
ملامح الصراع الاقتصادي بين أميركا ودول الجنوب
عبد الحافظ الصاوي - باحث وكاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية
ملامح الصراع الاقتصادي بين أميركا ودول الجنوب
عبد الحافظ الصاوي – باحث وكاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية
تُعد الفترة ما بين مطلع التسعينيات من القرن العشرين وحتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، من الفترات المهمة التي شهدت تغيرات كبيرة، تمثلت في اندماج بعض دول الجنوب في مشروع العولمة الأميركية.
وقد أسفر هذا الاندماج المحسوب عن تغييرات حقيقية في واقع التنمية لدى عدد من تلك الدول، والتي أُطلق عليها لاحقًا مسمى «الدول الصاعدة».
والحقيقة، أن الدول الصاعدة وسائر دول الجنوب، أدركت بنهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، أن ثمة أخطاء كبيرة ارتكبتها السياسات الاقتصادية الأميركية منذ بدء تفعيل منظومة العولمة. وأسهمت هذه الأخطاء في تصاعد المطالبات بنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يعيد تشكيل النظام التجاري والاستثماري، ويُغيّر من طبيعة النظام المالي الدولي، ويحد من سيطرة الدولار على التسويات التجارية والمالية العالمية.
هذه المطالب قوبلت برفض أميركي واضح، انطلاقًا من رغبة واشنطن في الحفاظ على نظام أحادي القطبية، يمنحها امتيازات اقتصادية على حساب بقية دول العالم، ويتيح لها تصدير أزماتها الاقتصادية للعالم، كي يتحمل تبعاتها.
بلورة جبهة المواجهة
شكّلت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 نقطة تحول بارزة، إذ دفعت نحو إعادة النظر في قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية، لما تركته من آثار سلبية على الواقع الاقتصادي العالمي.
وفي أعقاب هذه الأزمة، تأسست مجموعة «بريكس» التي ضمّت خمس دول: البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، وفي عام 2024، انضمت ست دول أخرى إلى المجموعة، مع وجود طلبات انضمام جديدة، ما يسهم في تعزيز دور المجموعة وتأثيرها في الاقتصاد العالمي.
ومما ينبغي إيضاحه، أن مجموعة «بريكس» تتحرك في إطار عضويتها وتؤدي دورًا استشاريًا في القضايا الدولية، دون أن تنخرط بشكل مباشر في مواجهة مع الولايات المتحدة باسم دول الجنوب. ومع ذلك، يمكن اعتبار بعض خطواتها العملية محطات بارزة في سياق الصراع الاقتصادي مع أميركا، مثل تأسيس بنك التنمية الجديد (بنك البنية التحتية)، الذي أُنشئ بمبادرة صينية، وبمشاركة أعضاء المجموعة، واعتماد عملة اليوان الصينية عملة دولية، واعتبارها أحد مكونات عملات الاحتياطيات الدولية منذ عام 2016، بعد اعتماد الأمر من قبل صندوق النقد الدولي.
لقد ترتب على خروج بنك البنية الأساسية للنور، أن وجدت بعض دول الجنوب متنفس للاقتراض والتمويل بعيدًا عن المؤسسات المالية الدولية، التي تتحكم في أميركا والدول الأوروبية.
ومما يلفت النظر لطبيعة الصراع في دائرة الاقتصاد العالمي، خريطة تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث أصبحت حصة دول الجنوب بارزة ومؤثرة، باستحواذها على نحو 70% من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2022، وهو ما يعكس تغيرًا نوعيًا في خريطة الاقتصاد العالمي.
الجدير بالذكر أنه قبل انطلاق منظومة العولمة، كانت هناك تجمعات عدة تعبر عن دول الجنوب، مثل مجموعة الـ 77، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد»، والاتحاد الافريقي، ولا زالت هذه التجمعات قائمة، ولكن فعاليتها محدودة الأثر.
وفيما يلي نتناول أبرز مظاهر وقضايا الصراع بين أميركا ودول الجنوب، والتي يمكن رصدها في ثلاثة عناويين بارزة، هي التجارة، والتكنولوجيا، وهيمنة الدولار.
قضايا التجارة
دفعت الولايات المتحدة بقوة نحو إنشاء منظمة التجارة العالمية في نهاية عام 1994، بديلًا لاتفاقيات «الجات»، بهدف ترسيخ مبادئ التجارة الحرة عالمياً، وإنفاذ القوانين الخاصة بها في كافة دول العالم.
لكن عندما تغيّرت خريطة التجارة العالمية لصالح الصين وغيرها من دول الجنوب، بدأت واشنطن في تبني سياسات حمائية مخالفة لحرية التجارة، خاصة في الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، الذي أطلق شرارة «الحرب التجارية» ضد الصين وغيرها من الدول.
ولم تتوقف أميركا عند هذا الحد، بل عطّلت عمل المنظمة من خلال تجميد نظامها القضائي، وصرّحت إدارتها أن المنظمة باتت تُهدد مصالحها، ولوّحت بالانسحاب منها.
ووفقًا لبيانات البنك الدولي، بلغت الصادرات السلعية الصينية 3.3 تريليون دولار في عام 2023، مقابل 2 تريليون دولار فقط للصادرات الأميركية.
أما في مجال التكنولوجيا المتقدمة، فتفوقت الصين بشكل لافت، حيث بلغت صادراتها 825 مليار دولار، مقابل 208 مليارات لأميركا، أي ما يقارب أربعة أضعاف.
قضايا التكنولوجيا
يدور صراع محتدم بين أميركا والدول الصاعدة، خصوصًا الصين، في مجال التكنولوجيا، حيث سعت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون إلى تقييد حصول الصين على التكنولوجيا المتقدمة، خاصة في قطاع الاتصالات، خوفًا من كسر احتكار الغرب لهذا المجال.
وقد صدرت قرارات أمن قومي أميركية تمنع الصين من امتلاك شركات تكنولوجية داخل الولايات المتحدة أو خارجها، ومع ذلك، واصلت الصين تطوير قدراتها التقنية، وهو ما انعكس في إنجازها الأخير في مجال الذكاء الاصطناعي، بتكاليف منخفضة مقارنة بالتكاليف الأميركية.
وكشفت مبالغة أميركا في تكلفة إنتاج التكنولوجيا، حيث ظلت تسنزف موارد دول الجنوب، بحجة التكاليف العالية لإنتاج التكنولوجيا.
فقد طورت الصين برنامج ذكاء اصطناعي بتكلفة لا تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات، بينما أعلنت الولايات المتحدة أنها مليارات على مشاريع مماثلة، ويمكن رصد حالة الصراع في المجال التكنولوجي من خلال الأرقام الخاصة بالانفاق على البحث والتطوير كنسبة من الناتج المحلي الإحمالي، في كل من أميركا والصين وبعض الدول الأخرى، وذلك حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
وتظهر مؤشرات الإنفاق على البحث والتطوير حجم التنافس، حيث تحتل أميركا المرتبة الأولى بنسبة ما يعادل 3.4% من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة بـ2.4% للصين، أما الهند فبلغت 0.65%، والمكسيك 0.27%، والعالم العربي للأسف نسبته ضئيلة جدًا، حيث تبلغ 0.71%.
إلا أن عقد المقارنة ما بين إنفاق كل من أميركا والصين وفق هذا المؤشر، يعكس حقيقة الصراع في مجال التكنولوجيا، ومن الملاحظ أن بكين رفعت نسبة إنفاقها على البحث والتطوير من 0.89% في عام 2000 إلى 2.4% في عام 2021، بينما ارتفعت النسبة في أميركا من 2.6% إلى 3.4% خلال الفترة نفسها.
هيمنة الدولار
منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، طالبت عدة دول بتقليص الاعتماد على الدولار في التسويات المالية والتجارية الدولية، على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، لكن هذا الأمر لم يلق أي ترحيب من الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولعل التصريح الخاص بترامب في هذا السياق، يوضح أهمية الأمر بالنسبة لها، حيث توعد بفرض رسوم جمركية باهظة على الدول التي تسعى للتخلص من الدولار.
رغم ذلك، بدأت الصين وبعض دول الجنوب اتخاذ خطوات فعلية ضمن استراتيجية تقليص الاعتماد على الدولار، مثل تسوية جزء من التبادلات التجارية بالعملات المحلية، وطرح فكرة إنشاء عملة موحدة لمجموعة بريكس، وإن ظلت حتى الآن في طور الاقتراح، وتحت لافتات أقل حدة.
وصرح بعض المشاركين في عضوية البريكس، بضرورة أن يكون للتجمع عملة موحدة، وإن كان الأمر لم يتجاوز حدود الاقتراح، ولكن مجرد طرحه يعني إمكانية دراسته في مرحلة، وفي مرحلة أخرى يمكن دخوله حيز التنفيذ.
وفي خطوة أكثر وضوحًا، قلّصت الصين حيازتها من سندات الخزانة الأميركية إلى 767 مليار دولار في مايو 2024، بعد أن كانت تتجاوز التريليون دولار قبل 15 عامًا، وخطوات بكين العملية للتخلص من رصيدها من الاستثمار في سندات الخزانة الأميركية، يمكن اعتباره خطوة مهمة في مسألة التخلص من هيمنة الدولار.
من المرجّح أن يُسفر هذا الصراع الاقتصادي عن تغييرات جذرية في منظومة الاقتصاد العالمي، وقد يؤدي كسر التفوق التكنولوجي الأميركي إلى تسريع الانتقال نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب.
ويبدو أن السياسات الأميركية منذ عودة ترامب للسلطة في يناير 2025، والحالة العالمية غير المرضية التي أوجدته، تسهم في تعميق التوترات، وتدفع دول الجنوب نحو مزيد من التنسيق والمواجهة لحسم الصراع، أو على الأقل إحداث تغيير أكبر في خريطة القوى الاقتصادية الدولية، بحيث يتراجع دور ومكانة أميركا اقتصاديًا.
لكن التجربة التاريخية تُظهر أن دول الجنوب على مدار ما يزيد عن 7 عقود تفتقر إلى التنسيق الفاعل ضمن تكتل واحد، وهو ما يُضعف جهودها ويُبقي الهيمنة الأميركية قائمة، فكل دولة تنظر لطبيعة الصراع، وما تحققه من مكاسب وخسائر من منظور قطري، مما ينتج عنه تفتيت للجهود، واستمرار الهيمنة الأميركية.