بعد زيارةِ رئيسُ وزراء الهند ناريندرا مودي الإسرائيلب وقيام نظيرِه انتنياهوب بردِّ الزيارة للهند، ومع حجمِ التَّرحيب والاتفاقات التِّجارية التي عُقِدت بين البلدين، خرجت التَّساؤلاتُ عن سِرِّ هذا التَّحولِ والانفتاحِ الذي قامت به الهند تجاه دولةٍ مارقةٍ اكإسرائيلب، والتي هي في مِنظارِ شعوب المنطقةِ عدوٌ للأمَّتين العربية والإسلامية، وكيف تجرَّأ َبموديب بأخذِ الهند في هذا الاتجاه، وهي البلدُ الذي تربطه بالدُّول الخليجيةِ مصالح استراتيجيَّة لا يمكن المراهنة على خسارتها؛ لأنها تعني عائداتٍ ماليةً بالمليارات من الدولارات، وملايين من العمالةِ الهنديةِ في دول مجلس التَّعاون الخليجي، مثلَ: الإمارات، والسُّعودية والكويت!.
السُّؤالُ المُثير للحيرةِ والاستغراب: هل اطمأنَّ مودي بأنَّ الموقفَ في الخليجِ لم يعد عدائيًا الإسرائيلب، وليس هناك ما يخشى خسارتَه من وراءِ توسِعَةِ علاقاته التِّجاريةِ والعسكريةِ مع اإسرائيلب؟ وهل حفاوة الاستقبال الذي حَظِيَ به في الإمارات بعدَ الانتهاءِ من زيارته الإسرائيلب كان دليلًا على ذلك؟ ولماذا غابت الدبلوماسيَّةُ الفلسطينيَّة عن تحريكِ العالمِ العربيِّ والإسلاميِّ لرفضِ مثل هذه العلاقة بين الهند وبإسرائيلب والتي تأتي على حسابِ القضيَّةِ الفلسطينيَّة؟ أسئلةٌ رُبما تجيب على بعضِها مجرياتُ الأحداثِ والتَّحولاتِ المتسارعةِ بالمنطقة، كموجةِ التَّطبيعِ والهرولةِ السياسيةِ تجاه الكيانِ الصُّهيوني من دولٍ مثل: الإمارات، والبحرين، ودول عربية أخرى يجري الآن العمل على تطويعها أمريكيًا لِلَّحاقِ بقاطرةِ المُطبِّعين، دون أيِّ اعتبارٍ للحقوقِ الفلسطينية، التي تنكرت لها اإسرائيلب وأمريكا.
في الحقيقةِ، إنَّنا كفلسطينيين لا نلومُ الهندَ وحدَها عندما وجدت أنَّ مصلحتها هي في توطيدِ علاقاتها مع اإسرائيلب، ونتفهمُ أنَّها راعت مشاعرَنا ومشاعرَ المسلمين الهنود لسنواتٍ طويلة، ولم نلمس التَّغيرَ العلنيَّ إلّا في السنواتِ الأخيرة، وبعد أن تولَّى اناريندرا موديب مقاليدَ الحكمِ عام 2014م، حيث كان أولَ رئيس وزراء يزورُ اإسرائيلب للاحتفالِ بمرورِ 25 عامًا على إنشاءِ العلاقاتِ الدُّبلوماسيَّةِ بين البلدَين، تلكَ الزيارةُ التي وصفها انتنياهوب ببالتاريخيَّةب!، وعقد خِلالها صفقةً عسكريةً ضخمةً زوَّدت بموجبها اإسرائيلب الهندَ بصواريخ مضادةٍ للدبابات من طراز اسبايكب، للأسف، لقد أحبطَ اموديب آمال الشعبِ الفلسطيني ذآنذاك- بعدمِ زيارةِ رام الله، وتركَ هذا الأمرُ العديدَ من التَّساؤلات عن مكانةِ فلسطين في السياسةِ الهندية الخارجية، لقد كانت إشارةً واضحةً لنا كفلسطينيين بأنَّ الهند لديها رسالة من وراء ذلك، وقد صرَّحَ بها ابافان كابورب سفير الهند لدى اإسرائيلب حين قال: انشعر أنَّنا قادرون على العملِ معهم مُستقلِّين عن بعضهم البعض، وأنَّ زيارةَ رئيسِ الوزراء هي انعكاسٌ لذلكب.ت
وعلى ما يبدو أنَّ الحكومةَ الهنديةَ تداركت الموقفَ حين قام رئيسُ وزرائِها بزيارة رام الله لاحقًا، ولكن لم تكن بثقلِ ولا حفاوةِ زيارتِه إلى اإسرائيلب أو أنَّها جاءت كما نُسمِّيها اتبرِئة عتبب .
إنَّ القضيةَ الفلسطينيةَ بدأت في التراجع، وأخذت تفقدُ ثقلَها في الهندِ شيئًا فشيئًا، بدءًا من ترابطِ العلاقاتِ الهنديةِ الإسرائيلية، التي شهدت تقاربًا مَلحوظًا في الآونة الأخيرة، مع ضعفِ أصواتِ المسلمين في الهند بالإضافةِ إلى انشغالهم بالمشاكلِ الدَّاخليةِ بما فيها قضية اجامو وكشميرب، وتعديل قانون المواطنة.
مما لا شكَّ فيه أنَّ الكثيرَ من المؤسساتِ الهنديةِ المناصِرة لقضية فلسطين تعملُ على قدمٍ وساق، وأخصُّ بالذِّكر جامعةَ الهند-العربية، والتي تعملُ منذ تأسيسها عام 1967م إلى الآن على مناصرةِ شعبنا وقضيتنا، وقد ندَّدَت مؤخرًا بعمليةِ تطبيعِ علاقات الإمارات والبحرين مع زإسرائيلس، وأعربت عن نيتِها تنظيم حركةِ احتجاجاتٍ في ولايات الهند المختلفة بعدَ انتهاءِ أزمةِ فيروس كوفيد-19 .
إنَّ الصوتَ المناصرَ للقضيةِ الفلسطينيةِ في الهند شهِدَ تراجعًا ولكنَّه لم يتوقف، وعلينا كفلسطينيين أن نعزِزَ من دبلوماسيَّتِنا ونحرصَ على تكثيفِ الجهود لكي لا نخسر هذا البلد العظيم، فالهند كانت أولَ دولةٍ غير عربيةٍ اعترفت بإعلانِ استقلالِ فلسطين عام 1988، وقبل ذلك اعترفت بمنظَّمةِ التحرير الفلسطينية عام 1975، وقرَّرت منحَها الوضعَ الدبلوماسيَّ الكامل عام 1982م، ولم تقم بإنشاء علاقاتٍ دبلوماسية مع اإسرائيلب إلّا بعد انطلاقِ عملية التَّسويةِ السياسية للصراعِ العربي-الإسرائيلي، وتحديدًا بعد مؤتمرِ مدريد عام 1991.
إنَّ التاريخَ اليومَ يعيدُ نفسَه في الهند، فهي لم تبدأ بتوطيدِ علاقتها مع اإسرائيلب إلا بعد أنْ شعرت بأنَّ الموقفَ العربيَّ يميلُ لصالحِ جارتها باكستان، ففي عام 1962، طلب رئيسُ وزراء الهند اجواهر لال نهروب مساعداتٍ عسكريةً من نظيرِه الإسرائيلي آنذاك اديفيد بن غوريونب، حيث اغتنمت اإسرائيلب زِمامَ المبادرةِ وقدَّمت للهند كلَّ ما تحتاجه في حربِها مع الصين، وفي عام 1965م وخلالَ حربِ الهند مع جارتها باكستان قدَّمت اإسرائيلب أيضًا معداتٍ عسكرية، لا شكَّ أنَّ هذه المساعدات كانت بمثابةِ مَوطئ قدمٍ لكي تضعَ اإسرائيلب أقدامَها على الطَّريقِ إلى الهند ونسجِ علاقة تعاونٍ وتنسيقٍ أمنيِّ معها، بالإضافةِ إلى ما كانت تستشعره الهندُ من وجودِ بوادِرَ ومؤشرات لتطبيعِ علاقة بعض الدولِ الخليجيةِ مع اإسرائيلب.
لا شكَّ أنَّ هناك أسبابًا أخرى عديدةً جعلت الهند تتوددُ الإسرائيلب وأمريكا، حيث إنَّ التوترَ مع باكستان جعلها تشعرُ بالقلقِ والتوجُّس، وأنَّها ليست بمنأىً عن خطرِ الإرهابِ العابرِ للحدود، وأنَّ تعاونَها الأمني مع اإسرائيلب سيُمكِّنها من الوقوفِ في وجهِ تهديدات ما يُسمى االإرهاب الإسلاميب في جنوب آسيا، بالفعل تمكنت الهندُ من الحصولِ على معلوماتٍ عن تحركات باكستان وأنشطتها العسكريةِ والأمنية، وهذا تحققَ بفضلِ اتِّفاق التعاون بين اإسرائيلب والولاياتِ المتحدةِ وأقمار التجسسِ الإسرائيلية، بالإضافةِ إلى أنَّ الهند تعتبرُ اإسرائيلب بوابتَها للولاياتِ المتحدة، وكان لأمريكا دورٌ في تمهيدِ الطريق أمامَ اإسرائيلب لتحقيقِ هدفَين رئيسيَّين، وهما: احتواء نفوذِ الصين في المنطقة، وتطويقِ إيران لتتمكن من إخضاعِها للسيطرةِ الأمريكية، فيما تسعى اإسرائيلب لإيجاد سوقٍ لأسلحتِها ومُعداتها العسكرية، وقد نجحت في ذلك حيث أصبحت الهند أكبرَ مستوردٍ للسلاحِ الإسرائيلي في العالم، وغدت سوقًا ضخمةً للشركاتِ الإسرائيلية.
من الجديرِ ذكره أنَّ العلاقات الهندية الإسرائيلية لم تقتصر على المجالِ العسكريِّ فقط، بل شملت مجالات عديدة، أهمها: المجال التكنولوجي، والأمني، والزراعي، والتجاري، ولعلَّنا نستذكرُ هنا ما قاله انتنياهوب خلالَ زيارةِ رئيس وزراء الهند عام 2017، حين قال: اعندما يتعلقُ الأمر بالعلاقات بين إسرائيل والهند، فإنَّ السماءَ هي حدودُ هذه العلاقةب.
في الواقع، كان الانقسامُ بين الفلسطينيين سببًا في انشغالهم عن متابعةِ قضيَّتِهم وحشدِ الدعمِ والمُؤازرةِ لها، وهذا ما أضعفَ مكانةَ القضيةِ الفلسطينيةِ بشكلٍ عام، ليس فقط في الهند ولكن أيضًا على المستويَين الإقليمي والدَّولي، إنَّ علينا كفلسطينيين أن نعملَ على ترتيبِ أوراقِنا السياسيةِ وإصلاحِ حال البيت الذي يجمعنا، وتوحيد أصوتِنا والعمل مع أمتِنا العربيةِ والإسلاميةِ؛ لكي يجتمعَ الشملُ و تلتقي المواقفُ ويجب أيضًا على الدول العربية أن تتخذَ خطواتٍ في هذا الصَّدد؛ لأنَّ لها تأثيرًا كبيرًا بحكمِ وجودِ ما يقاربُ من ثمانيةِ مليون هندي يعملون في دولِ الخليج، وأنَّ الحكومةَ الهندية تعتمدُ كثيرًا على التحويلات الماليةِ التي تأتيها من هذه الدُّول، وهي ورقةُ ضغطٍ يمكن توظيفها إذا ما اجتمعت كلمةُ الفلسطينيين والعرب.
إنَّ علاقةَ الهند التاريخيَّةِ مع الدولِ العربيةِ علاقةٌ براغماتية، ليس فقط لأنَّ الجاليةَ الهنديةَ المسلمةَ الكبيرة كانت رأسَ مالٍ سياسيٍّ محوري، ولكن أيضًا كانت ذات أهميةٍ استراتيجيةٍ لمتطلَّباتِ النفطِ الهندية.
إنَّ دعمَ الهندِ للقضيةِ الفلسطينية بحكمِ أنَّها من قادةِ دولِ عدم الانحياز، بالإضافةِ إلى وجود حوالي 175 مليون مسلمٍ هنديٍ، وما يمكن أن يكونَ لهم من دورٍ مؤثرٍ وفعَّالٍ إذا ما توحدت جهودُهم وأصواتُهم، فهذه اعتباراتٌ تحكمُ علاقتها مع اإسرائيلب، فنجد العديدَ من الصفقاتِ العسكرية عُقدت بينهما سِرًّا، أي أنَّ الحكومةَ الهندية تأخذ هذا بعينِ الاعتبار، وتجعلها تتعاملُ بحذرٍ مع اإسرائيلب.
إنَّ سياسةَ الشَّجبِ والتنديدِ لا تكفي لمواجهةِ أيِّ تغييرٍ تُجريه الدولُ في سياساتها ومواقفها تجاه فلسطين ولن تجدي نفعًا، إنَّ سياساتِ الدولِ قائمةٌ على حساباتِ المصالحِ واعتباراتٍ أخرى لا تبتعدُ عنها، وإنَّ علينا أن نثبتَ للعالمِ أنَّنا أصحابُ قضيةٍ وأنَّ بأيدينا أوراقَ قوةٍ يمكن أن نلعبَها لتعزيزِ مصالحها، ولكن أبجديات أوراق التأثير هي في وحدتِنا كفلسطينيين، وتعزيز شرعيةِ وجودِنا السِّياسيِّ بتسريعِ خطوات المُصالحةِ وإنهاء الانقسام وفكِّ الحصار، وتعميق ارتباطنا بأمَّتِنا العربية والإسلامية، مما سيعطى زخمًا قويًا لقضيتنا وحضورًا فاعلًا لها في المجتمع ِالدولي.
إنَّ الوجودَ الإسلاميّ الكبيرَ في الهند هو رصيدٌ لا يمكن الاستهانة به، وهو ذبلا شك- سيظلُّ يعملُ لصالحِ قضيتنا، وأنَّ وضعيةَ الضعفِ التي يمر بها مسلمو الهند الآن هي حالةٌ عارضة، والسياسةُ مسألة متقلبة وسرعان ما تتغير، وهي مرهونةٌ بالمصالح ومعظم مصالحِ الهند مرتبطة بعالمنا العربي، والذي هو ذللأسف- يمر بحالةٍ من التفككِ والضَّعفِ والهوان.