
الصين وإيران بعد الضربات الإسرائيلية: مصالح مشتركة أم تحالف مؤجل؟
خاص- د. محمد مكرم بلعاوي/ رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط
الصين وإيران بعد الضربات الإسرائيلية: مصالح مشتركة أم تحالف مؤجل؟
ماذا تفعل الصين بين طهران وتل أبيب؟
Dr.. Dr. Mohamed Makram Balaawi
بعد يومين فقط من إعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل في 24 يونيو/حزيران 2025، بتدخل مباشر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، توجه وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده إلى الصين، حيث أجرى مباحثات لافتة مع نظيره الصيني دونغ جون، على هامش اجتماع وزراء دفاع الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون.
زيارة لم تكن بروتوكولية فحسب، بل حملت رسائل سياسية وعسكرية في توقيت بالغ الحساسية، خاصة في ظل حديث متصاعد في طهران عن رغبة واضحة في تعزيز التعاون الدفاعي مع بكين، كجزء من استراتيجية أوسع لمواجهة الضغوط الأميركية الإسرائيلية التي بلغت ذروتها في جولة التصعيد الأخيرة.
ومع نهاية هذه الجولة من المواجهة العسكرية، تتجه الأنظار إلى الصين، بوصفها الفاعل الدولي الوحيد القادر على موازنة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط دون انخراط مباشر، لا سيما في ظل وجود مصلحة استراتيجية صينية في الحفاظ على استقرار النظام الإيراني، مقابل سعي إسرائيل، بدعم واشنطن، إلى إضعافه أو إسقاطه.
هنا، تُطرح تساؤلات ملحة، هل تواصل بكين اعتماد سياسة الحذر الاستراتيجي والحياد المحسوب؟ أم أنها بصدد الانتقال إلى مرحلة جديدة من الانخراط، عنوانها التحالف الصامت مع طهران؟
وهل يبقى التعاون الإيراني الصيني في إطار الشراكة الاقتصادية، أم يتطوّر إلى اصطفاف جيوسياسي أكثر وضوحًا في مواجهة المعسكر الغربي؟
العلاقات الإيرانية الصينية
رغم الفروقات الإيديولوجية والنظامية بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجمهورية الصين الشيوعية، نجح البلدان خلال العقود الأخيرة في بناء علاقة استراتيجية تستند إلى مصالح متبادلة في مواجهة الضغط الغربي المتزايد، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
وشكل توقيع الرئيس الإيراني الراحل، إبراهيم رئيسي ونظيره الصيني، شي جين بينغ، في فبراير 2023، على 20 وثيقة بشأن التعاون بين الدولتين في مختلف المجالات، تشمل التجارة الدولية وتكنولوجيا المعلومات وحماية الملكية الفكرية والإعلام والزراعة والسياحة، وكذلك الرعاية الصحية والرياضة والثقافة ذروة هذه العلاقات، بما يعكس رغبة واضحة في تنويع التعاون خارج النطاق التقليدي.
كما تُعد “اتفاقية التعاون الاستراتيجي الشاملة” التي وُقعت في مارس/آذار 2021 واحدة من أبرز محطات التحول في هذه العلاقة، والتي نصّت على إطار زمني مدته 25 عامًا للتعاون الاستراتيجي، ضمن مظلة مبادرة “الحزام والطريق”، واشتملت على مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة، والبنية التحتية، والموانئ، والنقل، والقطاع المالي، والاتصالات، مقابل التزام إيراني طويل الأجل بتوفير إمدادات نفطية للصين بأسعار تفضيلية، ووصلت التقديرات المعلنة للاستثمارات الصينية المحتملة في إيران إلى 400 مليار دولار.
تأتي هذه الاتفاقات في وقت تسعى فيه الصين إلى تأمين ممرات طاقة جديدة ومستقرة، وتعزيز حضورها غرب آسيا في مواجهة الطوق الأميركي المتمدد من المحيط الهادئ إلى الشرق الأوسط. أما إيران، فترى في بكين شريكًا قادرًا على كسر العزلة الدولية، وتخفيف وطأة العقوبات الأميركية التي تصاعدت بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018.
ولم تقتصر الشراكة على البُعد الاقتصادي، إذ برز الدور الصيني في مجلس الأمن الدولي كعامل دعم مهم لطهران، سواء عبر رفض مشاريع العقوبات الغربية، أو الدفاع عن حق إيران في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية، وهو ما عزز ثقة الإيرانيين في أن بكين تنظر إليهم كركيزة في نظام دولي متعدد الأقطاب، وليس فقط كمصدر للطاقة.
لكن على الرغم من هذا التقارب، ظلّ الجانب الصيني متحفظًا في تعامله مع الأزمات الأمنية الكبرى المرتبطة بإيران، مفضّلاً الحذر الدبلوماسي على الانخراط المباشر، لا سيما في ما يتعلق بالملف الإسرائيلي، والخليج العربي، والبحر الأحمر.
فقد فضّلت بكين التمسك بمنهج “الحذر الدبلوماسي” وتفادي الاصطفاف العسكري، وهو ما برز بوضوح في الموقف الصيني المتوازن من التصعيد الأخير بين طهران وتل أبيب.
الموقف الصيني من التصعيد
مع اندلاع التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل في يونيو/حزيران 2025، تبنّت الصين موقفًا دبلوماسيًا تقليديًا، اتسم بالدعوة إلى “ضبط النفس” من جميع الأطراف، وتأكيدها على ضرورة “حل الخلافات عبر الحوار والتفاوض”، دون توجيه أي إدانة مباشرة لتل أبيب أو تحميلها المسؤولية.
وجاء أول تعليق رسمي صيني على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية، الذي شدد على أن “الحفاظ على الاستقرار الإقليمي يصب في مصلحة الجميع”، في ما بدا توازنًا محسوبًا، فبكين لا ترغب في خسارة طهران، لكنها تتفادى كذلك استفزاز إسرائيل أو الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن في منطقة شديدة التعقيد.
كما أكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أن الصين على تواصل مع إيران وإسرائيل والأطراف المعنية وتتطلع لرؤية “وقف إطلاق نار حقيقي”، وأنه ينبغي لجميع الأطراف استئناف الحوار والعودة إلى مسار التسوية السياسية للقضية النووية الإيرانية.
وتأتي هذه الموازنة ضمن سياسة خارجية صينية تقوم على الحياد والامتناع عن الانحياز العسكري، مع الانخراط الاقتصادي والدبلوماسي طويل الأمد، فالصين تنظر إلى نفسها كقوة دولية حريصة على الاستقرار، وليست طرفًا في نزاعات إقليمية طويلة قد تستنزف مصالحها، وفضّلت النأي بنفسها عن أي اصطفاف حاد، مكتفية بإعادة التذكير بمعارضتها لسياسة العقوبات الأحادية، ورفضها استخدام القوة في العلاقات الدولية، دون تقديم دعم فعلي لطهران في مواجهة التصعيد العسكري.
هذا الحذر يعكس في جوهره أولوية الصين في حماية مصالحها مع جميع الأطراف، وهو ما يجعل موقفها من الأزمة الراهنة اختبارًا حقيقيًا لحدود تحالفها مع إيران، وقدرتها على التوفيق بين خطابها المناهض للهيمنة الأميركية، وعلاقاتها المعقّدة مع القوى الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.
ضروريات تعميق العلاقة
تدفع مجموعة من المحددات والعوامل الجيوسياسية والاقتصادية الصين إلى النظر في تعميق علاقتها مع إيران، ليس فقط كشريك طاقي أو تجاري، بل كجزء من إعادة تشكيل التوازنات الدولية في مواجهة النفوذ الأميركي.
ولعل أبرزها ضمان أمن الطاقة واستقرار الإمدادات، نظراً لأن إيران تُعد لاعبًا رئيسيًا في سوق الطاقة، إذ كانت قبل العقوبات واحدة من أكبر مورّدي النفط إلى الصين، ورغم انخفاض الأرقام الرسمية، تستمر واردات الصين من النفط الإيراني بطرق غير مباشرة.
وتشكّل الصين طوق نجاة بالنسبة لطهران من العقوبات الدولية؛ حيث تشتري بكين أكثر من 90% من صادرات إيران النفطية، فقد استوردت الصين 1.3 مليون برميل من الخام الإيراني يوميا في أبريل/نيسان 2025.
هذا الاعتماد المتبادل لا يقتصر على شراء النفط فقط، بل يمتد إلى جهود الصين لتقليص تبعيتها لموردي الطاقة الخاضعين للنفوذ الأميركي، من خلال بناء شبكة بديلة تشمل إيران، وروسيا، وفنزويلا، ويُعد جزءًا من استراتيجيتها في التحوّط من أي خنق غربي قد يستهدف اقتصادها.
وتعد إيران مهمة لتوسيع مشاريع مبادرة “الحزام والطريق”، فهي تشكل حلقة استراتيجية لا سيما عبر ميناء “جابهار” وطريق “كاشغار – طهران – إسطنبول”، وسعى الصين من خلال تطوير البنية التحتية والربط السككي والطُرقي، إلى جعل إيران منصة لوجستية كبرى تربط آسيا بالشرق الأوسط وأوروبا.
وقد ضخت بكين استثمارات كبرى في هذا الاتجاه، شملت خطوط السكك الحديدية مثل مشروع قطار طهران – مشهد بتكلفة (1.5 مليار دولار)، ومحطات الطاقة الشمسية، ومشاريع بنية تحتية تجاوزت 5 مليارات دولار منذ 2007، مما يجعل من إيران رابطًا جغرافيًا استراتيجيا لا يمكن التفريط به.
وتخشى الصين في حال انهيار النظام الإيراني وقدوم نظام حليف للولايات المتحدة تعزيز الحصار الغربي عليها، وهو الرأي الذي يدعمه الباحث الصيني إينار تانجن من معهد تايهي في بكين في تصريح نقلته وكالة TRT Global يوم 19 يونيو 2025، حيث قال إن “سقوط النظام الإيراني سيشكّل السيناريو الكابوسي لبكين”، مضيفًا أن الصين حذرت من أن انهيار النظام قد يؤدي إلى انفجار الأزمة الإقليمية وإخلال إمدادات الطاقة، وتهديد مشاريعها الكبرى مثل “الحزام والطريق”.
وتعتبر مسألة الطاقة والنفط من الأمور الإستراتيجية التي تسعى الصين إلى الحصول عليها لاستكمال عملية التحديث، بعد أن أصبحت ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة، وبقدر ما تسعى الصين إلى تأمين مصالحها في الطاقة، فإنها أيضًا تتحرك لضمان بيئة سياسية مستقرة تسمح بتعزيز المشاريع الكبرى، وقد بدا ذلك جليًا في دورها في الوساطة بين السعودية وإيران، الذي أسفر عن اتفاق استئناف العلاقات في مارس 2023، بعد سنوات من القطيعة.
ولم يكن هذا التحرك مدفوعًا فقط برغبة في لعب دور وساطة، بل لإدراكها أن أي تصعيد في الخليج سيقوّض مصالحها ويعطّل مشاريعها الاستراتيجية.
كما أن تعزيز العلاقة مع طهران يندرج ضمن سياسة الصين الأوسع لمواجهة الطوق الأميركي حولها، لا سيما من خلال تحالفات بديلة، مثل منظمة “شنغهاي للتعاون” ومجموعة “بريكس”.
كما أن وجود إيران في هذه المنصات يمنح الصين دعم جيوسياسي في وجه تحالفات غربية متزايدة، ونقطة ارتكاز في مواجهة التحالفات الغربية مثل “كواد” (QUAD) و”I2U2″، التي تضم إسرائيل والهند والولايات المتحدة.
إلى جانب ذلك، تدرك الصين أن أي فوضى أمنية في إيران قد تمتد إلى جوارها الغربي، وتحديدًا باكستان وأفغانستان، مما قد يهدد استقرار ممرات الطاقة والبنية التحتية ضمن “الحزام والطريق”، لا سيما في مناطق حساسة مثل بلوشستان.
وتشارك باكستان الصين في هذه المخاوف، حيث عبر قائد الجيش الباكستاني عاصم منير، خلال اجتماعه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالبيت الأبيض في 16 يونيو 2025، عن مخاوفه من أن المتشددين الانفصاليين والجهاديين على الحدود الباكستانية الإيرانية قد يستغلون أي انهيار للسلطة في إيران.
وتأتي هذه المخاوف بعد سلسلة هجمات واسعة نفذتها جماعات انفصالية في إقليم بلوشستان جنوب غربي باكستان عام 2024، دفعت رئيس الوزراء شهباز شريف إلى التحذير من أن هذه الهجمات تهدف إلى تقويض مشاريع “الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني”، وهو أحد مشاريع “الحزام والطريق” الأكثر حساسية.
كل هذه العوامل تجعل من إيران شريكًا غير قابل للتجاهل في الحسابات الصينية، حتى وإن لم يتحول هذا الشريك بعد إلى حليف سياسي أو عسكري بالمعنى الصريح.
حدود الدعم الصيني لطهران
لا يمكن فهم حدود الانخراط الصيني في التصعيد الإيراني الإسرائيلي بمعزل عن تشابك مصالح بكين الاقتصادية مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة، فالصين التي تُصنّف إيران شريكًا استراتيجيًا، تُعد تل أبيب بالنسبة لها شريكًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا مهمًا.
وفق بيانات وزارة الاقتصاد الإسرائيلية، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وإسرائيل نحو 25.5 مليار دولار عام 2022، من ضمنها صادرات إسرائيلية بقيمة 4.7 مليارات دولار، تشمل قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا الزراعية، الأمن السيبراني، والمعدات الطبية المتقدمة.
وفي المقابل، تستثمر شركات صينية في مشاريع بنية تحتية استراتيجية داخل إسرائيل، مثل تشغيل ميناء حيفا، وتوسيع ميناء أسدود، إضافة إلى شركات في قطاع الاتصالات والنقل الحضري، رغم الضغوط الأميركية على تل أبيب لتقليص التعاون التكنولوجي مع بكين.
هذا التقارب الاقتصادي يُجبر الصين على عدم الظهور كخصم مباشر لإسرائيل أو كداعم صريح لإيران في أي صراع عسكري، حتى وإن كانت بكين تُعارض سياسات تل أبيب في ملفات مثل القضية الفلسطينية والملف النووي الإيراني، فهي تمارس دبلوماسية مزدوجة، تحفظات سياسية لا تُترجم إلى قطيعة اقتصادية أو اصطفاف عسكري.
من جهة أخرى، تبقى الأسواق الأميركية ذات أهمية مركزية للصين، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والمال والتجارة، ومع تصاعد الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، فإن أي انحياز واضح لطهران قد يُكلّف الصين ثمنًا باهظًا، مثل عقوبات اقتصادية، أو قيود على التكنولوجيا، أو حتى خسارة دعم شركاء عالميين في الجنوب العالمي لا يرغبون في الاصطفاف ضمن معسكرات مغلقة.
لذلك، يقتصر الدعم الصيني المعلن لإيران على أدوات القوة غير الخشنة، تتجسد في التجارة، والاستثمار المحدودين، والدعم السياسي في المحافل الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، والتنسيق عبر أطر مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس، وأحيانًا الدفاع عنها ضد العقوبات الأحادية أو الانتقادات الغربية دون الانتقال إلى شراكة أمنية أو دفاعية.
ورغم ما يبدو من تقارب استراتيجي مع إيران، تحرص الصين على إبقاء علاقتها بطهران ضمن سقف “الشراكة الاستراتيجية المرنة”، بدون تحالفات أمنية، والتزامات عسكرية واضحة، وإنما تنسيق قائم على المصالح الاقتصادية والاستقرار الإقليمي.
وبين الضغط الأميركي، وشبكة العلاقات المتداخلة مع إسرائيل، تواصل بكين أداء دور “القوة المتوازنة” التي تحافظ على قنوات اتصال مع جميع الأطراف، وتُراهن على الاستقرار أكثر من الاصطفاف، دون أن تختزل نفسها في أي محور إقليمي محدد.
مقاربة الموقف الصيني والروسي من التصعيد
اتخذت كل من الصين وروسيا مواقف مشابهة في الرفض الرسمي للهجوم الإسرائيلي على إيران، لكنها اختلفت في الدرجة والأسلوب والتداعيات الدبلوماسية، فالموقف الصيني كان أكثر توازناً وحذراً، حيث دعا المتحدث باسم الخارجية الصينية دعا بكين في يونيو 2025 جميع الأطراف إلى ضبط النفس وتفضيل الحلول الدبلوماسية، دون تسمية إسرائيل أو دعم إيران بشكل علني وحل الأزمة دبلوماسيًّا.
كما دعماً الصين إلى جانب روسيا وباكستان، قرار مجلس الأمن الداعي لوقف إطلاق النار دون تحميل إسرائيل المسؤولية.
ومقارنة بالموقف الصيني من الحرب الروسية الأوكرانية، فإن بكين اتخذت موقفاً أكثر وضوحاً حيث امتنعت عن وصف الغزو بـ”اجتياح”، وانتقدت الناتو بشكل مباشر، واتهمته بأنه المسؤول عن التصعيد، وفّرت غطاء دبلوماسيًا لموسكو في مجلس الأمن، ورفضت العقوبات الغربية على روسيا، وطرحت خطة “السلام ذات الـ12 بندًا” في فبراير 2023.
أما فيما يتعلق بالهجوم الإسرائيلي على إيران، فإنها استخدمت كما أوضحنا عبارات عامة وأكثر حذراً مثل دعوات “لضبط النفس” و”تفادي التصعيد” دون تسمية إسرائيل، ولم تُصدر أي مبادرة سياسية، ولا أي إدانة مباشرة.
في المقابل، اتخذت روسيا موقفًا أكثر صرامة وتضامنًا مع طهران، وأدانت بشدة الهجمات الإسرائيلية والأميركية على مواقع إيرانية، مؤكدة على ضرورة احترام سيادة إيران، واستمرار تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفي نفس الوقت أعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مواصلة دعم البرنامج النووي الإيراني السلمي .
وأكد لافروف، في مقابلة مع قناة “روسيا 1″، أن ما تقوم به إسرائيل لا يمكن تبريره بحق الدفاع عن النفس، قائلاً: “إذا سُمح لكل دولة بأن تفسّر حق الدفاع عن النفس وفق أهوائها، فإننا لا نتحدث عن نظام عالمي، بل عن فوضى شاملة” في انتقاد مباشر لتبرير إسرائيل للهجمات استنادًا إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
من جانبها، دعت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إلى “فهم ما تريده إيران فعلاً، دون إسقاطات خارجية”، مشددة على أن تطوير برنامج نووي سلمي تحت إشراف المؤسسات الدولية “حق سيادي مشروع”.
هذا التباين بين موسكو وبكين يعكس اختلافًا في طبيعة العلاقة مع طهران، وتفاوت استراتيجي في التعامل مع التصعيد فبينما تسعى الصين إلى الحفاظ على توازن دقيق بين علاقتها بإيران ومصالحها الاقتصادية مع إسرائيل والغرب، اتخذت روسيا موقفًا سياسيًا أكثر وضوحًا وتضامناً، دون أن يتحوّل إلى تحالف أمني صريح وبعيدًا عن الدعم العسكري المباشر.
وتُظهر المقارنة أن الصين، انخرطت سياسيًا بشكل أكبر في دعم روسيا، لأنها شريك استراتيجي في مواجهة الغرب، أما إيران، فصحيح أنها شريك اقتصادي مهم، لكنها لا ترى مصلحة في المخاطرة بانحياز واضح لها، خاصة في صراع يهدد بإشعال المنطقة ويضعها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة.
مستقبل العلاقة الإيرانية الصينية
وضع التصعيد العسكري بين طهران وتل أبيب، ومشاركة الولايات المتحدة في دعم مباشر لإسرائيل وصل لحد المشاركة في ضرب المنشآت النووية الإيرانية، بكين أمام معادلة دقيقة، عنوانها الحفاظ على مصالحها المتشعبة مع جميع الأطراف، دون التضحية بعلاقتها الاستراتيجية مع إيران، التي تُعد بوابة رئيسية لنفوذها في غرب آسيا، ورأس جسر في مشروع إعادة تشكيل النظام الدولي متعدد الأقطاب.
وقد تميل بكين في حال استمرار الضغط الأميركي والإسرائيلي على إيران، إلى تعزيز دعمها لطهران بطريقة أكثر انخراطاً، لكن من دون تصعيد مفتوح. يتمثل هذا الدعم في توسيع مشاريع البنية التحتية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، وربطها بممرات اقتصادية عابرة لآسيا، واستخدام اليوان الصيني في التسويات النفطية، ما يخفف اعتماد إيران على الدولار ويعزز دولرة محدودة لصالح الصين، وتوسيع عضوية إيران في التكتلات الآسيوية.
هذا السيناريو يُرسّخ إيران كشريك رئيسي في الحزام والطريق، ويعزز حضور الصين في منطقة باتت تشهد تراجع النفوذ الأميركي التدريجي.
لكن من المرجّح أن تبقي بكين على نموذج الشراكة المرنة القائمة على توسيع المصالح الاقتصادية وتبادل الدعم في المحافل الدولية، دون الانتقال إلى تحالف سياسي أو عسكري صريح، وهو ما يضمن للصين هامش مناورة دبلوماسي مع الغرب، ويُجنّبها الاستنزاف في ملفات أمنية معقّدة لا تخدم أولوياتها التجارية والتنموية ولا أهدافها الكبرى.
في المقابل، لا يمكن استبعاد أن تتجه بكين نحو تحرك مدروس، إذا تصاعدت الضغوط الأميركية أو استُهدفت مصالحها بشكل مباشر، لا سيما في حال تعطلت خطوط الملاحة أو تعرضت شركاتها لهجمات سيبرانية في الخليج أو بحر العرب، فحينها، قد تجد بكين نفسها مضطرة إلى تجميد أو تأجيل بعض أوجه التعاون مع طهران، خصوصًا في قطاعات حساسة كالاتصالات والطاقة، إذا ما تبيّن أن كلفة الانحياز تفوق مكاسبه.
في المحصلة، تؤشّر مجمل التحركات والتطورات على أن العلاقة الإيرانية الصينية تدخل مرحلة جديدة، في ظل تغيّر ميزان القوى العالمي، وتزايد استقطابات الحرب الباردة الجديدة، وفيما تُدرك بكين أهمية إيران كشريك استراتيجي، فإنها تحرص في الوقت نفسه على عدم التضحية بمصالحها في نظام دولي لم تغادره بعد، بل ما زالت تحاول إعادة تشكيله من الداخل.