعداء مجموعة السبع»، مشيرة إلى «28 إشارة إلى الصين في البيان الختامي، معظمها يصف بكين بأنها قوة خبيثة».
بينما يستعد الغرب، أو بشكل أكثر دقة، المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، الذي أصبح آلة حرب دائمة، لحرب باردة جديدة بعقلية متجذرة في الحرب الباردة الماضية، فإن ملامح نظام عالمي ناشئ أصبحت واضحة بالفعل، لتحل محل النظام الاقتصادي والسياسي العالمي الذي دعمته القوى الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي بدأ بالفعل في التفكك. ستكون منظمات مثل مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO) ركائز هذا النظام العالمي الجديد الناشئ، الذي سيستمد قوته من ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي ومبادئ التعايش السلمي الخمسة، رافضًا الهيمنة والإملاءات العسكرية والمعايير المزدوجة.
يمكن لمجموعة بريكس الموسعة ومنظمة شنغهاي للتعاون أن تسهم بشكل كبير في تعزيز ثلاثة اتجاهات رئيسية في العلاقات الدولية المعاصرة:
دمقرطة العلاقات الدولية من خلال الحوار والعلاقات بين الدول القائمة على المساواة والمعاملة بالمثل وسيادة القانون.
نزع الطابع العسكري عن العلاقات الدولية، حيث يسيطر الهوس بالحرب الباردة الجديدة على النظام العالمي الغربي في القرن الحادي والعشرين، من خلال تسليح إسرائيل لقتل الفلسطينيين أو الترويج لـ»الناتو الآسيوي» وبناء مجموعات مثل QUAD وAUKUS لاحتواء الصين وروسيا.
إلغاء الدولرة للنظام المالي الدولي، حيث تستخدم الولايات المتحدة الدولار كسلاح سياسي، بينما بدأت 68 دولة من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة بالفعل في هذه العملية. كما أنهت السعودية في 9 يونيو 2024 اتفاقها الذي دام 50 عامًا مع الولايات المتحدة بشأن البترودولار، وأصبح النفط السعودي يُتداول الآن بعملات غير الدولار.
في 14 يونيو 2024، تم الكشف عن مبادرة الرئيس بوتين لنموذج أمني أوروآسيوي جديد، يقوم على الأمن المتكامل للدول بحيث لا يمكن أن تكون أمن دولة واحدة على حساب الآخرين، وهو مشابه للمبادرة السابقة للرئيس شي جين بينغ في عام 2022 بشأن «مبادرة الأمن العالمي». في أستانا، بكازاخستان، وصف الرئيس بوتين منظمة شنغهاي للتعاون بأنها «واحدة من الركائز الرئيسية لنظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب”.
كما اتخذت روسيا والصين موقفًا مبدئيًا وصريحًا بشأن الإبادة الجماعية في غزة، مؤكدتين أن إسرائيل خسرت الحرب سياسيًا وأخلاقيًا وقانونيًا ودبلوماسيًا، وكشفت داعمي إسرائيل في الغرب المتراجع عن معاييرهم المزدوجة، حيث أنهم متواطئون في دعم الإبادة الجماعية في غزة، والتي تُعد جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
مثال على التحولات في التحالفات هو حالة باكستان، نظرًا لدورها التاريخي وموقعها الجغرافي، حيث بدأت بالفعل في أن تكون جزءًا نشطًا من النظام العالمي الجديد الذي يتشكل الآن، ويتضح ذلك من خلال ثلاثة تطورات محددة.
وظهر خلال انتخاب إسلام آباد لعضوية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للفترة 2025-2026، الدور المتزايد لباكستان كمدافع عن الجنوب العالمي، خاصة كصوت للمظلومين من الكشميريين والفلسطينيين.
ثم قبلت دعوة الرئيس بوتين للانضمام إلى مبادرته المميزة لممر النقل الدولي، بينما تُعد زيارة رئيس وزراء باكستان إلى الصين في يونيو 2024 والبيان المشترك الناتج عنها بمثابة مخطط تاريخي لاتجاه الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين باكستان والصين في المستقبل.
وهناك ثلاثة عناصر مهمة في البيان المشترك، فأولاً يشير إلى محتوى وجودة العلاقة الثنائية باعتبارها قائمة على «ثقة متبادلة لا تتزعزع»، وفي إشارة غير مباشرة إلى وجود قائد الجيش، الذي كان جزءًا من الوفد الباكستاني، في اجتماع رئيس الوزراء مع الرئيس شي جين بينغ، فإن التعاون بين جيشي الجارتين ينبع من «مستوى عالٍ من الثقة المتبادلة التي تلعب دورًا حاسمًا لا يمكن الاستغناء عنه في ضمان التوازن الاستراتيجي في المنطقة» (في إشارة إلى المنافس الإقليمي، الهند، المدعومة بنشاط من الولايات المتحدة).
ثانيًا، تؤيد باكستان أن «مسار التحديث الذي تسلكه الصين يوفر خيارًا جديدًا وحلًا عمليًا للدول النامية»، وأن «فكر الرئيس شي جين بينغ فتح طريقًا جديدًا للتعامل مع العلاقات الدولية بطريقة مناسبة».
ثالثًا، أعرب البلدين عن دعمهما لـ»عالم متعدد الأقطاب متساوٍ ومنظم، وعولمة اقتصادية شاملة ومفيدة للجميع»، مع معارضة «الهيمنة، والتسلط، والتنمر، والمناهج الإقصائية، وسياسات القوة، والأحادية بجميع أشكالها”.
كما أعربت الصين عن دعمها لـ»دور أكبر لباكستان في الشؤون الإقليمية والدولية»، وبشكل لافت، قال الرئيس شي جين بينغ لرئيس وزراء باكستان وقائد الجيش إن «الصين تنظر إلى العلاقات مع باكستان من منظور استراتيجي وطويل الأمد”.
إذن، كيف سيتشكل النظام العالمي المستقبلي؟
هناك ثلاثة عناصر ستكون أساسية:
أولاً، الشرق الأوسط، الذي أصبح الآن مركز الثقل في السياسة العالمية، عند نقطة تحول بعد عملية «طوفان الأقصى»، الخيار واضح: إما تحقيق السلام والاستقرار الدائمين من خلال دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، أو قبول وضع جديد قائم على الهيمنة الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة.
بعض الدول العربية الغنية (الإمارات والسعودية) قد اشترت بالفعل طريقها إلى رضا ترامب بالتزامها باستثمار مبلغ ضخم قدره 2 تريليون دولار في الولايات المتحدة خلال السنوات العشر القادمة.
وإذا تم تجاوز فلسطين مرة أخرى، فسيكون ذلك وصفة لكارثة تؤدي إلى جولة جديدة من عدم الاستقرار والصراع الدائم، حيث ستُرسم خطوط المعركة هذه المرة بين الصهيونية والإسلامية الشاملة.
ثانيًا، العلاقة الثلاثية بين القوى الكبرى: الولايات المتحدة، الصين، وروسيا، وهل ستؤدي إلى اتفاقية «يالطا جديدة» أم إلى خطوط معركة جديدة في حرب باردة جديدة بين واشنطن وبكين التي لديها الآن تحالف صلب مع روسيا.
ثالثًا، من المرجح أن يشهد العالم الإسلامي، خلال السنوات العشر القادمة، ظهور بعض القوى الإسلامية الكبرى مثل: باكستان وتركيا وإيران وإندونيسيا والسعودية، الذين سيكونون لاعبين محوريين في مناطقهم.
ببساطة، الغرب منقسم وفي حالة تراجع، بينما الجنوب العالمي في صعود، بقيادة «القرن الآسيوي» الذي ترأسه الصين، وتصاعد بكين لا يمكن إيقافه، وهذه الحقائق الجديدة الأساسية هي التي ستحدد مسار التاريخ البشري في حياتنا.