الصين والقضية الفلسطينية: فهم وتغيير أنماط الدعم الدولي
تتجه العديد من تفسيرات بعض الظواهر السياسية إلى أن تكون محصورة في مستوى واحد من التحليل، وغالباً ما يُنتقد هذا التحليل لكونه يُقلِّص أو يُهمِّش جوانب أخرى، حتى وإن كان هذا المستوى هو الأهم.
فالذين يعتمدون على التغيير في النظام الدولي كمستوى أساسي للتحليل يرون هذا التغيير عاملاً مستقلاً رئيسياً، وأن أي تغيّر في المناطق والأقاليم المختلفة من العالم هو تغيّر تابع دون التطرق إلى العوامل المحلية أو الإقليمية أو حتى الشخصية المتمثلة في أدوار القادة وإدراكاتهم وأيديولوجياتهم. وهذه رؤية ضيقة ومحدودة.
وعملياً، إذا طبّقنا هذا الأمر على القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي وإقامة كيانٍ مُحتل على أرض فلسطين عام 1948، يرى كثيرون أن هذا الأمر كان نتيجة تغيّر في النظام الدولي وإحدى تبعات ونتائج الحرب العالمية الثانية، وأن ما حدث جاء في إطار وطبيعة النظام الدولي الجديد الذي انتقل إلى الثنائية القطبية، وتمكّن الاحتلال من الحصول على شرعية من القطبين في النظام الدولي ودعم مطلق من أحدهما وأقواهما على الأقل. ومع ذلك، كانت هناك عوامل داخلية وإقليمية ومحلية أثّرت في هذا الأمر.
في هذه المقالة نتحدث عن مستوى النظام الدولي وما قد يطرأ عليه من تغيير، وكانت هذه المقدمة ضرورية للتأكيد على أنه حتى وإن اعتمدنا مستوى النظام الدولي كمستوى للتحليل، وحتى لو كان هذا المستوى هو الأهم من وجهة نظر ما، فإن هناك مستويات أخرى من التحليل يجب أخذها في الاعتبار لاستكمال زوايا تفسير المشهد.
وإذا نظرنا حولنا، فإن الولايات المتحدة، التي تربّعت منفردة على عرش النظام الدولي منذ قرابة عام 1990، لم تستطع أمام أعيننا بناء دولة راسخة في العراق واضطرت للانسحاب من أفغانستان لصالح حركة طالبان التي حاربتها لعشرين عاماً.
وعلى الجانب الآخر، يكاد جميع المراقبين لشكل النظام الدولي يتفقون على أن النظام الدولي لم يعد تحت الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة، وأن هناك حالة من السيولة. ويرى آخرون أنه مع صعود الصين وبقاء الولايات المتحدة قوة مؤثرة، وصعود قوى أخرى، فإن النظام الدولي يتجه نحو شكل متعدد الأقطاب.
ومن وجهة نظرنا، لا شك أن جميع قضايا التحرر اعتمدت على القوة الحقيقية في مواجهة الاحتلال والاستعمار، بحيث تتراكم القوة العسكرية وتتحالف مع القوى الداعمة لحقوق الشعوب أو المناهضة للاستعمار. ولذلك من الضروري إيلاء اهتمام أكبر لهذين المسارين، إذ قد يتداخلان.
للأسف، نجح الاحتلال الإسرائيلي حتى الآن في الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع القوى الدولية الكبرى، من الولايات المتحدة إلى الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، وأدار علاقاته معها بنجاح رغم التناقضات. وتُعتبر بعض هذه القوى داعمة تاريخياً للقضية الفلسطينية بفعل التاريخ المشترك في مواجهة الاستعمار. ومن ثم، يجب ألا تُترك هذه الساحة للاحتلال الإسرائيلي يمرح فيها بلا عوائق، بل يجب تجاوز ذلك للحصول على الدعم والشرعية لصالح الطرف المظلوم.
أما الصين أيضاً، فقد دعمت قضية الشعب الفلسطيني في بداياتها، لكن موقفها تغيّر، وهذه المقالة ليست لدراسة أسباب هذا التحول آنذاك، غير أن الصين اليوم ليست هي الصين في السبعينيات أو حتى التسعينيات. فهي اليوم قوة صاعدة في نظام دولي يتجه نحو التعددية أو الثنائية القطبية، والأهم أنها في حالة صعود بينما بقية القوى في حالة تراجع (إذ إن الصعود والقوة اليوم يختلفان عن الصعود والقوة في الفترات السابقة من تحولات النظام الدولي)، كما أن لديها استراتيجية محددة تجاه المنطقة، ومن ثم فمن المهم السعي إلى صياغة معادلات محددة وإيجاد مواقع مناسبة ضمن هذه الاستراتيجية بشكل مدروس ومبكر للاستفادة منها بما يخدم القضية العادلة والقضية الأخيرة للتحرر من الاستعمار في العالم.
وفي هذا السياق، شاركنا في نهاية أكتوبر 2021 في مؤتمر “الصين والقضية الفلسطينية” الذي نظمه منتدى آسيا والشرق الأوسط (AMEF) في إسطنبول، كخطوة مبادرة لتسليط الضوء على أهمية النظر إلى هذه القوة الصاعدة والبحث عن الفرص الممكنة للاستفادة من العلاقة معها في ظل المواجهة المفتوحة مع الاحتلال وفي ظل انسداد الأفق الإقليمي.
ومن وجهة نظري، تُعتبر هذه الخطوة خطوة ضرورية، ويجب استغلال كل السبل لفهم استراتيجية الصين ومصالحها من جهة، والتناقض بينها وبين الاحتلال وداعميه من جهة أخرى.
وكما بدأنا، لا بد أن نشير إلى أن هناك تغييراً على المستوى الدولي، وهناك تغييراً على المستويين الإقليمي والمحلي، سواء الفلسطيني أو الإسرائيلي، وكان آخرها معركة سيف القدس في أيار/مايو 2021، التي أظهرت العديد من مؤشرات التحول والتغيير. للأسف، تفوق العدو الصهيوني علينا كثيراً في هذا الجانب. وقد آن الأوان لقلب هذه المعادلة. وهنا يجب التذكير بضرورة امتلاك أدوات القراءة والمبادرة والتموضع وإتقان اختيارها.
وبعيداً عن الأمنيات، فإن الطريق للحصول على الدعم الدولي من القوى الكبرى ليس سهلاً ولا يخلو من عقبات كبرى، وهذا أمر معروف في جميع مسارات التحرر.