
البروباغندا الأمريكية – الروسية الموجهة نحو الشرق الأوسط
د. إيهاب أحمد عوايص إعلامي و محاضر جامعي جامعة العلوم الإسلامية الماليزية
البروباغندا الأمريكية – الروسية الموجهة نحو الشرق الأوسط
د. إيهاب أحمد عوايص
إعلامي و محاضر جامعي
جامعة العلوم الإسلامية الماليزية
في خِضم سيل المعلومات المتدفِّقةِ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحول هذه المنصات إلى نوافذ تغييرٍ سياسي، أضحت الدعايةُ السياسيةُ والبروباغندا الجوهرَ الخفيَّ لتحركات الدول في تعزيزِ سياساتها الخارجيَّة اتجاه الدول الأخرى من ناحية؛ واتجاه مواطنيها أنفسهم من ناحيةٍ أخرى، وغايتها في ذلك هندسةُ العقول، والتلاعب بالمشاعر، وصناعة المواقفِ السياسية باستخدام قوالب وطرائق تُتيح له تزييف الواقع وتجاهل الحقائق ووضع الجلَّاد والضحية في ميزانٍ واحد.
وللأسف كانت وما زالت المناطقُ العربيَّة من أكثر الدول تعرُّضًا للحرب الإعلاميةِ الموجَّهة من الدول الغربية، والقوى المتعددة التي تحاول تحقيق مُكتسباتها ومصالحها عبر ضخِّ موجةٍ كبيرةٍ من المواد الإعلامية؛ لتضليل المواطن العربي وتجييش الجماهير وتوجيههم نحو مواقف ممنهجةٍ تتناسب مع اتِّجاهات قادة الدولة؛ بهدف استحداث واقعٍ سياسيٍّ يخدم أهدافهم.
عالميًا، يتسيَّد الإعلام الأمريكي بما يملكه من مؤسساتٍ إعلاميةٍ عملاقةٍ لديها برامجها المُعدة للتَّضليلِ والتزييفِ في المعلومات، والتي تُعد جزءًا من أدوات الترويج وصناعة هذه البروباغندا، تحكمه السياسةُ الرأسمالية ذاتها التي قامت عليها أمريكا، وتُحدد أولوياته وفقًا لأجندتها العسكرية والاقتصادية، وهو رغم ذلك لا يوجد بالضرورةِ داخل حدود أمريكا، ولا ينحصِر في اللغة الإنجليزية كلُغةِ خطاب، ولا يتوجه لفئةٍ بعينها، بل هو شُموليٌّ في توجهاته، رأسماليٌّ في أهدافه، وإمبرياليٌّ في تغلغلهِ بالمجتمعات الأخرى.
وقبل الانغماسِ في أشكال البروباغندا الأمريكية واستراتيجيَّاتها وأهدافها، فإنَّ عودةً سريعة إلى أصل المفهوم تَشِي بالكثير من خصائصهِ وتوجهاته، فالبروباغندا كلمةٌ لاتينية الأصل، تُشير للدعاية المُكثفة والترويج لفكرةٍ ما، ولاحقًا تطوَّرت ليغدو معناها التأثير بالرأي العام وتشكيله؛ بهدف تحويله نحو توجهٍ معين، حتى لو عَنى ذلك التلاعب بالحقائق.
أمَّا عن استخداماتِ الإعلام الأمريكي للبروباغندا فيرصد الباحثون أنَّ الدعايةَ السياسية اعتُبرت المحرك والباعِث والسابقة للتحركاتِ العسكريةِ والخُطط العدوانية اتجاه الدول والأنظمة، وأنَّها حرصت على ضمان استقرارٍ داخليٍّ أقرب للاتِّحاد الأُممي قبل انطلاقها لممارسة الغزوِ العسكري، أو العقوباتِ الاقتصادية، أو بناء التَّحالفاتِ ضد دولةٍ أو نظامٍ بحدِّ ذاته. وقد بدأ تجاربه الأولى على مواطنِيه عندما سعى لتحريضهم ضدَّ الألمان في الحرب العالميَّة الأولى، وضِد الرُّوس في الحرب العالميةِ الثانية، وضد الفيتناميين، وضد النِّظام العراقيِّ السابق خلال حربِ الخليج الأولى والثانية، وضد الصينيين والروس حاليًّا، وضد كلِّ من يمكن له أن يُعتبر كـ “عدوٍّ” يتمُّ توحيد الجبهةِ الداخليةِ ضده.
فيما بعد ارتبطت البروباغندا بالسياسة، وأضحت تعني فنَّ التلاعُب، وقد استخدمها السياسيون باعتبارها فنًّا للإقناع، لكنَّ الحقيقة ترمي أنَّ البروباغندا هي فنُّ إيصالِ الأفكار نحو العقل اللّاواعي، وتسعى لاستغلالِ جهل الفرد؛ مما يؤدي إلى عدم قدرته على التمييز بين الحقيقةِ والكذب، ومن هُنا تمتلك البروباغندا قيمتَها.
وللبروباغندا استخداماتٌ كثيرة، فمن خلالها يتم تبنِّي السلوك والمواقف والتوجُّهات، وبناءً عليها يتمُّ التوجيه أو صَرف الانتباه، كما تَستخدم تقنيَّاتٍ مختلفة: تبدأ من التضليلِ أو ما يطلق عليه الخبراء (الدِّعاية السوداء)، واستراتيجيةِ توظيف المُعاناة، وتضخيمِ المقارنات والمُقاربات، والتنميطِ الإثنيِّ والقبليِّ والثقافي، وتخلطُ الحقيقة المجرَّدة بقدرٍ كبيرٍ من التزوير والتلاعُب.
أما مؤخرًا وخلال الحرب الروسية-الأوكرانية فقد وجدت الولاياتُ المتحدة المتنفسَ لإخفاقاتها الداخلية، وتراجُع هيمنتِها العالمية، وتَهاوِي النظام الاجتماعي الداخلي، من خلال تسليطِ الضوء على الحرب الروسية-الأوكرانية بوصفها حربًا بالإنابة، واتَّسمت البروباغندا الأمريكية في مواجهةِ روسيا بعددٍ من الخصائص والتكتيكات، أبرزها:
- الاستعارة الأخلاقية والإنسانية: حيث واظبَ الإعلام الأمريكي على إسباغِ صفات البطولةِ والشجاعةِ والتضامن على الجانب الأوكراني على حساب شَيطنة الجانب الروسي، إلى الحدِّ الذي حَدَا بالرئيس الأمريكي لوصفِ الرئيس الروسي باعتباره “مجرم حرب”، في خطوةٍ تهدف للتساوقِ مع موجةِ التعاطف مع الأوكرانيين.
- صمّ الآذان: حيث فضَّلت الدعاية الأمريكية قطعَ قنوات الاتصال ووضْع الخطاب الروسي في حالة صمتٍ بدلًا من الاستماع له والردِّ عليه، فمُنذ بداية الحرب تمَّت مقاطعة مختلف أشكالِ التَّواصل مع النظام الروسي، سواءً على مستوى الأخبارِ، أو الفنِّ، أو الرياضةِ، كما تمَّ توجيه مواقعِ التواصل ومحركاتِ البحث لخنق الروايةِ الروسية من خلال إغلاق المجال أمامها ومحاصرتها، مقابلَ طَرح الرواية الأوكرانية بشكلٍ أولويٍّ متواصلٍ أمام الجمهور.
- فتح المجال للإعلام الأوكراني: وفيه بدا الإعلام الأمريكي في حالة توأمَةٍ مع الإعلام الأوكراني، وتم اقتباس ما يصِل من صورٍ وفيديوهات وأخبار منه، بغضِّ النظر عن مصداقيتها، ومن أبرز القصص التي تم تدويلها والتَّرويج لها: قصة شبح كييف، والبحارة الأوكرانيين، وأعداد القتلى الروس، وبطولات المسؤولين المحليين، وهي جميعها قصصٌ تحمل قدرًا كبيرًا من التضليل وتفتقد لمصداقيةٍ واقعية.
- التحزب ولا للحياد: ففي بداية الحرب توقَّع الحلف الغَربيُّ أن ينقسمَ العالم ما بين مؤيدٍ لروسيا أو مؤيدٍ لأوكرانيا والحِلف الغربي، لكنَّ عددًا كبيرًا من دول العالم أظهر قدرًا من اللَّامبالاة اتجاه ما يجري في أوكرانيا وما يتهدَّد الحِلف الغربي، ما دفع الدعاية الأمريكية لصبِّ غضبها على المحايدين وتصيُّدِ عثَراتهم وتسليطِ الضوء على أنظمتهم، بل وصل الأمر إلى حدِّ وصْمِها بالأنظمة الديكتاتورية، في تماهي مع فكرة “جورج بوش الابن” أثناء حربهِ على العراق: (من ليس معنا فهو ضدنا).
- التقليل من قدر العدو وتضخيم خسائره: في هذا الأسلوب استفادت الدعايةُ الأمريكية من خطاباتِ الرئيس الأوكراني التي اتَّسمت بقدرٍ كبيرٍ من المبالغة، حيث أشار في أحد خطاباته لمقتلِ ثلاثةَ عشرَ ألف جنديٍّ روسيٍّ مقابل ألفٍ وأربعمائةِ جنديٍّ أوكراني فقط، وهذا الرقم بدون أيِّ مرجعيةٍ حقيقيةٍ تصبغُ عليه مصداقية، كما تبنَّى الإعلام الأمريكي التقاريرَ حول الفشلِ العسكري وصعوبةِ التقدم في أوكرانيا، وخراب المُعدَّات العسكرية وحالات التمرُّد الداخلي في روسيا رفضًا للحرب.
ولكن ماذا تهدف أمريكا من دعايتها نحو الشرق الأوسط؟
تتمثلُ أهداف البروباغندا الأمريكية الموجَّهة للشرق الأوسط في الاستثمارِ في السياسية الخارجية لهذه الدُّول، والتي في غالبها ما زالت حبيسةَ التراكماتِ السياسية الماضية؛ بدايةً في حصار روسيا ومنع مدِّها الفكريِّ وتأثيرها السياسي في الشرق الأوسط، خاصةً مع تمددها في سوريا وحالة التقارُب بينها وبين تركيا، وعودة العلاقاتِ مع النظام المصري، وعلاقاتها الاقتصادية المُتصاعدةِ مع الخليج.
كما تهدف الدعاية الأمريكية لرفع مستوى الاستفادةِ من ثروات الشَّرق الأوسط لتخفيف أعباء العقوباتِ الاقتصادية على روسيا، وتخفيفِ ارتفاع أسعار النِّفط وانقطاع إمدادات الغاز الطبيعي، ناهيك عن مكاسب تكوين حلفٍ جغرافيٍّ سياسيٍّ مقاوِمٍ لروسيا ومن يجري في فلكها مثل: الصين، وإيران، وتَستخدم الدعاية الأمريكية صيغةَ ربط روسيا بإيران لتشجيع الدول العربية لتبنِّي مفاهيمها في مواجهة روسيا.
وفي تقييمٍ للبروباغندا الأمريكية وتأثيرها على العقل العربي، فإنَّ ما يجري على الأرض على المستوى الشعبي، وما يرشَحُ من ردود أفعالٍ على المستوى الرسمي في ظلِّ تشابُك وتعقيدات الرِّهانات السياسية الحالية، تَشي بأنَّ قوالبَ وأساليب الدعاية الأمريكية لم تنجح في جذْبِ المواطن العربي لصالح التَّعاطف مع الجانبِ الغربيِّ والأوكرانيِّ، والتي جاءت انعكاسًا لما ارتبطت به الديمقراطياتُ الليبرالية الغربية والأمريكية من شرورٍ تجاه الشرق الأوسط.
وختامًا يمكن القول ومما يظهر من السَّرْديات والتقاريرِ على الصَّعيد الرسمي والشعبي وفي ظلِّ الأزمات المتلاحِقة التي تعيشها المنطقةُ العربية من مختلف النَّواحي أنَّ دُولَ الشرق الأوسط ليست معنيةً بالحروب التي تخوضها أمريكا أو أوروبا، أو بتلك الصِّراعات التي لا تمس حدودها، في تبادلٍ مع اللامبالاة والتَّهميش الغربيِّ للقضايا الإنسانيةِ في: العراق، وسوريا، وفلسطين، وليبيا، واليمن، ناهيك عن أنَّ الفَجاجةَ الأمريكية في افتراض مشاركةِ الدول العربية في التَّخفيف عن أوكرانيا والتنازل عن مكتسباتٍ اقتصاديةٍ لصالح دولةٍ أوروبية لا ترى الشرقَ الأوسطَ على خارطتها يجعلُ من أولويات الأنظمةِ والإنسان العربيِّ أمورًا أهمَّ من الخِطاب والدِّعاية الأمريكية، أو من الاصطفاف وراء قُطبٍ دون الآخر، أو من دفع ثمنٍ في حروبٍ لا ناقةَ لها فيها ولا بعير.