
التكنولوجيا والسلاح.. رأس مال العلاقات الإِسرائيلية
د. بلال خليل ياسين / باحث مختص في الشأن الفلسطيني
منذ احتلال فلسطين عام 1948، حَرصَت «السُّلطات الإسرائيليَّة» أنْ تجِدَ لها مَوطِئ قَدمٍ في دولٍ عِدَّة، أهمُّها دُوَل آسيا، وبما أنَّ الاتحاد السُّوفيتيّ كان في حالة حربٍ مع الإدارة الأمريكية في تلك المرحلة، فقد حَظِيَت علاقة الاحتلال الإسرائيليّ بِدُول تلك المنطقة بتناقضاتٍ كثيرة، إلا أنَّ تَفكُّك الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات كان سَببًا مُهمًّا في قُدرة «إسرائيل» لاختراق تلك المناطق التي كانت تَتُوق لعواملَ الاستقلال السِّيادِيّ.
على سبيل المِثال، في مارس 1992 أَيْ بَعد تَفكُّك الاتحاد السّوفيتيّ بثلاثةِ أشهر تقريبًا، رأينا سرعة تحرك الخارجية الإِسرائيليَّة لاستغلال الفُرصة التي تُمَكِّنها من الدخول إلى آسيا الوسطى، حيث نَظَّمت في العاصمة الأُوزبَكِيَّة «طشقند» أوَّل مُؤتمرٍ اقتصاديٍ مُشترَك، كان هدفُه تحديد احتياجات تلك الدول، والدور الذي يُمكِن أن تقوم به «إسرائيل» تجاهها، بالتأكيد لم يكن تَحرُّك الأخيرة حُبًا في عيون أبنائها، بل كانت تُدرِك أنَّ آسيا الوسطى التي كانت تَمتدُّ فوق أربعة مليون كم2 تجلس فوق مخزونٍ هائلٍ من: النفط، والغاز، واليورانيوم، والذهب، والفضة، كما أنَّ موقعها الجغرافي الذي يحد كُلًّا من: تركيا، وإيران، وروسيا، والصِّين جَعَل منها استراتيجيةً لا غِنى عنها، خُصوصًا أمامَ مشروع الصين المعروف طريق الحرير.
وإذا أردْنا أنْ نَبتعِد عن الحديث العام في إطار الموضوع، ونَحصُر الصورة في أكثر دولتَين ذات تأثيرٍ في قارة آسيا (الصين والهند) فإنَّنا أمام مصالح مُتبادَلة قادت دولة الاحتلال الإسرائيليّ إلى تعزيز حضورِها في تلك الدول على مستوياتٍ مختلفة.
بداية العلاقة مع الصِّين والهند
في عام 1979، خاض الجيش الصيني حربًا ضِدَّ الفيتنام، وبالرَّغم من أنَّه احتلَّ الأراضي الفيتناميّة بِسُهولة إلا أنّه تَكَبَّد خسائر كبيرة، وبعد التقييم اكتشف الصينيون أنَّهم بحاجة إلى تكوين جيشٍ نِظاميٍّ حَديث، قادر على أنْ يُواكِب تَطوّرات العصر، ومنْ هنا التَقطت «إسرائيل» المصلحة التي يُمكِن أنْ تَضع أقدامَها على الساحة الصينية، حيث عرضت خدماتها العسكرية من خلال رجل الأعمال الإسرائيلي «آيزنبرج»، ولأنَّ المُقدَم في تلك المرحلة لم يُشكِّل تنافسًا مع الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعارِض الأخيرة التعاون المُشترَك بينهما، مع إبقاء العلاقة في السِّر.
أما الهند فلم تبتعِدْ كثيرًا عن الصِّين من حيث الثَّغرة التي تسلَلَ من خلالها الإسرائيليّ، فقد كان موضوع المُعدَّات العسكريّة أيضًا هو كلمة السِّر التي دفعتها نَحو تطوير منظومتها العسكرية، والاستفادة من خبراتِها في مَجال التقنيَّات التي تَسمَح لها بالتفوُّق الأمنيّ على خُصومِها في «باكستان»، والتحديات التي تُريد أن تَتَغلَّب عليها في «كشمير»، وبما أنَّ اتِّفاقيَّة «كامب-ديفيد» نهاية السبعينيات قد جمعت العرب مع الإسرائيليّين على مائدة السلام، ومع سياسة انفتاح العقل الهندي للاستفادة من العقل الغربي -كما يصِفُها بعض المراقبِين- تَقدمَت الهند نحو «إسرائيل» بخطىً ثابتة، لاسيما أنَّ «إسرائيل» في تلك المرحلة كانت تُقدِّم نفسها كَسِمْسَار لِكُلِّ من يُريد أنْ يُوطِّد علاقتَه بالولايات المتحدة الأمريكيّة، مما أدى لاحقًا وبشكلٍ تدريجيّ إلى انقلابٍ كاملٍ في السياسة الهندية تجاه القضية الفلسطينية التي كانت تُساندُها عَبر عُقود.
ماذا تريد «إسرائيل»؟
مَع بداية الاحتلال الإسرائيليّ في فلسطين، كانت الدُّول العربية تُمثِّل طَوق حصارٍ حَول كيانها الجديد، وبما أنَّ استراتيجية الاحتلال آنذاك كانت تَعتمِد على تثبيت أقدامها على الأرض، فقد حرصت على القفز عن موقف العرب، وإيجاد مصالح لها في قارتَيّ آسيا وأفريقيا، ولأنَّ جمهوريتَيّ الصين والهند، تَتَميزان بالمساحة الجُغرافية الواسعة، وعدد السُّكان الكبير، وطبيعة الدور الذي يُمكِن أنْ تلعباه مستقبلًا، أدرك الإسرائيلي مُبكِّرًا أولويَّة حُضورِه في تِلك المناطق.
وعليه فقد بَقِيَت محاولاتُه بين الصُّدود والسِّرية كما ذكرنا سابقًا، حتى استطاع الاحتلال أنْ يُعزِّز أهمِّيتَه في ملفاتٍ عِدَّة، أبرزها الجوانب الأمنية والتّقنيّات التكنولوجيَّة والأسلحة المتقدمة، فبَعْد تفَوُّق «إسرائيل» على بعض الدول العربيّة أمنيًّا وعسكريًّا، واستِطاعَتِها إبرام اتفاقية سلام مع أكبِر دولة عربيّة في الشَّرق الأوسط وهي جمهورية مصر العربيَّة في نهاية السبعينيات، قدَّمت «إسرائيل» نفسَها لِدُوَل آسيا وغيرها بشكلٍ أكبر كنموذجٍ ناجحٍ في أهمية مُعداتِها العسكرية وفاعليِّتها العملية، والتقنيَّات التكنولوجيَّة، وبهذا زادت تعاونها في تلك الجوانب مع الصِّين والهند.
ومن هنا شَهِدَ العالم نُموًا متزايدًا في حجم التبادل التجاري بين «إسرائيل» والصِّين خصوصًا في العقدين الأخيرين، كما عَزَّزت زيارة الرئيس الصينِي «جيانغ زيمين» «لإسرائيل» عام 2000، وكذلك زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق «إيهود أولمرت» «بكين» عام 2007؛ رَفْعَ مستوى التعاون السياسي، وزيادة في حجم التبادل التجاري بينهما بشكلٍ ملحوظ، فقد بلغت صادرات إسرائيل للصين عام 2017 إلى 3.3 مليار دولار، أما صادرات الصِّين إلى «إسرائيل» فقد تجاوزت 8 مليار دولار.
ومن أجل التواصل بين الشركات الصينية والإسرائيلية، يُعقَد عدد من المنتديات الاقتصادية بين الجانبين بشكلٍ سنويّ، منها منتدى «سيليكون دراغون إسرائيل»، الذي عُقِد في «تل أبيب» مطلع عام 2018، والقِمّة الصينيّة الإسرائيلية للابتكار، التي عُقِدَت في «غواندونغ».
أما فيما يَخُصّ الهند، فقد شَهِدَت علاقتها التجارية مع «إسرائيل» تصاعدًا كبيرًا، خصوصًا في المجال العسكري، ففي عام 1992 بلغ حجم التبادل التجاري بينهما إلى 200 مليون دولار، أما في عام 2014 فقد وصل إلى خمسة مليار دولار، وهنا يظهر حجم المستوى المُتصاعِد في هذا المجال، وقد ذكرت صحيفة «جروزاليم بوست» الإسرائيلية قبل أسابيع، أنَّ الهند تُجرِي مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي لِشراء نِظامَين للتحذير والتحكم في الجو، من طِراز فالكون «أواكس» من إسرائيل بقيمة مليار دولار، وقد أكَّدت الصحيفة أنَّ الصفقة المُشار إليها على وشك الإنجاز.
لذلك فإننا نَجِد أنَّ «إسرائيل» لديها صادرات ضخمة في مجال الأسلحة العسكرية، فقد ذَكرَت «وزارة الدفاع الإسرائيليّة» في 22 يونيو/حزيران الماضي، أنَّ قِيمَة مَبيعاتها بلغت 7.2 مليار دولار أمريكي في العام الماضي 2019.
إذن ما يهم «إسرائيل» في مثل تلك العلاقات هو تعزيز حجم التعاون مع قوىً دولية صاعِدة، وجَذْب الاستثمارات الصِّينيّة والهندية إلى البلاد، وهذا يَسمَح لها بالتأكيد تمرير أبعادِها الثقافية المتعلقة في طبيعة صِراعِها مع الشعب الفلسطيني، وتَحيِيد المواقف السياسية على الأقل تجاه احتلالها لفلسطين وممارساتها العُدوانية تجاه الفلسطينيين، أو تحقيق تَغيُّر كامل في الموقف السياسي تجاهها، كما حدث عَمَليًّا في موقِف الهند تجاه الصِّراع الفلسطيني الإسرائيلي في المنطقة العربية.
وفي هذا السِّياق نَذكُر أهميّة التطبيع بالنسبة «لإسرائيل» الذي أبرمته قبل أسابيعَ مع الإمارات العربيَّة، حيثُ إنَّ الأخيرة لديها مصالحَ تِجاريةً ضخمة في الهند، إذْ يبلُغ حجم استثماراتها السَّنوية قُرَابة «60» مليار دولار، الواقع الذي جعل الإمارات العربية تَحتَلّ المركز الرابع في الشراكة التجارية مع الهند، ولأنَّ «إسرائيل» تسعى لتوسيع التبادل التجاري مع الهند فإنَّ الإمارات العربية تُعَدّ البوابة الصحيحة التي يمكن أنْ تفتح لها مساراتٍ جديدة، وهنا يَكمُن أحَدَ أخطرِ مواضعَ التَّطبيع معَ الاحتلال الإسرائيليّ.
في المقابل، فإنَّ اهتمام الصِّين «بإسرائيل» باعتبارِها مَصدَرًا مُهمًا في مجال التكنولوجيا المُتطوِّرة، خصوصًا فيما يتعلق بالصناعات العسكرية الدقيقة، كما أنَّ اهتمام الصين في مشروع «الحِزام والطَّريق» يجعل مِن مَوقِع «إسرائيل» الجغرافي أهميةً استراتيجيةً لا غنى عنها، أما الهند فهي أكبر مُستورِدٍ للسلاح من «إسرائيل»، خصوصًا في ظِلِّ صِراعها مع باكستان، وسِباق التسلح الحاصِل بينهما.
الموقِف الأمريكيّ من العلاقة الصِّينيّة الإسرائيليَّة
لا شَك أنَّ الولايات المتَّحِدة تَنظُر إلى علاقة «إسرائيل» بالصِّين بعيون الرَّيبة والحذَر، فهي تخشى أنْ تَحصُل الصِّين من حَليفتِها الأُولى في العالم على تقنيّاتٍ تكنولوجيّةٍ تَتَخطى الحدود المسموحة، خصوصًا في ظل صعود الصين كمُنافِسٍ قويّ في المجال الاقتصادي، واتهامها بالسَّرقة الفِكرية لكثيرٍ من المشروعات العالمية، وقد عّبَّر عن هذه الخشية أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في هاينز كوليدج «لي برانستت» بقولِه: «إنَّ القلق الأساسيّ في الولايات المتَّحدة هو أن تَصِل التقنيَّة الإسرائيليَّة، في نهاية المَطاف إلى أَيدِي الجيش الصينيّ»، وهذا حَسْب تعبيرِه يُمْكِن أنْ يتحوّل في النهاية إلى جيلٍ جديد من الأسلحة الصينيَّة، قادِر على تهديد القوات الأمريكية وحُلفائِها.
ومن الأسباب التي تَزيد قلق الولايات المتحدة، أنَّ تَوسُّع الصين في علاقاتها مع إسرائيل يُشَكِّل خطرًا فيما يَخُصُّ مصالِح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وبالرَّغم من القلق الصَّريح الذي تُبْديه الولايات المتَّحدة، إلّا أنَّ الصين تَتَّبِع استراتيجية الاستثمار المباشر في شركات التّكنولوجيا والمعلومات الإسرائيليَّة، كما أنها وَسَّعت اهتمامها بالمشاركة في خطط تَوَسُّع البنى التحتية، كالمَرافِئ البحريّة، وسِكك الحديد، والأنفاق، حيث تُقَدَّر قيمة أربعة مشاريع رئيسيَّة للصِّين في «إسرائيل» في هذا المجال بحوالي ٤ مليار دولار.
أثبَت الواقع أنَّ «إسرائيل» حَقَّقَت نجاحاتٍ مُتقدِّمةً في اختراقِ الدولِ المُؤثِّرةِ في قارة آسيا، وأنَّ أدواتَها في تحقيق ذلك هي التجارة المُتبادَلة، وبما أنها تمتلك التكنولوجيا المتطورة والموقع الجغرافي المهم، فقد جعل منها مَحَطَّ اهتمام العديد من الدول، وفي ظِلِّ صعود الصين كَدولةٍ مُنافِسةٍ للولايات المتحدة على المستوى الاقتصادي، وبعد أزمة كورونا الأخيرة التي قد تُدخِل السوق الأوروبي في كَسَاد، فإنَّ «إسرائيل» تسعى لمَزيدٍ من التعاون التجاري في شرق آسيا خصوصًا مع الصين والهند، بما يُحَقِّق لها أسواقًا بديلةً ومتنوِّعةً على المستوى الاقتصادي، ويَضمَن لها حضورًا جيِّدًا على المستوى السياسي، ويَحفَظ لها الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية.
وهذا يَفرِض بطبيعة الحال تحديًا كبيرًا أمام القضية الفلسطينية في ظِلِّ انحياز الولايات المتحدة لإسرائيل في موضوع الوساطة لِحَلِّ الصِّراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ في منطقة الشرق الأوسط، وضَعْفِ التأثير الأوروبي، وفي إطار بَحْثِ الفلسطينيّ عن أطرافٍ دوليةٍ نزيهة.