مقالات

السياسة الماليزية – – الجزء الأول – «التشكل والتكوين»

صهيب أحمد - باحث في شؤون جنوب شرق آسيا

في‭ ‬مايو‭ ‬2018‭ ‬شهدت‭ ‬ماليزيا‭ ‬حدثاً‭ ‬سياسياً‭ ‬فارقاً‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬خسارة‭ ‬التحالف‭ ‬الحاكم‭ ‬لماليزيا‭ ‬منذ‭ ‬الاستقلال‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬البرلمانية‭ ‬وفوز‭ ‬تحالف‭ ‬المعارضة‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬بعكس‭ ‬غالب‭ ‬التوقعات‭ ‬المحلية‭ ‬والدولية‭ ‬التي‭ ‬تنبأت‭ ‬ببقاء‭ ‬السلطة‭ ‬بيد‭ ‬نفس‭ ‬التحالف‭. ‬وتشهد‭ ‬ماليزيا‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬وحتى‭ ‬الآن‭ ‬عدة‭ ‬تفاعلات‭ ‬بنيت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التغيير‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬منعطفاً‭ ‬جديداً‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السلسلة‭ ‬سنتطرق‭ ‬لشرح‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬وما‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬المستويات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭, ‬وسنبدأ‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬بمقدمة‭ ‬تشرح‭ ‬شكل‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬والثقافة‭ ‬الماليزية‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬استعراض‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬الرئيسية‭ ‬القائمة‭.‬

تبلور‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬الحديثين‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭ ‬

كانت‭ ‬الدولة‭ ‬الماليزية‭ ‬قبل‭ ‬الاستعمار‭ ‬وخلاله‭ ‬مقسمةً‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬متفرقة‭ ‬تقودها‭ ‬عائلات‭ ‬حاكمة‭ ‬ومتنازعة،‭ ‬وتوحدت‭ ‬البلاد‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬اتحاد‭ ‬فيدرالي‭ ‬كالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لكنه‭ ‬يتسم‭ ‬بتعقيد‭ ‬وتنوع‭ ‬أكبر،‭ ‬إذ‭ ‬يشتمل‭ ‬الاتحاد‭ ‬الفيدرالي‭ ‬الماليزي‭ ‬على‭ ‬الخصائص‭ ‬التالية‭:‬

تنقسم‭ ‬دولة‭ ‬ماليزيا‭ ‬جغرافياً‭ ‬إلى‭ ‬شطرين‭ ‬رئيسيين‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬البلاد‭ ‬وغربها‭ ‬ويفصل‭ ‬بينهما‭ ‬ساعتان‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬طيراناً‭ ‬فوق‭ ‬المياه،‭ ‬ويبلغ‭ ‬مجمل‭ ‬عدد‭ ‬الولايات‭ ‬في‭ ‬الشطرين‭ ‬13‭ ‬ولاية‭.‬

يتألف‭ ‬الشطر‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬11‭ ‬ولاية،‭ ‬9‭ ‬ولايات‭ ‬منها‭ ‬كانت‭ ‬بنظام‭ ‬إدارة‭ ‬ملكية‭ ‬قبل‭ ‬الاستعمار‭ ‬وخلاله،‭ ‬وبقي‭ ‬نفس‭ ‬النظام‭ ‬الملكي‭ ‬والعائلة‭ ‬الحاكمة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منها،‭ ‬وولايتان‭ ‬تملكان‭ ‬نظام‭ ‬حكم‭ ‬غير‭ ‬ملكي‭. ‬وبحكم‭ ‬النظام‭ ‬الفيدرالي،‭ ‬تمتلك‭ ‬كل‭ ‬ولاية‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الإدارة‭ ‬الذاتية‭.‬

أما‭ ‬شرق‭ ‬ماليزيا‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬ولايتين‭ ‬تحتضنان‭ ‬فسيفساء‭ ‬من‭ ‬المجموعات‭ ‬العرقية‭ ‬والثقافية‭ ‬المغايرة‭ ‬للجزء‭ ‬الغربي،‭ ‬وتمتلكان‭ ‬بعض‭ ‬الامتيازات‭ ‬المتصلة‭ ‬بالخصوصية‭ ‬الثقافية‭ ‬ونظم‭ ‬إدارة‭ ‬غير‭ ‬ملكية‭ ‬وإدارة‭ ‬ذاتية‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬ولايات‭ ‬الشطر‭ ‬الغربي‭.‬

ورغم‭ ‬التباعد‭ ‬الجغرافي‭ ‬والتنوع‭ ‬الكبير‭ ‬بين‭ ‬المناطق‭ ‬والثقافات‭ ‬ونظم‭ ‬الحكم‭ ‬وصلاحيات‭ ‬الإدارة‭ ‬الذاتية‭, ‬لكن‭ ‬الولايات‭ ‬استطاعت‭ ‬تشكيل‭ ‬الاتحاد‭ ‬وتحقيق‭ ‬التنمية‭ ‬والنهضة‭ ‬لاحقاً‭. ‬تأسس‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬لكل‭ ‬ولايةِ‭ ‬دستورها‭ ‬وبرلمانها‭ ‬المحلي‭ ‬الذي‭ ‬ينتخب‭ ‬بالاقتراع‭ ‬السري‭ ‬المباشر‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬الولاية‭ ‬ويشكل‭ ‬حزب‭ ‬الأغلبية‭ ‬فيه‭ ‬حكومة‭ ‬الولاية‭ ‬ويديرها‭ ‬بالتشارك‭ ‬مع‭ ‬ملك‭ ‬الولاية‭ (‬في‭ ‬حالة‭ ‬الولايات‭ ‬الملكية‭)‬،‭ ‬بالإضافة‭ ‬لخضوع‭ ‬كل‭ ‬الولايات‭ ‬إلى‭ ‬الدستور‭ ‬الفيدرالي‭ ‬والبرلمان‭ ‬المركزي‭ ‬المنتخب‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬الحكومة‭ ‬الفيدرالية‭. ‬وتم‭ ‬تشكيل‭ ‬مجلسٍ‭ ‬لملوك‭ ‬الولايات‭ ‬التسعة‭ ‬ينعقد‭ ‬كل‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬ليختاروا‭ ‬واحداً‭ ‬منهم‭ ‬كملك‭ ‬دستوري‭ ‬يدير‭ ‬شؤون‭ ‬الاتحاد‭ ‬الماليزي‭. ‬وبعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬تقاسمت‭ ‬البرلمانات‭ ‬والحكومات‭ ‬المنتخبة‭ ‬السلطة‭ ‬مع‭ ‬الملوك‭ ‬ولم‭ ‬تنتزع‭ ‬السلطة‭ ‬منهم‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬التعديلات‭ ‬الدستورية‭ ‬في‭ ‬التسعينات‭. ‬حينها‭ ‬فقط‭ ‬أصبح‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬الاتحاد‭ ‬هو‭ ‬القائد‭ ‬الفعلي‭ ‬البلاد‭ ‬والوزير‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬الولاية‭ ‬حاكمها،‭ ‬وتراجع‭ ‬دور‭ ‬الملوك‭ ‬وصلاحياتهم‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬والسياسة‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬واقتصروا‭ ‬على‭ ‬التدخل‭ ‬لحل‭ ‬الأزمات‭ ‬الحكومية‭ ‬والبرلمانية‭ ‬والإشراف‭ ‬على‭ ‬إدارات‭ ‬الشؤون‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬والتمثيل‭ ‬الرمزي‭ ‬للغالبية‭ ‬العرقية‭ ‬وسكان‭ ‬البلاد‭ ‬الأصليين‭, ‬وأصبح‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬أقرب‭ ‬للملكية‭ ‬الدستورية‭ ‬البريطانية‭.‬

أما‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬الماليزي‭ ‬الحديث‭ ‬فقد‭ ‬تشكل‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭ ‬الذي‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬قرن،‭ ‬وخلال‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬استجلب‭ ‬المستعمرون‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬والهند‭ ‬إلى‭ ‬ماليزيا‭ ‬ليكونوا‭ ‬الأيدي‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬المؤسسسات‭ ‬والمصالح‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬إخراج‭ ‬عرقية‭ ‬المالاي‭ ‬وسكان‭ ‬البلاد‭ ‬الأصليين‭ ‬من‭ ‬المعادلة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬استبعادهم‭ ‬عن‭ ‬الفعل‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬احتكرته‭ ‬سلطة‭ ‬الاستعمار‭. ‬واستقر‭ ‬المجتمع‭ ‬الماليزي‭ ‬قبيل‭ ‬الاستقلال‭ ‬على‭ ‬تشكل‭ ‬3‭ ‬مجموعات‭ ‬سكانية‭ ‬رئيسية‭ ‬لكل‭ ‬منها‭ ‬هويته‭ ‬ولغته‭ ‬ودينه‭ ‬وواقعه‭ ‬الاقتصادي‭. ‬تكونت‭ ‬أكثرية‭ ‬من‭ ‬عرقية‭ ‬المالايو‭ ‬والسكان‭ ‬الأصليين‭ ‬يدين‭ ‬معظمها‭ ‬بالإسلام‭ ‬ولغتها‭ ‬الأم‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬المالايو‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬تملك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2%‭ ‬من‭ ‬مجمل‭ ‬ثروات‭ ‬البلاد‭ ‬وتقريباً‭ ‬كانت‭ ‬خارج‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الحديث‭ ‬واعتمدت‭ ‬على‭ ‬الزراعة‭ ‬والصيد‭ ‬وقطنت‭ ‬القرى‭. ‬وتشكلت‭ ‬أقلية‭ ‬صينية‭ ‬ممن‭ ‬يعتنقون‭ ‬البوذية‭ ‬والمسيحية‭ ‬والإلحاد‭ ‬ولها‭ ‬لغاتها‭ ‬الصينية‭ ‬والذين‭ ‬ملكوا‭ ‬جل‭ ‬ثروات‭ ‬ماليزيا‭ ‬ومصانعها‭ ‬وشركاتها‭ ‬واستقروا‭ ‬في‭ ‬المدن‭. ‬كما‭ ‬تبلورت‭ ‬أقلية‭ ‬هندية‭ ‬يتبع‭ ‬غالبيتها‭ ‬الديانة‭ ‬الهندوسية‭ ‬أو‭ ‬البوذية‭ ‬ويتحدثون‭ ‬اللغة‭ ‬التاملية‭ ‬وشكلوا‭ ‬العمالة‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القطاعات‭ ‬المهنية‭ ‬الحديثة‭ (‬الطب،‭ ‬الهندسة،‭ ‬المحاماة‭ … ‬إلخ‭) ‬وتشاركوا‭ ‬مع‭ ‬العرقية‭ ‬الصينية‭ ‬بالإقامة‭ ‬في‭ ‬الحضر‭. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬مجموعات‭ ‬سكانية‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬الأعراق‭ ‬الأوروبية‭ ‬المستعمرة‭ ‬وفسيفساء‭ ‬من‭ ‬المجموعات‭ ‬العرقية‭ ‬والثقافية‭ ‬القديمة‭ ‬والمركزة‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭ ‬الشرقية‭.‬

بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وبزوغ‭ ‬آمال‭ ‬في‭ ‬انتهاء‭ ‬الحركات‭ ‬الاستعمارية‭ ‬تشكلت‭ ‬ثلاث‭ ‬منظمات‭ ‬تمثل‭ ‬الأعراق‭ ‬الرئيسية‭ ‬الثلاثة‭ ‬وتحالفت‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬عقد‭ ‬اجتماعي‭ ‬وسياسي‭ ‬للمطالبة‭ ‬بالاستقلال‭ ‬ولإدارة‭ ‬الدولة‭ ‬بعد‭ ‬تحقيقه،‭ ‬وبعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬وبمقتضى‭ ‬ذلك‭ ‬العقد‭ ‬تحصلت‭ ‬كل‭ ‬المجموعات‭ ‬العرقية‭ ‬على‭ ‬المواطنة‭ ‬الماليزية‭ ‬وتشكلت‭ ‬المنظمات‭ ‬الثلاث‭ ‬كأحزاب‭ ‬سياسية‭ ‬ماليزية‭ ‬وتحالفت‭ ‬لإدارة‭ ‬السلطة،‭ ‬وصاغت‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وتوافق‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الاستقلال‭ ‬في‭ ‬الدستور‭. ‬من‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬أقره‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ودستور‭ ‬الاستقلال،‭ ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬المكونات‭ ‬العرقية‭ ‬والثقافية‭ ‬المختلفة‭ ‬دون‭ ‬اندماج‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬المكونات‭ ‬الثقافية‭ (‬الدين‭ / ‬اللغة‭ / ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭) ‬لكل‭ ‬المجموعات‭ ‬السكانية‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬تقتضي‭ ‬الذوبان‭ ‬والانصهار‭ ‬في‭ ‬هوية‭ ‬وطنية‭ ‬مستحدثة‭ (‬كالحالات‭ ‬الأمريكية‭ ‬أو‭ ‬السنغافورية‭). ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬إقرار‭ ‬الدستور‭ ‬للإسلام‭ ‬كدين‭ ‬رسمي‭ ‬ولغة‭ ‬المالايو‭ ‬كلغة‭ ‬رسمية‭ ‬للدولة،‭ ‬لكن‭ ‬الدستور‭ ‬نفسه‭ ‬ألزم‭ ‬الدولة‭ ‬والحكومة‭ ‬بالمحافظة‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬الثقافات‭ ‬الموجودة‭ ‬وتعزيزها،‭ ‬وأكد‭ ‬حرية‭ ‬ممارستها‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الخاصة‭. ‬ولذلك‭ ‬مثلاً‭ ‬تنشئ‭ ‬الدولة‭ ‬مدارساً‭ ‬حكومية‭ ‬ومنفصلة‭ ‬لمتحدثي‭ ‬اللغات‭ ‬الرئيسية‭ ‬الثلاث‭ (‬المالايو‭ ‬ذ‭ ‬الماندرين‭ ‬الصينية‭ ‬ذ‭ ‬التاميلية‭ ‬الهندية‭) ‬ولا‭ ‬تمنع‭ ‬الدولة‭ ‬إقامة‭ ‬أي‭ ‬معابد‭ ‬أو‭ ‬جمعيات‭ ‬للديانات‭ ‬المختلفة،‭ ‬ولا‭ ‬يحرم‭ ‬الدستور‭ ‬إقامة‭ ‬الأحزاب‭ ‬وممارسة‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬عرقي‭ ‬وثقافي،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭, ‬أصبحت‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬عرقي‭ ‬وبشكل‭ ‬قانوني‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬سمات‭ ‬السياسة‭ ‬الماليزية‭ ‬الحديثة‭.‬

التمييز‭ ‬الإيجابي‭ ‬والسلم‭ ‬الأهلي

كان‭ ‬مما‭ ‬أقره‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بين‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬العرقية‭ ‬قبل‭ ‬الاستقلال،‭ ‬وتمت‭ ‬صياغته‭ ‬في‭ ‬الدستور‭ ‬إقرار‭ ‬سياسة‭ ‬التمييز‭ ‬الإيجابي‭ ‬لصالح‭ ‬عرقية‭ ‬المالاي‭ ‬منذ‭ ‬الاستقلال‭ ‬كمحاولةِ‭ ‬لتعويضهم‭ ‬عن‭ ‬التراجع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي‭ ‬بسبب‭ ‬اضطهاد‭ ‬المستعمرين‭ ‬لهم،‭ ‬ودفعهم‭ ‬للحاق‭ ‬بالأقليات‭ ‬المتفوقة‭, ‬وذلك‭ ‬برضى‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬مثلت‭ ‬تلك‭ ‬الأقليات‭ ‬عند‭ ‬الاستقلال‭. ‬ومن‭ ‬السياسات‭ ‬التي‭ ‬أقرت‭ ‬لتحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الإنصاف،‭ ‬سياسة‭ ‬إعطاء‭ ‬الأولوية‭ ‬لصالح‭ ‬عرقية‭ ‬المالايو‭ ‬في‭ ‬الوظائف‭ ‬الحكومية‭ ‬وبعض‭ ‬الامتيازات‭ ‬والإعفاءات‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وغيرها‭, ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬التوافق‭ ‬على‭ ‬هيمنة‭ ‬المالاي‭ ‬على‭ ‬القرار‭ ‬السيادي‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭. ‬وعلى‭ ‬هذه‭ ‬الأسس‭ ‬بقي‭ ‬التحالف‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬منذ‭ ‬الستينات‭ ‬وحتى‭ ‬انتخابات‭ ‬2018‭.‬

‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬من‭ ‬التنوعات‭ ‬العرقية‭ ‬والجغرافية‭ ‬والتباينات‭ ‬الدينية‭ ‬والثقافية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬وسياسات‭ ‬التمييز‭ ‬الإيجابي‭, ‬فلقد‭ ‬تميز‭ ‬الماليزيون‭ ‬بدرجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الهدوء‭ ‬والمسالمة‭ ‬في‭ ‬سلوكهم‭ ‬تجاه‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬وتمتعت‭ ‬دولتهم‭ ‬المستقلة‭ ‬بدرجةِ‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الاستقرار‭ ‬والسلم‭. ‬فباسثناء‭ ‬مواجهات‭ ‬1969‭ ‬الدامية‭ ‬بين‭ ‬الأقليات‭ ‬والأغلبية‭ ‬من‭ ‬عرقية‭ ‬المالاي‭ (‬والتي‭ ‬استمرت‭ ‬لفترة‭ ‬قصيرة‭)‬،‭  ‬والمحاولة‭ ‬الفاشلة‭ ‬لاستقلال‭ ‬إحدى‭ ‬الولايات‭ ‬ذات‭ ‬الأغلبية‭ ‬من‭ ‬العرقية‭ ‬الصينية‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الفترة،‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬البلاد‭ ‬الاقتتال‭ ‬الأهلي‭ ‬وحافظت‭ ‬النخب‭ ‬العرقية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬التفاهم‭ ‬والمساومة‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬تنقسم‭ ‬البلاد‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تنجر‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬استقطاب‭ ‬عرقي‭ ‬أو‭ ‬ثقافي‭ ‬يدمرها‭. ‬ولم‭ ‬تعرف‭ ‬ماليزيا‭ ‬أي‭ ‬استقطاب‭ ‬ديني‭ ‬علماني‭ ‬حاد‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬استقطاب‭ ‬حاد‭ ‬بين‭ ‬الأديان‭ ‬وغابت‭ ‬هيمنة‭ ‬الأحزاب‭ ‬المتشددة‭ ‬دينياً‭ ‬أو‭ ‬عرقياً‭ ‬عن‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭. ‬لكن‭ ‬الاختلاف‭ ‬العرقي‭ ‬والثقافي‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭ ‬بقي‭ ‬حاضراً‭ ‬وانعكس‭ ‬في‭ ‬المنافسة‭ ‬أو‭ ‬التحدي‭ ‬السلمي‭ ‬بين‭ ‬المجموعات‭ ‬السكانية‭ ‬المختلفة‭ ‬باندفاعهم‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬التمسك‭ ‬بثقافاتهم‭ ‬وفي‭ ‬تعزيز‭ ‬معدلات‭ ‬الإنجاب‭ ‬والتكاثر،‭ ‬رغم‭ ‬التنمية‭ ‬وانتشار‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬الحديث‭ ‬الغربي‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬يوصف‭ ‬المجتمع‭ ‬المسلم‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭ ‬باعتباره‭ ‬مجتمعاً‭ ‬إسلامياً‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والعبادات‭ ‬الإسلامية‭, ‬لكن‭ ‬الطبيعة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الموصوفة‭ ‬أعلاه‭ ‬طبّعت‭ ‬التدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭ ‬ليكون‭ ‬تديناً‭ ‬هادئاً‭ ‬أقرب‭ ‬للصوفية‭ ‬المتسامحة‭ ‬عن‭ ‬التعصب‭ ‬أو‭ ‬التشدد‭. ‬ولذا‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬عملية‭ ‬التنمية‭ ‬والنهضة‭ ‬والتحديث،‭ ‬لم‭ ‬تقم‭ ‬أي‭ ‬حركات‭ ‬أصولية‭ ‬تعادي‭ ‬الحداثة‭, ‬وكانت‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬أقل‭ ‬الدول‭ ‬تصديراً‭ ‬للعناصر‭ ‬الإرهابية‭ ‬في‭ ‬موجات‭ ‬الصعود‭ ‬للحركات‭ ‬الإسلامية‭ ‬المتطرفةو‭ ‬وتعد‭ ‬من‭ ‬أقل‭ ‬الدول‭ ‬الإسلامية‭ ‬تعرضاً‭ ‬لهجمات‭ ‬الإرهابيين‭. ‬وامتازت‭ ‬الأقليات‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬ماليزيا‭ ‬بنفس‭ ‬هذه‭ ‬الأنماط‭ ‬التي‭ ‬استطاعت‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬التمسك‭ ‬بالثقافات‭ ‬والأديان‭ ‬الموروثة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التعايش‭ ‬والتسامح‭ ‬والسلم‭ ‬الأهلي‭.‬

إذا،ً‭ ‬فالتنوع‭ ‬العرقي‭ ‬أو‭ ‬الثقافي‭ ‬أو‭ ‬الديني‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬التباعد‭ ‬الجغرافي‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬بالضرورة‭ ‬نحو‭ ‬العنف‭ ‬والمواجهة‭ ‬والانفصال‭,‬‭ ‬وإنما‭ ‬عنصر‭ ‬الإرادة‭ ‬البشرية‭ (‬الفردية‭ ‬والجماعية‭) ‬هو‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬تحديد‭ ‬المخرج‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التنوعات‭ ‬حتى‭ ‬بوجود‭ ‬ماضٍ‭ ‬قاتم‭ ‬مثل‭ ‬سياسات‭ ‬التمييز‭ ‬العنصري‭ ‬والتهجير‭ ‬القسري‭ ‬وغيرها‭. ‬ومتى‭ ‬توفرت‭ ‬تلك‭ ‬الإرادة‭ ‬تستطيع‭ ‬أكثر‭ ‬الشعوب‭ ‬تباعداً‭ ‬وانقساماً‭ ‬وتنوعاً‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬المشترك‭ ‬بينها،‭ ‬وأن‭ ‬تتوحد‭ ‬على‭ ‬تأسيسه‭ ‬وحمايته‭ ‬وأن‭ ‬تبني‭ ‬من‭ ‬نفسها‭ ‬أمةً‭ ‬موحدة‭, ‬مستقرةً‭ ‬ومتطورة‭. ‬وكان‭ ‬نجاح‭ ‬ماليزيا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬استقرار‭ ‬اجتماعي‭ ‬واقتصادي،‭ ‬وخلق‭ ‬تنمية‭ ‬ونهضة‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬التنوعات‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬شهرة‭ ‬التجربة‭ ‬الماليزية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي‭.‬

صهيب أحمد

باحث في شؤون جنوب شرق آسيا

Leave a Reply

Back to top button