الانتخابات الهندية للعام 2019: مواقف ومسارات

د. محمد مكرم بلعاوي ..

انطلقت يوم 11 أبريل المنقضي، الانتخابات الهندية العامة بنسختها السابعة عشرة، وسيشارك فيها حوالي 900 مليون مواطن هندي، سينتخبون 543 نائباً في مجلس النواب على سبعة مراحل، يمثلون 29 ولاية، في دورة ستستمر لمدة خمس سنوات، وسيتم الإعلان عن الفائز رسمياً يوم 23 مايو، في دولة تعتمد النظام البرلماني حيث تكون القوة الحقيقية في يد رئيس الوزراء.

أهمية الانتخابات الهندية العامة

ترتبط الهند تاريخياً بالعديد من دول العالم، ولطالما لعبت دوراً مؤثراً في السياسة الدولية على مدى حضارتها التي تمتد لقرون وآلفيات عديدة، وهي تُعدّ ثاني دول العالم بعدد السكان، وهي في طريقها للحلول مكان الصين قريباً في هذا المجال، كما أنّ اقتصادها، رغم أنّه لم يبلغ أقصى قوته، يعدّ من الاقتصاديات العشر الأولى على مستوى العالم، ولذا فإنّ تأثير سياسات النخبة الحاكمة في الهند لطالما مسّت باقي دول العالم سواءً في العهود الإسلامية أو فترة الاستعمار وكذلك فترة الاستقلال، لأجل كل ذلك، تعتبر الانتخابات العامة الهندية التي تفرز رئيس وزراء الدولة التي تنهج نهج الحكم البرلماني، واحدة من أهم الانتخابات على مستوى العالم، وهي الدولة الديمقراطية الأولى بالمقارنة إلى عدد الناخبين.

لماذا الانتخابات الهندية مختلفة هذه المرة عن سابقاتها

تتميز الانتخابات الهندية هذه المرة بأهمية خاصة على المستوى الداخلي الخارجي، أمّا على المستوى الداخلي، فإنّ كثيراً من السياسيين والمراقبين يعدّون هذه الدورة الانتخابية أهم دورة في السنوات السبعين التي انقضت منذ استقلال الهند، إذ إنّهم يتوجسون خوفاً من إعادة انتخاب الحزب الحاكم، والذي يزعمون أنّه أحدث كثيراً من السياسات والقوانين التي تمسّ بعلمانية الدولة ومبدأ التعايش بين مكوّنات المجتمع والذي قامت عليه الدولة الهندية الحديثة، وأنّه في حال استكماله لمشروع القومي المتطرف فإنّه سيعمد إلى تكريس دولة الأغلبية الهندوسية، وهضم حقوق الأقليات من خلال تغيير الدستور، ما سيعني عملياً، ليس نهاية الحالة المجتمعية السائدة فحسب، ولكن نهاية الهند كما نعرفها اليوم[1]، أمّا في حالة فوز المعارضة فإنّ الهند ستحافظ على طبيعتها الديمقراطية الجامعة وهو ما سيعد مكسباً للديمقراطية في العالم.

كما أنّ هذه الانتخابات ستكون محورية في صناعة مستقبل الهند، والتي ستصبح قريباً أكثر دول العالم سكانًا، ما يعني مزيداً من الطلب على الغذاء وفرص العمل، فضلاً عن ضرورة استخراج مئات الملايين الهنود من تحت خط الفقر، كل ذلك ستحدده نتائج الانتخابات المقبلة.

أمّا على الصعيد الخارجي، فإنّ الهند تحاول اللحاق من الناحية الاقتصادية بغريمتها الآسيوية الصين، والتي باتت تمثلاً تهديداً كبيراً من وجهة النظر الهندية، وهذا أمر يحتاج إلى حكومة قوية تنهض بالبلاد وتقوم تغيير كبير في السياسة المحلية والدولية، وتقوم باستثمارات ضخمة على أكثر من صعيد.

تأثير الانتخابات الهندية على العالم العربي

للانتخابات الهندية تأثير كبير على العلاقة مع الدول العربية، خصوصاً دول الخليج، بالذات في مجال الاقتصاد، فهناك استثمارات متبادلة بعشرات المليارات، إذ يصل حجم التبادل التجاري إلى قرابة مائتي مليار دولار سنوياً، كما أنّ العمالة الهندية في هذه الدول تعدّ عصب الاقتصاد المحلي، فضلاً عن السياحة المتبادلة ومجالات الاستثمار الأخرى، كل ذلك سيتأثر سلباً أو إيجاباً بالضرورة، بسياسات الحكومة التي ستفرزها الانتخابات في الهند.

المشهد الانتخابي للعام 2019م

تجري انتخابات عام 2019م على وقع خسارات متتالية للحزب الحاكم في انتخابات الولايات التي جرت نهاية العام 2018م، وتقدم خصومه من الأحزاب المحلية وغريمه التاريخي حزب المؤتمر الوطني بزعامة راهول غاندي، والذي تشير استطلاعات الرأي أنّه قد فشل بكسب ثقة الناخبين كزعيم يمكن أن يحل محل رئيس الوزراء القوي ناريندرا مودي، ولكن مع ذلك فإنّ هذه الاستطلاعات تبيّن أنّ ناخبين يريدون معاقبة الحزب الحاكم لأسباب تتصل بسوء أدائه في الدورة السابقة، ولذا من المرجح أن تتوزع الأصوات التي سيخسرها الحزب الحاكم على الأحزاب المحلية وينال حزب المؤتمر جانباً هاماً منها أيضاً، بَيْد أنّ هناك أزمة حقيقة عند المعارضة التي لا تستطيع أن تتفق على ترشيح أحد قياديها كمنافس لمودي على منصب رئيس الوزراء.

لماذا فقد الحزب الحاكم الزخم الانتخابي

أظهرت نتائج الانتخابات الولائية التي جرت في بعض الولايات في نهاية العام 2018م تراجعاً حاداً في أداء الحزب الحاكم الانتخابي لصالح المعارضة، وهذا ما أكدته استطلاعات الرأي المحايدة والتي أظهرت هي أيضاً أن أداءه في الانتخابات العامة سيواجه صعوبات حقيقية، وفيما يلي أهم أسباب هذا التراجع:

قرارات اقتصادية غير موفقة

كان السبب الرئيسي لفقدان مودي لشعبيته قراران اقتصاديان مثيران للجدل:

أولاً: سحب الأوراق النقدية ذات القيمة العالية من التداول بشكل مفاجئ في نوفمبر/تشرين ثان 2016، وثانياً: تطبيق ضريبة السلع والخدمات في يوليو/تموز 2017.

لقد أضرت هذه القرارات بالأعمال التجارية الصغيرة والمتوسطة وعقدّت وضع الاقتصاد الهندي، وقد تلقّى هذان القراران انتقادات حادة من قبل الاقتصاديين البارزين، والأهم من ذلك أنّهما لم يلقيا الرضى من أغلبية المواطنين العاديين.

البطالة

من المتوقع كذلك أن تتسبّب البطالة المتزايدة والضغط المتصاعد على قطاع الزراعة، بحدوث بعض الصدمات الانتخابية لمودي في عام 2019، إذ ارتفع معدل البطالة مرتفع باضطراد، ووصل إلى أعلى مستوى له في 45 عامًا، بالغاً ما نسبته 6.1 % في يونيو 2018، وفقًا لتقرير حكومي تم تسريبه إلى مجلة بزنيس ستاندرد، ويشير التقرير إلى أنّ واحدًا من بين كل خمسة هنود تتراوح أعمارهم بين 15 و 29 عامًا عاطلون عن العمل.

الزراعة

تواجه الزراعة ظروفًا متزايدة الصعوبة، مع ارتفاع التكاليف وانخفاض أسعار المحاصيل، علماً بأنّ هناك ما يقدر بنحو 263 مليون مواطناً يعملون في هذا القطاع، في الهند، مما يجعلها دائرة سياسية ضخمة.

موقف الجيش في الانتخابات الهندية

مثّل الهجوم الدموي على القوات الهندية في كشمير، في شهر فبراير 2019م والتي راح ضحيته أكثر من 40 جندي هندي، علامة فارقة في علاقة الجيش مع رئيس الوزراء والحزب الحاكم، إذ بدا واضحاً للمراقبين أنّ هذه الحادثة قد وقعت في وقت مواتٍ جداً بالنسبة للحزب الحاكم، وأنّه بطبيعته اليمنية وتاريخه المعروف بالعداء لباكستان، سيوظفها كرافعة في الانتخابات والتي بات على الأبواب، خصوصاً بعد تراجع أدائه في الانتخابات الولائية التي جرت قبل أشهر قليلة من الهجوم.

ترافق مع ردود الفعل العسكرية التي قامت بها الهند حملات إعلامية ضخمة، اضطرت المعارضة إلى تأييد الحكومة في إجراءاتها ولم يُسمع سوى صوت نقد خافت من بعض النشطاء للقصور في تأمين القوات ومساءلة المسؤولين عن ذلك، وقد رفعت، بكل تأكيد، التأييد الشعبي لرئيس الوزراء وحزبه، الذي ادعى أنّه أوقع خسارات فادحة في معسكرات الإرهابيين على الجانب الباكستاني وأدّب حكومته، فيما كشفت وسائل الإعلام العالمية أنّه هذه الدعاوى لا رصيد لها من الواقع، في وقت حرصت فيه باكستان على تبريد الوضع بسرعة من خلال تسليم الطيّار الهندي الأسير الذي وقع في قبضتها عقب اسقاط طائرته، فبدأ النقد يتصاعد تدريجياً لأداء الحكومة، واستغلال الجيش من أجل تجييش العواطف الشعبية لصالحها، وهو ما أثار على ما يبدو، حتى بعض قيادات الجيش التي طالما التزمت الحيادية في موضوع السياسة الداخلية، أبرز تجليات ذلك كانت الرسالة التي نشرتها وسائل الإعلام الهندية الموقعة من قبل مجموعة من كبار الضباط المتقاعدين، ثمانية منهم رؤساء أركان سابقين وأكثر من 100 من المحاربين القدامى، والتي وجهوها إلى رئيس الدولة رام ناث كوفيند، يطالبون فيها بعدم توظيف الأحزاب السياسية للجيش سياساً، وجاء فيها المطالبة أيضاً بالمحافظة على علمانية الجيش وحياديته، وجاء في الرسالة “نناشدكم التأكد من الحفاظ على الطابع العلماني والسياسي للقوات المسلحة، وأشارت إلى ممارسات غير مقبولة قام بها القادة السياسيون بكشف الإجراءات العسكرية، ووصف القوات المسلحة بأنها “جيش مودي”.

ورغم نفي مكتب الرئيس بتلقي رسالة من هذا النوع وتنصل بعض الموقعين منها، فإنّها تطور مثير للاهتمام، لأنّها ظهرت في اليوم الأول من التصويت في انتخابات ينظر إليها إلى حد كبير على أنها استفتاء على رئيس الوزراء ناريندرا مودي[2].

مواقف القوى الدولية وتأثير ذلك المحتمل على الانتخابات

الموقف الأمريكي

هناك سببان هامان يجعلان الولايات المتحدة الأمريكية تفضّل بقاء مودي في الحكم، أهمها أنّها تعوّل كثيراً على الهند في مواجهة الصعود الصيني، ولذا فإنّها معنية بأنّ من يحكم الهند حكومة قوية تستطيع إدارة الدولة بكفاءة، وذات توجه يميني يمكنها أن تحشد الشعب خلفها تحت دعاوى وطنية، وهذا أمر لا يتوافر مع أية حكومة غير حكومة مودي، سواء شكلها حزب المؤتمر الذي يتعتبر تاريخياً حزب معارض للاستعمار رغم خلافه مع الصين، أو حكومة ائتلافية ستكون ضعيفة وغير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة في موضوع بهذا الحجم.

السبب الثاني، وهو التوافق الكبير بين رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب ذو الخلفية اليمينية ورئيس الوزراء ناريندرا مودي، ولن يجد ترامب من يتكامل معه في السياسات والتوجهات مثل مودي وخصوصاً أنّ لديه علاقة قوية جداً مع بنيامين نتنياهو، وهو أمر هام للغاية في هذا السياق.

الموقف الصيني

خلافاً للولايات المتحدة الأمريكية، فيبدو أن الصين لا تفضل بقاء اليمين في السلطة، بسبب سياسته المتصلّبة بخصوص التكامل مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، والتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية واليابان لإجهاض الصعود الصيني في قارة آسيا، ولذا فإنّه على الأرجح سيفضل حكومة أكثر براغماتية يمكنها أن تضمن الاستقرار في المنطقة وعدم استنزافها بمواجهات سواء مع الصين أو حليفها المقرب باكستان، وهو ما ينسجم مع سياسة الصين التي تقوم على ترسيخ الاستقرار كأرضية حتمية للنمو الاقتصادي.

الموقف الباكستاني

من الواضح أنّ باكستان ليست معنية اليوم بمواجهات مع الهند تستنزف وضعها الاقتصادي المتردي، وخصوصاً وأن رئيس الوزراء الجديد جعل مهمته المعلنة اصلاح الاقتصاد والارتقاء بالمستوى المعيشي للناس، وهو يشترك مع الصين في هذا التوجه، وقد انعكس ذلك في المواجهة القصيرة الأخيرة مع الهند والتي عمل على إنهائها بأقصر وقت ممكن مع توظيف الجوانب الدعائية لمصلحته، وكان رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان قد عبّر لبعض الصحفيين قبل أيام عن اعتقاده أنّ حكومة هندية يمينيّة قوية وحدها قادرة على تسوية المشكلات بين البلدين، وخصوصاً في كشمير، وهو ما يؤكده استقراء العلاقة بين البلدين في ظل حكم اليمين الهندي، أمّا إذا جاءت حكومة ائتلافية فإنّها ستكون أضعف من أن تقوم بهذا الدور، لذا فرغم عدم التوافق الأيدولوجي والسياسي بين الطرفين، فإنّ الباكستانيين اليوم قد يكونون راغبين بدعم حكومة يرأسها مودي أكثر من غيره.

الموقف الخليجي

بات من المعروف أن الموقف الخليجي قريب جداً من الموقف الأمريكي الإسرائيلي، والذي يرى في اليمين الهندي مكملاً له، ولذا فإنّ دول الخليج وخصوصاً الإمارات ستنسجم مع حكومة مودي أكثر من أية حكومة أخرى يمكن أن تأتي إلى السلطة، كما أنّ العديد من المشاريع البينية والسياسات الاقتصادية والأمنية تم توقيعها في زمنه، ويمكن أن يؤدي تغييره إلى قدر من الضرر أو عدم الاستقرار لهذه الملفات، ولذا فإنّ دول الخليج ستكون راغبة باستمرار مودي في الحكم، وخصوصاً أن البديل سيكون حكومة إتلافية-على الأرجح- وستكون أضعف من أن تتخذ سياسات جريئة في العلاقات الخارجية.

الموقف الإسرائيلي

تعد إسرائيل وبنيامين نتنياهو من أشد المؤيدين لناريندرا مودي وحكومته، وستعمل بكل ما أوتيت من علاقات ومقدرات على بقائها في الحكم وخصوصاً بعد نجاح نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية الأخرى، وهو يعوّل على تحوّل أكبر في موقف الهند تجاه القضية الفلسطينية، ومزيد من التعاون الاقتصادي والأمني والعسكري.

غرد ناريندرا مودي عشية فوز بنيامين نتنياهو بالانتخابات الإسرائيلية قائلاً: “صديقي العزيز بيبي، مبروك! أنت صديق عظيم للهند، وأتطلع إلى مواصلة العمل معكم من أجل الارتقاء بشراكتنا الثنائية إلى آفاق جديدة”. في إشارة واضحة أنّه يتوقع الاستمرار في الحكم.

السيناريوهات المحتملة

هناك العديد من السيناريوهات النظرية التي يمكن أن تطرح في سياق التنبؤ بمآلات الانتخابات العامة الهندية، منها على سبيل المثال فوز الحزب الحاكم بأغلبية مقاعد مجلس النواب، وهو بالنظر إلى الأداء السلبي للحزب الحاكم خلال الدورة السابقة، وانحدار نتائجه في الانتخابات الولائية التي أجريت في نهاية عام 2018م، وتراجع أدائه في استطلاعات الرأي، فإنّه من غير المرجح أن يحصل عدد المقاعد التي تؤهله أن يُشكّل الحكومة منفرداً، ولذا فإن هذا السيناريو غير مرجح على الإطلاق، أمّا الثاني، فهو فوز أحد أحزاب المعارضة بأكبر كتلة من المقاعد النيابية، ويبدو هذا السيناريو من خلال الاستناد على استطلاعات الرأي غير مرجح، وإن كان أداء أحزاب المعارضة سيتحسن بشكل كبير وسيؤدي ذلك إلى تآكل حصة الحزب الحاكم، ولذا فإنّنا لن نرى على الأرجح حزباً واحداً سيتفوق انتخابياً على الحزب الحاكم، حتى حزب المؤتمر الوطني الهندي الذي حكم الهند لعقود.

السيناريو الثالث هو تحالف بين الحزب الحاكم وأحزاب من المعارضة، يمكن أن يكون هذا السيناريو وارداً ولكنّه غير مرجح أيضاً، إذ أنّ أحد أهم أسباب نجاج أحزاب المعارضة هو معارضتها لسياسات الحزب الحاكم الممقوتة شعبياً، ولذا فإنّ التحالف معه سيضعه في موقف أقوى ويمكن أن يقدم بعض المكاسب لهذه الأحزاب، إلاّ أنّ سيطيح بشعبيتها ويمكن أن يؤدي إلى انشقاقات كبيرة فيها، وهو ما يُعد محاولة للانتحار، لذا فمن غير المرجح أن تنضم أحزاب معارضة كبيرة إلى الحزب الحاكم حتى لو كانت المغريات كبيرة.

السيناريو المرجح

لكن بالنظر إلى مجريات السياسة الداخلية الهندية فإننا يمكن أن نحصرها بسيناريوهات محدودة، فيبدو أن السيناريوهين الأقوى هما إمّا أن يحكم الحزب الحاكم بتحالف مع بعض الأحزاب الولائية، وهو الأرجح على ما يبدو بسبب أنّه ما زال يتمتع برصيد شعبي كبير وخصوصاً داخل قطاعات واسعة من الأغلبية الهندوسيّة، ولكن سيكون أمام تشكيل تحالف من هذا النوع صعوبات كبيرة، لأنّ غالبية الأحزاب التي انضمت إلى تحالف الحكومة سابقاً، لم تنضم لأسباب فكريّة، بل لأنّ أداء الحزب الحاكم كان كاسحاً وأرادت هذه الأحزاب أن تحقق بعض المصالح من الانضمام إليه، ولكن عندما يضعف أداؤه فإنّ مصلحة تشكيل تحالف من هذا النوع ستكون أضعف، ولذا فإنّ الأحزاب التي ستنضم إلى هذا التحالف ستطالب بمصالح أكبر وحصص أكبر في الحكومة، وهو ما سيضعف أداء الحزب الحاكم بكل تأكيد ويقوده إلى مزيد من تآكل شعبيته ومصداقيته، الأمر الذي يمكن أن يودي بفرصه بالعودة إلى الحكم في المستقبل.

السيناريو القوي الثاني وهو الأقل ترجيحاً بينهما، وهو أن يحكم تحالف المعارضة ما يعني أنّ الهدف من الانتخابات سيتلخص بمعاقبة الحزب الحاكم على إخفاقاته أثناء فترة حكمه، وليس وضع ثقة الناخبين في زعامة يمكن أن تقود البلاد نحو وضع أفضل، بالطبع يمكن للمعارضة أن تفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب، ولكن ليس من المضمون أن تشكّل تحالفاً حاكماً، وخصوصاً أنّ شعبية راهول غاندي رئيس حزب المؤتمر، وهو أكبر أحزاب المعارضة وأعرقها، في استطلاعات الرأي متدنيّة للغاية، وهذا يفسر سبب عدم تسمية المعارضة لمرشح لرئاسة الوزراء مقابل ناريندرا مودي، وكما أنّ أداء هذه الأحزاب أثناء فترة الإعداد للانتخابات وخلافاتها الكبيرة على تقاسم الدوائر، ينبؤ بخلافات أكبر على السلطة في حالة الفوز، وهي إن استطاعت أن تشكل الحكومة، فإنّها ستكون حكومة ضعيفة تتحكم بها مجموعة كبيرة من الأحزاب التي لها مصالحها المتعددة والمتعارضة أحياناً أمام حزب معارض قوي لها أيدولوجية صلبة وكوادر مخلصين ذوو تأهيل سياسي وتنظيمي عال، الأمر الذي لن يمكنها من تقديم إنجازات حقيقية وقد لا تستطيع إكمال دورتها كاملة واللجوء إلى انتخابات مبكرة، وخصوصاً إذا كان وصول المعارضة إلى الحكم قد تمّ بإرادة وترتيب حزب بهراتيا جانتا، على أمل أن تكون فترة حكم تحالف المعارضة بالغة السوء، فيضطر الناخبون إلى العودة إلى تأييده في الدورة الانتخابية القادمة.

في أي من هذين الاحتمالين فإنّ البلاد مقدمة، على الأرجح، على فترة من الاضطراب السياسي بسبب اضطرار كلا الفريقين، إن وصل إلى الحكم، إلى اللجوء إلى التحالف مع الأحزاب الصغيرة، والتي ستضعف الحكومة بطلباتها وتنازعها، ولن تمكنها من اتخاذ خطوات جريئة في أي من الملفات الهامة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ومحاولة المعارضة التي ستكون قوية، تعطيل الطرف الحاكم واثبات أنّه لا يستحق موقعه في الحكومة.

توصيات

يمكن تقديم بعض التوصيات المتصلة بالانتخابات بنتائجها المتوقعة إلى القوى العربية والإسلامية التي لها علاقة بالهند، أهمها ما يأتي:

أولاً: عدم الإعلان عن انحياز لأي من الفرقاء السياسيين، لأنّ ذلك لن يسهم سوى في إضعاف الطرف المرغوب وبنفس الوقت استعداء لخصومه، وخصوصاً في حالة فوزهم.

ثانياً: التأنّي باتخاذات أية مبادرات اقتصادية أو سياسيّة تجاه الهند ودراستها مطولاً، لأنّ هامش المخاطرة في المرحلة القادمة، على الأرجح، سيكون أكبر.

ثالثاً: عدم توقع أي تغير جوهري بالسياسة الخارجية الهندية، بغض النظر عمّن سيحكم في الفترة المقبلة.

الخلاصة

ستقود الانتخابات الهندية الحالية، إلى حكومة تمارس أعمالها في وضع قلق بسبب اضطرارها إلى نسج تحالفات مع الأحزاب الصغيرة، الأمر الذي من المرجح أن يترك أثراً سلبياً على الاستقرار السياسي والاقتصادي في المرحلة القادمة، وتصعف قدرتها على عمل اخترقات ذات بال في مجال علاقاتها الدولية، بغض النظر عمّن يحكم البلاد

الانتخابات الهندية 2019: الفواعل والإجراءات

د. محمد مكرم بلعاوي ..

كيف تجري الانتخابات:

بدأت الانتخابات الهندية العامة الحالية في نسختها السابعة عشرة، في 11 أبريل لانتخاب مجلس النواب (لوك سابها) في البرلمان الهندي والذي يتكون من مجلسين، لدورة مدتها خمس سنوات، يصل عدد الناخبين في الانتخابات العامة للعام الحالي 2019م، ما يقرب من 900 مليون مواطن، لذا فإنّه يُطلق على الهند لقب أكبر ديمقراطية في العالم، علماً بأنّ أول انتخابات لـمجلس النواب كانت قد أُجريت في عام 1951.

ستتم الانتخابات على سبع مراحل حتى 19 مايو، وستجرى عملية الفرز في 23 أيار (مايو) ويتم الإعلان عنها في نفس اليوم[1]، يعزي سبب تقسيم عملية الاقتراع إلى سبع مراحل وامتدادها أكثر من خمسة أسابيع، إلى صعوبة تأمينها بسبب عدم الاعتماد على قوى الأمن المحلية والتي ينظر إليها عادة على أنّها غير محايدة واعتماد قوة مركزية تضطر إلى تأمين المناطق الانتخابية بالتناوب، وكذلك إلى حجمها الكبير.

أرقام هامة:

يوجد في الهند 29 ولاية، لديها حكومات ولايات منتخبة بعد كل خمس سنوات، باستثناء جامو وكشمير التي لها ولاية مدتها ست سنوات، و7 أقاليم واحدة منها تحكمها الحكومة المركزية مباشرة، وبعض هذه الولايات تتوافق انتخابات مجالسها التشريعية مع الانتخابات العامة هذه المرة، وهي كل من ولايات أندرا براديش، أرونشال براديش، أوديسا وسيكّيم، أمّا عدد الدوائر الانتخابية هو 543 تمثّل كل المقاعد المتاح التنافس عليها، وسيكون هناك 1035918 مركز اقتراع، إذ تنص القواعد الانتخابية في الهند على أنه يجب أن يكون هناك مكان اقتراع على بعد كيلومترين من كل منطقة سكن، يمكن للناخبين التصويت في أغلبها بطريقة الاقتراع الإلكتروني.

وفقًا لمفوضية الانتخابات الهندية (ECI)، فإنّ عدد الناخبين في انتخابات العام الحالي 2019م ستكون حوالي 900 مليون ناخب، بزيادة مقدارها أكثر من 84 مليون ناخب منذ الانتخابات الأخيرة في عام 2014م، منهم حوالي 468 مليون من الرجال و423 مليون من النساء والباقي غير معرّف الجنس، علماً بأنّ سن الانتخاب هو 18 عامًا، من ضمنهم 15 مليون ناخب في الفئة العمرية من 18 إلى 19 سنة، عدد الناخبين المسجلين في بلدان الاغتراب هو 71735 شخص.

عدد الأحزاب والمرشحين:

تشير بيانات مفوضية الانتخابات الهندية، كذلك إلى أنّ لديها ما مجموعه 2،293 من الأحزاب السياسية المسجلة للعام 2019م، أمّا في انتخابات لوك سابها لعام 2014، فقد بلغت نسبة التصويت أكثر من ثلثي مجموع الناخبين، بينما بلغ عدد المرشحين 8251 مرشحًا يمثلون 464 حزبًا فيما تم الاعتراف بما مجموعه 1841 حزبًا في الهند، وفاز 35 حزبًا منها بتمثيل في مجلس النواب.

الأحزاب الوطنية:

سبعة أحزاب منها فقط لديها قاعدة من المؤيدين عبر ولايات مختلفة، ويطلق عليها الأحزاب الوطنية، أمّا الأخرى فهي محليّة، يصبح الحزب السياسي مؤهلاً للاعتراف به من قبل مفوضية الانتخابات الهندية، كحزب وطني إذا فاز بـ 2 في المائة من المقاعد في مجلس النواب، من ثلاث ولايات مختلفة على الأقل في الانتخابات العامة الأخيرة؛ أو إلى الفوز بأربعة مقاعد في مجلس النواب بالإضافة الحصول على 6 في المائة من إجمالي الأصوات في أربع ولايات على الأقل في انتخابات مجلس النواب أو المجالس التشريعية الولائية؛ أو تم الاعتراف به كحزب ولائي في أربع ولايات على الأقل.

يضمن هذا التصنيف أن تحصل هذه الأحزاب على مجموعة من الميزات منها الحصول على أبنية خاصة بها من الحكومة، وتسهيلات خاصة لمجموعة من مرشحيها، وأهم من ذلك أن تكون رموز الأحزاب الوطنية لها حصراً في عموم الهند وأن تكون موجودة على آلات الاقتراع في كل الدوائر الانتخابية.[2]

أما الأحزاب السبعة فهي كل من الأحزاب التالية:

حزب المؤتمر الوطني الهندي (Congress-I) برئاسة راهول غاندي

حزب الشعب الهندي (بهراتيا جانتا بارتي BJP) برئاسة ناريندرا مودي

حزب الشيوعي الهندي CPI برئاسة سورافارام سودهاكر ريدي

حزب أغلبية الشعب BSP برئاسة كوماري ماواتي

حزب الشيوعي الماركسي الهندي CPI-M برئاسة سيتارام يتشوري

حزب مؤتمر تراينموول لعموم الهند (All India Trinamool Congress) برئاسة ماماتا بينارجي.

حزب المؤتمر الوطني NCP شاراد باوار

أهم الولايات التي ستحدد مصير الفائز:

تُعدّ ولاية أوتار براديش (UP) ساحة المواجهة الرئيسة في الانتخابات الهندية، وهي التي تحدّد غالباً نتيجة الانتخابات العامة، إذ إنّها الولاية الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الهند، حيث يبلغ عدد سكانها حوالي 200 مليون نسمة، ويحلو للبعض القول بإنّ هذه الولاية الشمالية المجاورة للعاصمة دلهي لو كانت دولة، فستكون خامس أكبر دولة في العالم، تستحوذ هذه الولاية على 80 مقعدًا في مجلس النواب، أي حوالي سُدس المقاعد، ممّا يجعلها حاسمة في تشكيل أية حكومة هندية.

يلي ولاية أوتارا براديش من ناحية الحجم والتأثير، ولاية ماهاراشترا والتي تقع في وسط غرب الهند، وتحوز على 48 مقعدًا في مجلس النواب، ثم ولاية البنغال الغربية في أقصى شرق الهند ولديها 42 مقعداً، يتبعها ولاية بيهار في الشمال، وهي ممثلة بـ 40 مقعداً، أمّا في جنوب الهند فولاية تاميل نادو هي أكبر ولايات الجنوب، ولها 39 مقعدًا.

فئات الناخبين المؤثرة:

النساء:

تشكل النساء شريحة كبيرة من الناخبين في الانتخابات الهندية، إذ يشكّلن حوالي 48 بالمائة من الناخبين المسجلين، ولكنّهن لا يشغلن سوى 11 بالمائة فقط من المقاعد في مجلس النواب، ولذا فإنّ على المرشحين والأحزاب المتنافسة أن تحسن مخاطبة هذه الشريحة الهامة، وتعالج مشاكلها التي من أهمها، الزواج القسري، والعمل القسري، والاغتصاب الجماعي والذي أصبح ظاهرة مقلقة للمجتمع الهندي وخصوصاً النساء، وضعف التمكين الاجتماعي والسياسي، ولا شك أنّ الذي ينجح بإقناع هذه الشريحة من الاصطفاف إلى جانبه ستكون حظوظه بالفوز كبيرة للغاية.

الشباب:

يعتبر الشعب الهندي شعباً فتيّاً إذ أنّ أكثر من 50% من سكان الهند تحت سن 25 سنة، وأكثر من 65% تحت سن 35 سنة، علماً بأنّ تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أنّ الهند ستتجاوز الصين بعدد سكان بحلول عام 2024، ولعل من أكبر التحديات التي ستواجه الحكومة في مجال التعاطي مع هذه الحقائق هي الحاجة إلى خلق فرص العمل لهذه الأعداد الكبيرة من الشباب، خصوصاً إذا علمنا أنّه خلال الثلاثين عامًا القادمة، سيدخل أكثر من 200 مليون هندي كلهم من الشباب إلى سوق العمل، مما يزيد الضغط على الاقتصاد الذي يواجه بالفعل بطالة قياسية.[3]

تشير الدراسات أنّ البطالة تعتبر الهم الأهم في أذهان الناخبين، إذ رغم توفر فرص عمل في مجالات العمل غير المهني فإنّ هناك مشكلة حقيقية في توفر فرص عمل في القطاعات المهنية وخصوصاً للمتعلمين تعليماً عالياً، رغم غياب التقارير الحكوميّة، يُعتقد أنّ البطالة قد وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ 45 عامًا، فتشير بعض التقارير إلى وجود حوالي 23 مليون شخص عاطل عن العمل في البلاد، وأكثر من ثلثهم لديهم مستويات عليا من التعليم، أيّ أنّ ما يقرب من واحد من كل ستة هنود من ذوي التعليم العالي عاطلون عن العمل.

ويمكننا تصور كيف أنّ من سيكسب ثقة هذه الشريحة التي تُعد بمئات الملايين، ويقنعها على قدرته بتوفير الوظائف المناسبة، سيكتسب الأفضلية في الانتخابات الهندية.

المزارعون:

رغم ضخامة المدن والمراكز الحضرية الهندية والتي يُعد سكانها بمئات الملايين من السكان إلاّ أنّ معظم الهنود، في الحقيقة، ما زالوا يعيشون في المناطق الريفية، إذ يشكل سكان الريف في الهند أكثر من 70 في المائة من السكان، علماً بأنّ أكثر من 60 في المئة من الأصوات التي حصل عليها الحزب الحاكم في انتخابات عام 2014، قد وردت من الناخبين في المناطق الريفية.

يبدو أنّ شعبية الحزب الحاكم قد تراجعت بحدة في شريحة المزارعين، والتي يصل عددها إلى 260 مليون هندي، وذلك لتزايد الضغط الاقتصادي الشديد الناجم عن الجفاف الشديد ووقوع أعداد كبيرة من المزارعين تحت وطأة الديون، وعدم قدرتهم على توفير لقمة العيش، وعدم قدرة الحكومة على إخراج قطاع الزراعة حالة من الركود التي مرت بها، وهو ما يمكن أن يصب في خانة المعارضة ويؤثر بشدة على فرص الحزب الحاكم بالعودة إلى الحكم.

الأقليات:

من أهم الأقليات في الهند طبقة المهمشين المسماة بالداليت، وهي تشكل حوالي 15%-20% من السكان، وهم يقبعون في أسفل السلم الاجتماعي في الهندوسيّة، ورغم ادعاء الحزب الحاكم الوقوف إلى جانبهم فإنّ العديد منهم يشعرون بالقلق إزاء عدد مرات استهدافهم بجرائم الكراهية.

استطاع الحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة عام 2014م، الحصول على حوالي 24 في المائة من أصوات الداليت مستنداً إلى ترقية وضع هذه الأقلية ولكن يبدو أنّ الوعود التي لم تتحقق ستكون سبباً أساسيّاً بإحجام فئات واسعة من هذه الطبقة الاجتماعية عن دعم الحزب الحاكم وصب أصواتها في أحزاب محلية يقودها زعماء من الطائفة وهو ما سيعد خسارة كبيرة له.

المسلمون:

عبّر زعماء مسلمون عديدون خلال الفترة الماضية عن خيبتهم أملهم في الأحزاب السياسيّة التي همشتهم وأضرت بمصالحهم، وكان منهم سيد أحمد بخاري، إمام المسجد الجامع في دلهي والذي يعتبر أحد أهم المرجعيات الدينية في الهند، إذ قال مؤخراً في بيان له، إنّ على المسلمين أنّ يضعوا في اعتبارهم أنّ “جميع الأحزاب السياسية تقريبًا قد خيبت آمالهم”[4]، في إشارة إلى تخليه عن دعم الأحزاب السياسية الكبرى وخصوصاً حزب المؤتمر الوطني والذي كان عادة ما يحصل على أغلبية أصوات المسلمين.

ومما يثير كثيراً من الأسى في أنفس المسلمين أنّ نسبتهم حسب التقديرات هي بين 15% من السكان، ولكن نسبتهم في مجلس النواب الماضي كانت فقط 4.2 في المائة، أي 23 من أصل 543 عضواً، رغم شعور مسلمي الهند بالتهميش والإقصاء فإنّهم ما زالوا رقماً مهماً في الانتخابات الهندية، إذ أنّ عددهم يقدّر بحوالي 200 مليون نسمة، نتيجة لتبني الحزب الحاكم أيدولوجية يمينية قائمة على تبني خطاب هندوسي، فإنّ المسلمين الذين يشعرون أن هذا الخطاب قد أضر بهم، سيصوتون، على الأرجح، للأحزاب المحلية أو لحزب المؤتمر الوطني برئاسة راهول غاندي، ولكن نتيجة للمشاعر الطائفية السائدة اليوم في الهند، فإنّ هذا الحزب لا يريد أن يخسر الأغلبية الهندوسيّة بظهوره حزباً للمسلمين[5].

انتخابات مجلس الشيوخ (راجيا سبها):

ينقسم مجلس الشعب الهندي إلى مجلس كما سبق وذكرنا، أحدهما هو مجلس النواب (لوك سبها)، والآخر وهو مجلس الشيوخ أو الأعيان، وهو أقل تأثيراً وعدداً، إذ يبلغ عدد مقاعده 245 مقعداً، يتم انتخاب أعضائه بطريقة هجينة وفق معادلة تجمع بين فائض الأصوات في الانتخابات الولائية وتفضيلات أعضاء مجلس النواب[6].

كيف تجري الانتخابات؟

توقفت عملية الاقتراع الورقي في الهند منذ زمن بسبب كمية الأوراق الهائلة التي يجب إحصاءها، ويقوم الناخبون بالاقتراح الحر المباشر بوضع حبر خاص على الأصبع السبابة، ويجب على الناخب الضغط على زر يحمل الرمز الانتخابي للحزب السياسي الذي يختاره على آلات التصويت الإلكترونية والتي تعرف اختصاراً، بـ EVM، لكن أحزاب المعارضة وجهات مدنية احتجت على استخدامها بدعوى إساءة استخدامها، وسهولة التلاعب بها.

الأحزاب السياسية الكبرى:

حزب الشعب الهندي (بهاراتيا جاناتا):

أهم أحزب الهند اليوم هو حزب الشعب الهندي (بهاراتيا جاناتا) اليميني القومي الحاكم، المعروف اختصاراً بـ BJP هو أكبر المتنافسين في الانتخابات، حيث يسعى رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي لولاية ثانية، وقد شكّل حكومة ائتلافية في عام 2014، بعد فوزه بـ 284 مقعدًا في الانتخابات العامة، مع حلفائه الذين حصلوا على 54 مقعدًا.

حزب المؤتمر الوطني الهندي:

خسر حزب المؤتمر الوطني الهندي أعرق الأحزاب الهندية، الذي يتزعمه حالياً راهول غاندي، السلطة عام 2014، ولكنّه أعاد بعض الاعتبار لنفسه بعد فوزه في نهاية العام الماضي، بثلاثة انتخابات ولائية، ولذا فإنّه يأمل أن تكون له فرصة حقيقية للعودة إلى السلطة في هذه الانتخابات ولو بالتحالف مع قوى أخرى، غير أن قوى المعارضة ما زالت لم تقدم مرشحها لرئاسة الوزراء.

قادة الأحزاب الكبرى:

رئيس الوزراء ناريندرا مودي

رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي، شخصية قوية ذات حضور جماهيري قوي، ولا يوجد لدى قوى المعارضة من ينافسه في هذا المجال حتى الساعة، وهو أستاذ في التعامل مع وسائط التواصل الاجتماعية ويفضل التواصل مباشرة مع الناخبين، بما في ذلك عبر تطبيق الهاتف الذكي الخاص به، لم يعقد مودي مؤتمراً صحفياً واحداً أثناء تواجده في منصبه، وقد واجه الصحفيون الناقدون للحكومة ضغوطاً متزايدة، أثناء فترة حكمه، وتفيد التقارير أنّ أعمال العنف من قبل الجماعات الهندوسية المتطرفة قد ارتفعت خلال فترة ولايته[7].

زعيم المعارضة راهول غاندي

يأتي راهول غاندي زعيم حزب المؤتمر، من عائلة سياسية بامتياز حكمت الهند لعقود فهو ابن رئيس الوزراء السابق راجيف غاندي وحفيد رئيسة الوزراء السابقة أنديرا غاندي التي بدورها ابنة أول رئيس وزراء للهند جواهر لال نهرو، ولكنّه يعد شخصية غير شعبية في الهند بسبب النظر إليه على أنّه شاب مترف، ووالدته من أصول إيطالية، ولكنّه رغم ذلك قد أظهر خلال الفترة الماضية قابلية متصاعدة لتبوء الأدوار السياسية المهمة ومخاطبة الجماهير، ولكنّه بكل تأكيد ما زال غير قادر على مجاراة خصمه، الذي تعطيه استطلاعات الرأي أفضلية كبيرة في هذا المجال.

البرامج الانتخابية

حزب الشعب الهندي (بهاراتيا جاناتا بارتي)

  • اتخذ حزب بهاراتيا جاناتا شعار “الهند المُصممة .. الهند المُمَكّنة”، لحشد الجماهير وقطع على نفسه في بيانه الانتخابي أن يحقق 75 وعدًا، حتى عام 2022م والذي يصادف الذكرى 75 لاستقلال الهند إن تم إعادة انتخابه للسلطة، كما وعد بأن يزيل الحقوق الخاصة التي استمرت لعقود لسكان جامو وكشمير الخاضعين لإدارة الهند، من الدستور واعتبرها عقبة أمام الوحدة الوطنية.

حزب المؤتمر الوطني الهندي

أما حزب المؤتمر الوطني الهندي فقد ركز بيانه الانتخابي على الأزمة الزراعية والبطالة، إلى جانب ضمان تمرير مشروع قانون حماية المرأة في البرلمان وتخصيص أموال مزدوجة للتعليم، بالإضافة إلى إلغاء “قانون التمرد” المثير للجدل من الدستور الهندي، إلى جانب إحداث إصلاحات في ملكية المؤسسات الإعلامية الكبيرة، ولعل واحد من أهم وعوده وضع خطة لاعتماد “الحد الأدنى من الأجور”، والتي ستشمل حوالي 20٪ من الأسر الهندية.

تحالف مهاغثبندان (Mahagathbandhan)

هي كلمة هندية تعني “التحالف الكبير”، أطلق على تجمع لأحزاب المعارضة التي تعتقد بأنّها إذا حصلت على عدد كاف من المقاعد، فيمكنها بتوحيد صفوفها يمكنها إسقاط رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزب بهاراتيا جاناتا، والتي من بينها حزب المؤتمر، ومؤتمر تريناموول، وحزب الإنسان العادي، وحزب سامجوادي، ممّا جعل الكثيرين يعتقدون أنّ هذا التحالف يمكن أن ينجح بمهمته.

تحديات أمام إجراء الانتخابات وسلبياتها

تكلفة الانتخابات

قد تكون انتخابات الهند العامة للعام 2019، أكثر انتخابات في العام كلفة على الإطلاق، ففي انتخابات الدورة السابقة لعام 2014، أنفقت الأحزاب أكثر من 5 مليارات دولار، والمتوقع أن يرتفع هذا العام، ليتفوق على الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونجرس لعام 2016 في الولايات المتحدة، التي أُنفق فيها حوالي 6.5 مليار دولار، ومع أنّ الحد الأقصى المسموح به نظرياً هو مليون دولار للمرشح، إلاّ أن المبالغ التي يتم صرفها خارج نطاق القانون أكبر من ذلك بكثير، مما يجعل خوض الانتخابات عملية مكلفة جداً لا يستطيعها سوى الأغنياء، أو الذين رهنوا أنفسهم لأصحاب الثروات من رجال أعمال وإقطاعيين، وهذا ما يجعل الكثيرين يشككون في قدرة انتخابات من هذا النوع على تمثيل جماهير الشعب العريضة التي تعاني من مشكلات تختلف كثيراً عما تعرفه هذه الطبقة العليا من السياسيين.

كبر الحجم

لا شك أنّ اتساع الهند وكثرة دوائرها الانتخابات وعدد الناخبين الذي يصل إلى 900 مليون ناخب يجعل إدارة هذه الانتخابات عملية بالغة التعقيد والصعوبة، يكفي لإدراك ذلك النظر إلى انتخابات عام 2014، حيث كان هناك 913,000 مركز اقتراع، و1,3 مليون آلة تصويت إلكترونية مزودة بأكثر من 4 ملايين من موظفي الانتخابات وأكثر من مليوني ضابط شرطة يشرفون على الأمن، وكانت أكبر دائرة الانتخابية 3 ملايين شخص، أمّا الانتخابات الحالية فسيدلي الناخبون بأصواتهم في حوالي مليون مركز اقتراع، وسيشارك بإدارتها أكثر من 11 مليون موظف، كما أنّ القوانين الانتخابية في الهند تضمن حق المشاركة للجميع حتى أولئك الذين يعيشون في المناطق النائية، فاشترطت على توافر مكان اقتراع على بعد كيلومترين كحد أقصى عن أقرب تجمع سكني.

النزاهة

يعتبر ضمان نزاهة الانتخابات من أهم التحديات التي تواجه انتخابات ضخمة كالانتخابات الهندية وذات استقطاب سياسي وطائفي عالٍ، ولعل أبرز الانتقادات التي تساق في هذا المجال تنصب على مجالات ثلاثة، وهي:

إدارة الانتخابات

معلوم أن من أهم التحديات أمام أية انتخابات هو حيادية أجهزة الأمن والمشرفين على العملية الانتخابية، ولضمان أعلى مستوى من نزاهة الانتخابات في الهند، فقد تم استبعاد الشرطة والإدارات المحلية من الإشراف على الانتخابات، وإعطاء هذه المهمة إلى الشرطة المركزية، وهذا من الأسباب التي دعت إلى تقسيم العملية الانتخابية إلى سبع مراحل وتمتد إلى خمسة أسابيع، وذلك حتى تتمكن الجهات المسؤولة من أداء واجبها في جميع أرجاء الهند.

آلات تصويت الإلكترونية

من أهم الانتقادات التي توجه اليوم إلى نزاهة الانتخابات في الهند، هو اعتمادها على آلات التصويت الإلكتروني، ويجادل الناقدون أن هذا النوع من التصويت، قابل للتلاعب به والتأثير عليه من خلال اختراق أنظمة وبرامج هذه المنظومة، ويستشهدون بما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، والجدل الدائر حولها.

استخدام المال وشراء الأصوات

أشرنا سابقاً إلى أن تكلفة الانتخابات العالية تجعل الانتخابات لعبة الأغنياء وتستبعد الفقراء وهم أغلبية الشعب، ولكن يضاف إلى ذلك الاستخدام السياسي للمال من خلال شراء أصوات الناخبين، والتأثير على الإعلام ومؤسسات قياس الرأي، وتقديم الرشاوى للموظفين ورجال الأمن، وأساليب لا حصر لها يمكن توظيفها للفوز بالانتخابات، ولا شك أنّ هذا النوع من التلاعب له أثر كبير في بلد ما زالت فئات كبيرة من مجتمعه تعيش تحت خط الفقر

المصدر/ المعهد المصري للدراسات

الهند وباكستان: ما بعد مواجهة فبراير 2019

د. محمد مكرم بلعاوي ..

أعادت المواجهة العسكرية الأخيرة بين الهند وباكستان، كشمير إلى واجهة الأحداث، ولفهم ما يدور اليوم من أحداث على الأرض، سنحاول تسليط الضوء على الخلفية التاريخية للصراع، ومكامن أهمية المنطقة وأثره على الصراع بين الطرفين ومحاولين التنبؤ بمآلات هذه المواجهة وتأثيرها على القضية الكشميرية.

خلفية تاريخية

يمتد الصراع بين الهند وباكستان على كشمير إلى فترة انفصال البلدين وذلك عام 1947م، حيث كانت منطقة كشمير” الاستراتيجية والتي يشترك اليوم فيها ثلاثة بلدان الهند (وعندها الحصة الأكبر) وباكستان ثم الصين في جزء صغير. من أجل كل هذه الاعتبارات، جعلتها موضع تنازع بين الطرفين، كما ذكرنا في بداية حالة الانفصال كان يفترض أن تنضم الولايات ذات الأغلبية المسلمة إلى باكستان الوليدة، والولايات التي غالبيتها من الهندوس تنضم إلى الهند.

برزت بعض الحالات الإشكالية أثناء التقسيم، ففي بعض الحالات حدث أن يكون الحاكم مسلم والغالبية من الهندوس أو العكس، الولاية يرأسها هندوسي والأغلبية من المسلمين، في حالة كشمير كانت الغالبية من المسلمين والحاكم هندوسي، فحصل خلاف نتيجة لذلك إلى أي البلدين تنضم.

وبمبادرة ذاتية من حاكم الولاية حينها، قام بتوقيع اتفاقية مع حكومة الهند ينضم بموجبه الإقليم إلى الهند دون أخذ موافقة السكان على ذلك، فبادرت الهند ووضعت يدها بالقوة العسكرية على كشمير، كما فعلت في ولايات أخرى مشابهة، فنشأت حرب بين الهند وباكستان، كان من نتائجها ذهاب ثلث الولاية تقريباً مع باكستان، وتطلق عليها اليوم بالمصطلح الباكستاني “آزاد كشمير” وتعني كشمير الحرة، وأمّا القسم المتبقي مع الهند فيطلق عليه في باكستان “مقبوضة كشمير” وتعني كشمير المحتلة، وبالمقابل ففي الهند، تُعد المنطقة التي مع باكستان محتلة والمنطقة التي مع الهند حرة، سبّب هذا الوضع حساسية كبيرة جداً بين الطرفين.

كشمير هي المنطقة الجغرافية التي في أقصى شمال شبه القارة الهندية. كان مصطلح “كشمير” حتى منتصف القرن التاسع عشر، يشير فقط إلى وادي كشمير بين جبال الهيمالايا الكبرى وسلسلة جبال بير بانجال، واليوم، تشير إلى منطقة أكبر تشمل إقليم جامو وكشمير الخاضع لإدارة الهند (والذي يضم مقاطعات جامو ووادي كشمير ولدّاخ) والأراضي الباكستانية آزاد كشمير وجيلجيت بالتستان والأراضي التي تديرها الصين، من أكساي تشين و وممر عبر-كوراكورام (Trans-Karakoram Tract) .

أصبحت منطقة كشمير في النصف الأول من الألفية الأولى، مركزًا هامًا للهندوسية ولاحقاً للبوذية، وفي وقت لاحق، ولدت في كشمير ديانة شيفا في القرن التاسع والتي انتشرت في أنحاء الهند حتى قدوم الفتح الإسلامي. في عام 1339، أصبح شاه مير (شمس الدين شاه مير 1339-1342م) أول حاكم مسلم لكشمير، مؤسساً سلالة شاه مير الحاكمة والتي بقيت في الحكم حتى عام 1561م، حتى انتهت تحت ضربات المغول المسلمين والذين سيطروا على شمال الهند بأسره.

أصحبت كشمير جزءاً من الإمبراطورية المغولية منذ عام 1586 إلى 1751م، ثم خضعت لحكم إمبراطورية دوراني الأفغانية حتى عام 1820م. في ذلك العام، ضمّ السيخ، تحت حكم رانجيت سينغ، كشمير. بعد هزيمة السيخ في الحرب الأنجلو- سيخية الأولى في عام 1846، اشترى أصبح حاكم جامو، غولاب سينغ، المنطقة من البريطانيين بموجب معاهدة أمريتسار، وصار الحاكم الجديد لكشمير، واستمر الحكم في أحفاده، تحت سلطة التاج البريطاني، حتى تقسيم الهند في عام 1947، عندما ادعت كل من باكستان والهند تبعية الولاية لها.

دخلت منطقة جامو وكشمير الكبرى في نزاع إقليمي بين الهند وباكستان والصين منذ عام 1947، حيث تسيطر الهند على حوالي 43٪ من مساحة الأراضي في المنطقة و70٪ من سكانها، وتسيطر باكستان على 37٪ تقريبًا من الأرض، في حين تسيطر الصين على 20٪ المتبقية. وتعتبر كشمير أكثر المناطق عسكرة في العالم، حيث شهدت المنطقة ثلاث حروب كبيرة بين الهند وباكستان، وحرباً محدودة أخرى بين الهند والصين، ومناوشات عديدة على الحدود، وحرباً في أعالي الجبال، وتمرداً مستمراً، ونزوحاً هندوسياً، واضطرابات مدنية داخلية.[1]

أهمية كشمير الاستراتيجية

ربما كان أهم أسباب استعصاء مشكلة كشمير على الحل نابعة بالأساس من أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للبلدان المحيطة بها، فهي:

أولاً: تطل كشمير على كل من الهند وباكستان نتيجة لعلو موقعها، ولذا فإنّها تُعطي أفضلية استراتيجية لمن يحكمها، وتجعل قدرته على مواجهة الطرف الآخر أكثر فعالية.

ثانياً: تعتبر كشمير المصدر الأساس للمياه في المنطقة، إذ ينبع منها غالبية أنهار باكستان وجزء مهم من أنهار الهند، وسيكون من المستحيل بالنسبة لباكستان الاستمرار إذا انقطعت مياه كشمير عنها، وستواجه الهند أزمة حقيقية إن تأثر إمداد المياه القادم إليها من كشمير.

في هذا المجال، تم توقيع معاهدة مياه نهر السند (IWT) في عام 1960م، وخصّصت الأنهار الثلاثة الشرقية – رافي وبياس وسوتليج – من حوض نهر السند للهند، في حين تم تخصيص 80٪ من الأحواض الغربية الثلاثة – إندوس وجيلوم وتشيناب – لباكستان، وتقول الهند إنّها لم تستغل سوى نسبة 20٪ من المياه الممنوحة لها في الأنهار الغربية الثلاثة، بينما تشكك باكستان في هذا.

ثالثاً: تزخر بالكثير من الثروات الطبيعية، مثل الغابات والمعادن، وهي تُعد كنزاً حقيقياً في هذا المجال.

رابعاً: أنها في موقع يتحكم بتقاطع طرقات في بقعة حساسة من آسيا، إذ أنّ هذه المنطقة الاستراتيجية التي كانت جزءاً أساسياً من طريق الحرير، الذي يمتد من كاشغر في شمال غرب الصين إلى كشمير ومنها إلى باقي آسيا.

خامساً: تعد كشمير من أجمل بقاع الأرض ويطلق عليها لقب “جنة الله في الأرض”، وهي تستقطب عدداً كبيراً من السياح في كل عام وتُعد مصدراً هاماً للاقتصاد من هذا الجانب.

مواقف الشعب الكشميري من النزاع على الإقليم

كانت هناك دائماً ثلاثة مواقف للشعب الكشميري من قضيتهم، غالبية الشعب يريد أن يقرّر مصيره بنفسه، سواء بالاستقلال بشكل تام أو بالانضمام إلى باكستان أو الهند، وهو الأمر الذي منحته له قرارات الأمم المتحدة، لكن دون أن يجد طريقه إلى التطبيق حتى اليوم، وجزء من المتنفذين والسياسيين يرى مصلحته مع الهند فيود البقاء معها، وجزء آخر من السكان يعتقد أن الوضع الطبيعي يكمن بانضمام كشمير إلى باكستان.

حلّت المعاناة نتيجة للتنازع على الإقليم بالشعب الكشميري، إذ أصبح اليوم شعباً مجزّأ ما بين باكستان والهند، فانقطعت أواصر القربى والتبادل الثقافي والتجاري بين أبناء الشعب الواحد، ما أوجد مأساة حقيقة مستمرة لهذا الشعب، بالإضافة الى أنّ الخلاف على كشمير أدى إلى قطيعة بين البلدين وهو ما أثّر سلباً، بالمقام الأول، على المسلمين فيهما وهم بالأساس شعب واحد، فقاد أدى إلى انقطاع أواصر القربى بين الباكستانيين المسلمين والهنود المسلمين، وصعّب كذلك التبادل التجاري بين البلدين الكبيرين المتجاورين وعطّل عملياً الممرات البرية، الأمر الذي له أسوء الأثر على النمو الاقتصادي والتجارة في منطقة جنوب آسيا.

الصراع وسباق التسلح وأضراره على البلدين

تدرك الهند من طرفها، أنّ غالبية الشعب الكشميري لو خُيّر فإنه سيختار، على الأرجح، الانضمام إلى باكستان، وهذا سيشكل ضرراً كبير جداً بالنسبة للهند من الناحية الاستراتيجية، كما أنّه يمكن أن يشجّع أقليات هندية أخرى على الاستقلال ما يعني أنّ عقد دولة الهند سينفرط تدريجياً وهو أمر لا يمكن أن تقبل به الهند، لذلك تفضّل أن تُبقي الوضع على ما هو عليه، مدعية أن قرار الأمم المتحدة الصادر عام 1949م والذي منح الشعب الكشميري حق تقرير المصير قد صار لاغياً عقب اتفاقية شيملا الموقعة بين الهند وباكستان عام 1974م، على أمل أن تغري الكشميريين بالبقاء في الهند الموحّدة من خلال تحسين الوضع المعيشي في كشمير أو ايجاد حكومة محلية موالية للهند، أو حتى التغيير التدريجي للبنية الديمغرافية للولاية كما حدث في الجزء المنخفض من الولاية في منطقة جمّو.

وتبين على مدى السنوات الطويلة التي تمتد لأكثر من نصف قرن، أنّ قضية كشمير أصبحت قضية استنزاف لكلا البلدين وسبباً أساسياً من أسباب سباق التسلح في المنطقة، وهذا بدوره أدى إلى استنزاف الطاقات والأموال التي كان من المفترض أن تذهب إلى تنمية البلدين وترقية مستوى الشعبين، وخصوصاً في باكستان، لأنّ الهند كما هو معروف، مساحتها وعدد سكانها أضعاف باكستان.

فكرّست باكستان جزءاً أكبر من ثرواتها ومقدراتها لبناء قوة عسكرية تستطيع الوقوف في وجه الدولة الأكبر في المنطقة وهي الهند، وبذلك تحوّلت باكستان إلى دولة شبه عسكرية، وتعتبر من أكبر الدول التي تنفق على التسلح والأمور العسكرية، ولديها جيش متطور يتم توجيه غالبية مواهب ونخب الشعب الباكستاني نحوه، ولذلك نستطيع أن نفهم مهنيّة وقوة هذا الجيش، رغم أنّه أصغر حجماً من الجيش الهندي.

في المقابل، فإنّ سباق التسلح قد قاد الهند إلى تكريس أموال طائلة جداً للجهد العسكري، للحفاظ على كشمير، إذ تعتبر منطقة كشمير من أكثر المناطق التي فيها قوة مسلحة على مستوى العالم، حيث يقال أنّ فيها حوالي مليون جندي هندي، وهذا أمر مكلف للغاية.

بالإضافة إلى أنّ هذا الوضع أدىّ إلى تقارب بين الصين وباكستان على قاعدة العداء المشترك مع الهند، والصين من الناحية الاستراتيجية هي أكبر تهديد للهند من باكستان، لأنّها أقوى وتشترك معها بحدود أطول من باكستان وغالبيتها حدود جبلية مطلة على الهند، كما أنّ الحروب التي خاضتها باكستان مع الهند غالباً ما كانت نتائجها ضد مصلحة باكستان، أمّا الحروب التي خاضتها الهند مع الصين فكانت نتائجها في صالح الصين في أغلب الأحيان، وهذا هذا الوضع أدى إلى جعل الهند بين فكيّ كماشة، وهو أمر خطير للغاية على للهند.

حادثة بوولواما الانتحارية: تسلسل الأحداث

14 فبراير: سيارة مفخخة يقودها انتحاري ترتطم بحافلة تقل جنوداً هنود في كشمير الهندية، وتوقع أكثر من أربعين قتيلاً، وهو الهجوم الأكبر من نوعه منذ عقود، ورئيس الوزراء الهندي يتوعد الإرهابيين ومن يقف خلفهم.

15 فبراير: تنظيم جيش محمد يعلن مسؤوليته عن العملية، وباكستان تدين العنف في كشمير وترفض اتهامات الهند بإيوائها تنظيم جيش محمد وتنأى بنفسها عن العملية.

16 فبراير: وزير المالية الهندي يعلن سحب الهند لميزة البلد الأكثر أفضلية من باكستان، ما أدى إلى ارتفاع الجمارك بين البلدين إلى 200%.

18 فبراير: مقتل 9 أشخاص من بينهم 4 جنود وشرطي في مواجهات مسلحة في كشمير الهندية.

19 فبراير: رئيس وزراء باكستان يعرض على الهند المساعدة في التحقيقات، ويحذر من أن بلاده سترد على أي اعتداء هندي، والهند ترفض.

20 فبراير: الهند توقف المواصلات بين شقي كشمير، الهندي والباكستاني.

23-24 فبراير: تقوم الهند بحملات اعتقالات واسعة طالت من وصفتهم بالانفصاليين الكشميريين.

26 فبراير: أعلنت الهند عن ضربات جوية نفذتها ضد معسكرات تنظيم جيش محمد في منطقة بالاكوت الباكستانية، وأعلنت عن مقتل عدد كبير من الإرهابيين، وباكستان تعلن أن العدوان الهندي تهديد للسلام الإقليمي، وأنّها سترد في المكان والزمان المناسبين.

27 فبراير: رئيس وزراء باكستان يلتقي بالسلطة الوطنية للقيادة وهي الجهة المسؤولة عن السلاح النووي الباكستاني، وباكستان تعلن أنّ سلاح الجو الباكستاني قد ضرب أهدافاً عبر خط التحكم، بهدف إظهار قوتها للهند، وباكستان تعلن إسقاط مقاتلتين هنديتين عبرتا الحدود الباكستانية، وأسر أحد الطيارين، بالمقابل تعلن الهند عن تسليم باكستان ملف فيه أدلة على تورط تنظيم جيش محمد ووجوده في باكستان، ورئيس وزراء باكستان يدعو للحوار بين الطرفين.

28 فبراير: رئيس وزراء باكستان يعلن أنّ باكستان ستطلق سراح الطيار الهندي في اليوم التالي كإشارة حسن نية، قادة الجيش الهندي يرحبون بهذه الإشارة.

01 مارس: باكستان تفرج عن الطيار الهندي عن طريق الحدود البرية في ولاية البنجاب مع الهند.

ارتدادات الحادثة

أدت حادثة بوولواما إلى تدهور الأمور بين الجارين، على سبيل المثال أدى ذلك الى سحب الهند ميزة أعطتها لباكستان من أجل الارتقاء بالتجارة بصفة البلد الأكثر تفضيلاً الى درجة أن باكستان ذهبت إلى منع مشاهدة وبث الأفلام الهندية في باكستان، وهو ما يعني الأمر أدى إلى نوع من أنواع القطيعة الاقتصادية والثقافية بين البلدين، خاصة أن ما حدث شكّل صفعة للكرامة الهندية، وجاء في فترة حسّاسة جداً وهي فترة انتخاباتها العامة.

وتأتي الانتخابات العامة في الهند هذه المرة، وقد أصبح وضع الحزب الحاكم متأرجحاً وحسّاساً نتيجة عدم قدرته على اقناع كثير من الناخبين على تنفيذ وعوده بالتنمية والنهوض بالبلد، وتحوّلت غالبية الوعود التي قطعها لهم في الدورة السابقة إلى حبر على ورق، وسط سياسات دينية يمينية متطرفة ألّبت عليه الأقليات واليسار وقطاعات واسعة من الهنود التي تتبنى أفكار غاندي المبنية على التعايش السلمي.

ورغم أنّ عملية بوولواما كانت مضرة بالكرامة الوطنية وشكلت صفعة للتفوق الهندي، فإنّ كثيراً من المحللين يرون في هذه العملية فرصة للحزب الحاكم ذي الخلفية اليمينية، كي يرفع مستوى الدعم الشعبي له عبر تأجيج المشاعر الوطنية ضد باكستان، والأحزاب اليمينة معروفة عموماً، تبني خطابها دائماً ثنائيّة الأمل بالتفوق والتخويف من التهديدات.

وفي الدورة الماضية اعتمد الحزب الحاكم بالمقام الأول على الأمل بمستقبل أفضل، من خلال التركيز على طرح المشاريع الكبرى وتصوير أن الهند في طور نيل العظمة العالمية التي تستحقها، ولكن يبدو أنّ ما حققه من انجازات لم يرتق إلى طموح الناخب الهندي، بالإضافة الى أنّ السلوك المجتمعي والسياسي المتطرف للحزب الحاكم، أثار حفيظة كثير من القطاعات التي سبق ذكرها، وهي ممثلة في أحزاب كانت سابقاً في الحكم، أو أحزاب جديدة، وأحزاب تمثّل أقليات، وأصبح اليوم لديها القدرة على التوحد لتشكيل جبهة مضادة للحزب الحاكم، وبالتالي أصبح أمر اسقاطه ممكناً.

لذلك لجأ الحزب الحاكم كما يقول ناقدوه، إلى عملية التخويف من باكستان، واستنهاض الكرامة الوطنية وحشد الناس خلف الحكومة من خلال بناء رأي عام مضاد لباكستان، ونستطيع أن نرى ذلك من خلال المظاهرات في الشوارع والإعلام المؤيد للحكومة، الى درجة أنّه نجح هذه المرة خلافاً للمرات السابقة، بجرّ الاحزاب المعارضة، والتي دائما ما كانت تشكّك بموقف الحكومة من أحداث من هذا النوع وطريقة استغلالها لها، إلى الاصطفاف خلف الحكومة تأييد موقفها، وتريد هذه الأحزاب بذلك حرمان الحكومة من الاستفادة من هذا الحدث وتحويله إلى سلاح للتشكيك بوطنية المعارضة.

الموقف الهندي الرسمي

يحاول الموقف الرسمي للحكومة الهندية التأكيد على شيئين، وهما أنّ الهند ليست هي المبادرة بالعدوان على باكستان بل هي ضحية للإرهاب المنطلق من باكستان، والمخطط والمدعوم من باكستان، وأنّ باكستان دولة تشجع الإرهاب، ولذا فإنّ الهند لا خيار لها إذا أرادت إيقاف الإرهاب ضدها سوى أن تضرب الإرهاب في مواطنه، وأنّها غير معنية بحرب مع باكستان، وهي تدعو إلى تسوية الأمور من خلال الحوار وهذا عبرت عنه وزيرة الخارجية الهندية سوشما سوراج في لقائها مع كل من وزير الخارجية الروسي والصيني، في الصين.

الموقف الباكستاني الرسمي

على الجانب الآخر فإنّ الجانب الباكستاني يعلن أنّ باكستان لا تريد الحرب وتتهم الهند بإطلاق التهم جُزافاً دون دليل، وأن لا علاقة لباكستان بهذه الأعمال الإرهابية، وأنّ هذه العملية هي من تدبير وتنفيذ الكشميريين أنفسهم، كونهم شعب مظلوم وينشد الحرية من الاحتلال الهندي لأرضه، ويطلب حق تقرير مصيره، وأنّ باكستان عانت من الارهاب أكثر مما عانت منه الهند، إذ سقط لها سبعين ألف قتيل نتيجة الاحداث الارهابية، فهي مشكلة مزمنة بالنسبة لها ولا يمكن مطالبتها بحلها وحدها، كما تتهم الهند بمحاولة فرض واقع جديد بتغير ما يسمى بخط التحكم Control Line والذي يقسم كشمير بين الطرفين، وهو ما تم الاتفاق عليه في اتفاقية شيملا في عام 1972م، وبناء على كل ذلك، فإنّ باكستان لن تقف مكتوفة الأيدي أمام العدوان عليها، وستثبت للهند أنها قادرة على الدفاع عن نفسها.

مواقف الأطراف الفاعلة

أولاً: الولايات المتحدة الأمريكية

يميل الموقف الأمريكي أكثر باتجاه الهند، ووجه انتقادات إلى باكستان بخصوص عدم ضبطه الجماعات الإرهابية، ورغم ذلك فإنّه معني بأن تكون الهند في مواجهة الصين وليس باكستان، ولذلك فإنّ المواجهة مع باكستان اليوم، على الأرجح، غير مطلوبة أمريكياً، وستضغط الولايات المتحدة الأمريكية على كل من باكستان والهند من أجل ايقافها بأقرب وقت ممكن.

ثانياً: الصين

الصين في أغلب الظن، ستقف مع باكستان في حالة محدودة مؤقتة لكن لن تشجعها على حرب مفتوحة تستنزف قوتها، إذ أنّ وضع باكستان الاقتصادي لا يسمح لها بالانزلاق نحو حرب مفتوحة وإذا حصل هذا الأمر فإنّها على الأرجح، ستعتمد على الدعم الصيني، والصين اليوم غير معنية بهذا النوع من المواجهة لأنّ استراتيجيتها تقوم على ابقاء المنطقة في حالة هدوء وعدم التورط في حالة استنزاف تدفع الاقتصاد الصيني الى الخلف وتمنع الصين من التنمية والوصول إلى أهدافها.

ثالثاً: إسرائيل

برز الحضور الإسرائيلي في الصراع بين البلدين من خلال الموقف السياسي المعلن بتأييد الهند ضد الإرهاب الباكستاني بأقوى العبارات، وباستخدام الهند لأسلحة ومنظومات تسليح إسرائيلية الصنع، خلال قصفها للمواقع الباكستاني، وهو ما سبق حدوثه في المواجهة الأخيرة مع الصين أيضاً، مما سلط الضوء على العلاقة العسكرية المتنامية بين البلدين وجعل كثير من الأطراف تتوجس من تنامي الدور الإسرائيلي السلبي في المنطقة.

رابعاً: أطراف أخرى

دعت كل من تركيا وروسيا وأطراف دولية كثيرة، الطرفين إلى ضبط النفس وحل المشكلات من خلال الحوار ولكن تأثير هذه الدول محدود على البلدين مقارنة بكل من الولايات المتحدة والصين.

من المستفيد؟

على الصعيد السياسي المجرد نستطيع أن نرى هذه المواجهة إذا تم توظيفها بشكل جيد فإنها ممكن أن تخدم كلا الطرفين الطرف الحزب الحاكم في الهند بحيث أنها تحشد الناس والناخبين خلفه والطرف الثاني الباكستاني بأنها تعطي مزيداً من القوة والمصداقية للجيش كونه حامي باكستان، ومزيداً من المشروعية لرئيس حكومة باكستان، عمران خان، القليل الخبرة في القيادة، وتظهره كشخص قوي يدافع عن البلد أمام قوة أكبر.

تعتبر إسرائيل هي الطرف الخارجي المستفيد من هذه المواجهة، إذ تعزّز دورها لدى الهند، وسيجعل باكستان تخطب ودها بالمستقبل القريب لتجنب خطرها، والاستفادة منها.

السيناريوهات المحتملة

أولاً: الحرب النووية

تُعدّ الحرب النووية بين الجارين أمراً غير وارد في حسابات البلدين، علماً بأنّ رئيس باكستان السابق الجنرال برويز مشرف كان قد تحدث إلى وسائل الإعلام قبل أيام، عن شبه استحالة وقوع مواجهة من هذا النوع بين باكستان والهند، وأنّ السلاح النووي هو للردع فقط.

ثانياً: الحرب التقليدية الشاملة

تُعدّ الحرب التقليدية الشاملة التي يمكن أن تطال أهم مدن ومرافق البلدين، كذلك أمراً مستبعداً، إذ أنّ ذلك سيشكل ضربة للاقتصاد الهندي ومشاريع التنمية التي وعد بها الحزب الحاكم، أمّا على الطرف الباكستاني فإنّ وضع الاقتصاد مترد للغاية وأية مواجهة من هذا النوع يمكن أن تقود باكستان إلى الإفلاس.

ثالثاً: الحرب الحدودية المحدودة

تبدو الحرب الحدودية المحدودة بين الطرفين، الأكثر ترجيحاً، وذلك لأنّها غير مكلفة من جهة وتساعد كلا الطرفين على تعزيز الروح الوطنية والثقة بالحكومة.

أدوار مقترحة للسياسة العربية والإسلامية

يشكل كلا البلدين أهمية بالغة للعالم العربي والشرق الأوسط عموماً، وذلك لأسباب جيواستراتيجية وأسباب ثقافية واقتصادية، ولذا فإنّه ينبغي على الدول والكيانات المؤثرة في المنطقة أن:

  1. تباشر سياسة النيء بالنفس عن الصراع، وعدم الانحياز إلى أي من البلدين.
  2. الدعوة إلى ضبط النفس وحل الخلافات بين الطرفين بالحوار والوسائل السلمية.
  3. السعي للتوسط بين البلدين وضمان أن الأمور لن تخرج عن السيطرة.
  4. مساعدة البلدين على تطبيع العلاقة بينهما على المدى البعيد وتشجيعها على ذلك بالمحفزات الاقتصادية.
  5. مساعدة البلدين على إيجاد حل دائم للقضية الكشميرية متوافق مع قرارات الأمم المتحدة وبما يضمن مصلحة البلدين الشقيقين.

الخلاصة

هذه المواجهة ستكون مواجهة قصيرة نسبياً ومحدودة ستنتهي إلى إعادة الأمر إلى ما كان عليه عندما تنتهي أهدافها وسيكون ذلك عندما يشعر كلا الطرفين بأن الفوائد من خلال حشد الرأي العام خلف قيادة أي من البلدين انتهت، والآن أصبحت كلفة المواجهة أعلى من فائدتها، عندها سيبحثان عن ذريعة لإيقافها

المصدر / المعهد المصري للدراسات
…..
[1] مترجم من ويكيبيديا

الفلبين: قانون مورو وميلاد وطن

د. محمد مكرم بلعاوي ..

تمهيد

يعد شعب مورو ” بنغسا مورو” من أقدم شعوب الفلبين، إذ يتكون من عدة قوميات اعتنقت الإسلام في القرن الرابع عشر الميلادي (حوالي 1380م)، وقد سيطروا على أرخبيل الفلبين لمدة تقارب قرنين من الزمان بما في ذلك مدينة مانيلا، ومع قدوم الاستعمار الإسباني بقيادة ماجيلان عام 1521م، وأطلق المستعمرون على مسلمي المنطقة اسم “مورو” وهو اسم يطلقه الإسبان عادة على مسلمي شمال إفريقيا، وحاولوا تنصير سكان المنطقة فقاومهم المسلمون وكان من نتيجة ذلك مقتل ماجيلان نفسه، إلاّ أنّ الإسبان استطاعوا السيطرة على كامل الأرخبيل بما في ذلك جزيرة مينداناو، أكبر تجمع للمسلمين، وأطلقوا عليه اسم الفلبين تيمناً باسم ملك إسبانيا حينها، واستمر حكمهم حتى عام 1898م، وهو يمثل النهاية الفعلية للإمبراطورية الإسبانية التي حكمت البلاد لمدة 356 سنة، وتحوّلها إلى دولة محدودة.
في أواخر القرن التاسع عشر قامت الثورة الفلبينية/الحرب التغالوغيّة (1896-1898م) ضد إسبانيا، وانتهت بتحالف قائد الثوّار إغينالدو مع الولايات المتحدة الأمريكية والتي كانت تخوض حرباً ضد إسبانيا (الحرب الكوبيّة). مثّلت الحرب الأمريكية الإسبانية والتي انطلقت من كوبا عام 1898م، بداية انهيار وجود إسبانيا في الكاريبي والمحيط الهادي وكانت سبباً لخسارتهم كل من كوبا، وبورتوريكو، وغوام والفلبين، لصالح الأمريكيين في نفس العام، وتنازلت إسبانيا قانونيّاً عن مستعمرتها في الفلبين لأمريكا بموجب اتفاقية باريس عام 1898م بعد دفع الأمريكيين تعويضاً لإسبانيا قيمته عشرين مليون دولار، عندها أعلنت جمهورية الفلبين والتي كان الثوار قد أعلنوها أثناء الحرب، الحرب رسميّاً على الولايات المتحدة الأمريكية وهي ما تعرف بالحرب الفلبينية الأمريكية (1899-1913م)، وعلى إثر انتهاء الثورة تم انتخاب مجلس نيابي في الفلبين لأول مرة عام 1916م، وفي عام 1934م أقرّ قانون الكومنولث ووعدت الفلبين بالاستقلال بحلول عام 1946م، إلاّ أنّ اليابانيين احتلوا الفلبين عام 1941م عقب قصف بيرل هاربر، حتى قام الجنرال الأمريكي ماك آرثر بطردهم منها في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1944م، وأعقب ذلك حصول الفلبين على الاستقلال في 4 تموز/يوليو 1946م.
يصل عدد سكان الفلبين حسب إحصائيات العام الحالي إلى حوالي 107 نسمة، يشكل المسلمون منهم حوالي 10 أو 11 مليون وما نسبته 11% تقريباً من السكان، ويعيشون في مينداناو وبالاوان ارخبيل سولو في منطقة بانغسامورو.

ميلاد قضية شعب مورو

برزت قضية شعب مورو مع مغادرة الاستعمار الأمريكي المنطقة وتسليمه زمام الأمور إلى حكومة مانيلا، إذ أنّهم طوال فترة الاحتلالين الإسباني والأمريكي كانوا يشكلون كياناً اجتماعيّاً وسياسيّاً مستقلاً، أُلحق دون إرادته إلى الدولة المركزية في الفلبين ذات الأغلبية المسيحية الكاثوليكية، ما عنى أنّهم تحولوا إلى مجرد أقلية في بلادهم.

المرحلة النضاليّة الأولى:

حاول المسلمون منذ استقلال الفلبين من خلال الوسائل السلمية، حمل الأغلبية على الاعتراف بوضعهم كأمة مستقلة ولكنّهم لم ينجحوا في ذلك، وفي عام 1969م أسس مسلمو مورو الجبهة الوطنية لتحرير مورو (MNLF) برئاسة نور مسواري، لمقاومة التمييز والتهميش الذي يتعرض له شعب مورو ومن أجل حق تقرير المصير على أرض كل من مينداناو وسولو وبالاوان، ومع إعلان الرئيس الفلبيني حينها، فيرديناند ماركوس حالة الطوارئ عام 1972م في البلاد، أطلقت ثورة مسلحة ضد الحكومة المركزية استمرت أربع سنوات وذهب ضحيتها الآلاف وانتهت بتوقيع اتفاقية طرابلس الغرب عام 1976م، والتي توجت بمنح شعب مورو الحكم الذاتي عام 1990م والمستمر حتى اليوم.

المرحلة النضاليّة الثانية

قادت هذه المرحلة التاريخية من نضال شعب مورو نحو الحرية، الجبهة الإسلامية لتحرير مورو (MLIF) برئاسة سلامات هاشم، والتي انشقت عن الجبهة الوطنية عندما رأت أن الاتفاقية الموقعة مع الحكومة الفلبينية لا تمثل طوح شعب مورو بالسيادة والاستقلال، واستمرت في الجهاد المسلح حتى عام 1997م، حيث بدأت مفاوضات سلام جديدة أثمرت الوصول إلى اتفاقية سلام عام 2014م، وأصبحت الفصيل الرئيس قاد المرحلة الثانية من التفاوض مع الحكومة والتي أفضت إلى الوصول إلى القانون الحالي.
بدأت اللقاءات بين الجبهة الإسلامية والحكومة الفلبينية عام 1997م، وانطلقت المفاوضات عقب وقف إطلاق النار عام 2012م، وتنازلت الجبهة بوساطة ماليزية، عن تأسيس دولة مستقلة وقبلت بحكم ذاتي تحت اسم “بانغسامورو”، وفي عام 2014م تم توقيع اتفاقية سلام شعب مورو الشاملة، ويمنح هذا الاتفاق المزيد من الحقوق السياسيّة والصلاحيات الاقتصادية والتشريعية والقانونية للإقليم، ويشمل أربع مناطق وهي: طاوي طاوي ، بازيلان ، ماغنداناو ، لاناو ديل سور، وخامس هو الشريف كابوتسوان ولكن تم فقدانه بحكم قضائي عام 2008م.
أمّا المناطق الأخرى التي زاد فيها عدد المهاجرين المسيحيين من الشمال، فهي ست بلديات و39 قرية في اقليمين دار حولها الخلاف، وهذا سيكون هناك استفتاء لتحديد مصير هذه المناطق.

القانون التأسيسي لمنطقة بانغسامورو المسلمة

عقب موافقة البرلمان الفلبيني على نص القانون والذي خضع لمفاوضات مضنية، وقع الرئيس دوترتي عليه يوم الخميس 26 تموز/يوليو 2018م، وسيتم إجراء استفتاء شعبي في المنطقة خلال 150 يوماً من مصادقة الرئيس عليه، وعقب ذلك سيتشكل مجلس تمثيلي مكون من 80 نائباً سينتخب رئيس وزراء يحكم حتى عام 2022م، كما ينبغي على ما نسبته 30% من مقاتلي الجبهة تسليم أسلحتهم والعودة إلى الحياة المدنية على أن يتبعهم البقية عقب انتخابات 2022م بحيث تتحول الجبهة إلى حزب سياسي ملتزم بالقانون الفلبيني، وأهمّ ما ورد في القانون:

  1. يمنح الإقليم فترة مؤقتة حتى عام 2022م تجري بعدها انتخابات متزامنة مع الانتخابات المركزية لانتخاب برلمان بانغسامورو.
  2. حتى إجراءات الانتخابات، تدير القوى السياسية المحلية وعلى رأسها الجبهة الإسلامية الفترة الانتقالية.
  3. يتشكل البرلمان من نسب 40% أحزاب، 40% ممثلو بلديات، 10% ممثلو القوميات غير الموروية والمستوطنين من غير المسلمين.
  4. تخصص للإقليم موازنة من الحكومة المركزية لمدة ثلاث سنوات.
  5. تخصص للإقليم موازنة تنموية لمدة عشر سنوات قيمتها خمسة مليارات بيسو فلبيني سنوياً.
  6. تعود 75% من إيرادات المنطقة إلى إقليم مورو، وتعود البقية للحكومة المركزية.
  7. يعتمد نظام قضائي خاص مستمد من الشريعة، بالتوازي مع محاكم مدنيّة، ويحق لغير المسلمين عدم التقاضي إليه.
  8. تكون للإقليم سيادة بحرية بعمق 19 كيلو متر.

أسئلة لا بد منها:

يتبادر إلى الذهن مجموعة من الأسئلة الهامة التي تتعلق بمستقبل القانون وإمكانية تحققه على الأرض، ولعل من أهمها: ما هي العوامل التي دفعت الحكومة الفلبينية نحو إمضاء القانون؟
من الواضح أن إقليم مورو والذي انحسر حتى وصل إلى ربع أراضيه المعروفة تاريخياً عقب حملات الهجرة المنظمة من الشمال، أصبح يمثل مصدر قلق واستنزاف للحكومة المركزية، ولذا فكان هناك قناعة لدى كثير من النخبة الفلبينية، من مدة طويلة بأنّه آن الأوان كي يتم التخلص من هذه المشكلة والالتفاف نحو القضايا الوطنية الملحة الأخرى مثل الفساد والمخدرات والخلافات الحدودية، ومع قدوم الرئيس دوتيرتي والذي وعد أثناء حملته الانتخابية باتمام الاتفاقية الموقعة بين الجبهة الإسلامية والحكومة، وتحويلها إلى قانون إذا فاز بالانتخابات، وقد تحقق له ما أراد بعد مفاوضات عسيرة في الكونغرس الفلبينين، ما يعتبر أحد أهم العوامل التي ساعدت على تحويل الاتفاقية إلى قانون، بالإضافة إلى تحويل العديد من أبناء الجبهة إلى التشدد نتيجة لتعنت الحكومة بحل قضية الإقليم مما أدى إلى استشراء هجمات المتطرفين وكان أكبرها مؤخراً ما حصل في مدينة ماراوي.
علينا الإدراك أنّ هذا القانون هو لصالح الدولة المركزية كما هو لصالح الأقلية الموروية لأنّه ينهي حالة الاستنزاف الذي تمثله حالة الثورة والتمرد وتجعل الدولة أكثر تفرغاً لبناء الاقتصاد وحياة الرخاء للمواطنين، مضافاً إلى ذلك ما سيشكله الإقليم من إضافة إلى الاقتصاد الفلبيني بثرواته المعدنية والزراعية والبحرية الكبيرة، ما سيدفع اقتصاد البلاد دفعة قوية إلى الأمام إن حصل.
صحيح أنّ الشعب الموروي لم يصل إلى كل ما كان يصبو إليه، ولكنه أدرك أنّ سياسة مقاومة الدولة تعطيها غطاءً لقضم الأرض حتى لم يعد في يد المسلمين سوى حوالي ربع مساحة الإقليم الأصلية، وقد وصلوا إلى قناعة على ما يبدو، أنّ تثبيت حقهم بالقانون والمطالبة بالمزيد خير من التعنت وخسران كل شيء، وهو ما كانت التجربة خير شاهد عليه، لذا فإن سياستهم يمكن وصفها بسياسة “الخطوة خطوة”، أو سياسة “خذ وطالب”.

خاتمة

لعبت الدول الإسلامية دوراً هاماً في الصراع الذي كان دائراً في الإقليم، فقد تدخلت منظمة العالم الإسلامي منذ السبعينيات من أجل إيجاد حل للمشكلة، ونشأ عن ذلك اتفاقية طرابلس عام 1976م، ولعل الدور الماليزي كان من أبرز الأدوار في محاولة حل الصراع، إذ تمّ توقيع اتفاقية السلام الأخيرة عام 2014م بوساطة ماليزية، كما تلعب تركيا دوراً هاماً أيضاً خصوصاً عبر مؤسسة الإغاثة الإنسانية İHH ، والتي كانت مراقباً وعاملاً هاماً بالوصول بالإقليم إلى السلام، وأهم من ذلك كله الدور الإيجابي الذي ممكن أن تلعبه هذه الدول بدعم مسيرة التطور في الإقليم وضمان التزام الحكومة المركزية بتنفيذ ما عليها، وخصوصاً إذا استحضرنا المصالح المشتركة لهذه الدول مع مانيلا، ما يجعل تأثيرها على الحكومة الفلبينية كبيراً.
ولعل من التحديات التي برزت بالفعل، محاولة التنظيمات المتشددة تقويض القانون، وإظهار الجبهة الإسلامية عاجزة وهذا سيستدعي تدخل الجيش الفلبيني في المنطقة وربما التساؤل عن جدوى القانون برمته تبعاً لذلك، وهو ما حصل بالفعل فقد باشرت هذه التنظيمات مجموعة من التفجيرات في الإقليم لهذا الغرض، وهي وإن كانت صغيرة العدد إلاّ أنّ تأثيرها ممكن أن يكون مدمراً وخطيراً على التجربة الوليدة، وهو ما يشكل تحديّاً حقيقياً لحكومة الإقليم وللحكومة المركزية على السواء.
التحدي الأكبر الذي يبرز الآن أمام مسلمي مورو، هو قدرتهم على إدارة الإقليم إدارة راشدة، تحسن حياة الناس وتعطيهم الأمل بالمستقبل، وتستفيد من خيرات الإقليم الكبيرة وموقعه المميز، وتقضي على التطرف والجريمة وعلى رأسها المخدرات والقرصنة. كما أن نجاح تجربة إقليم مينديناو يمكن أن يشجع الحكومة المركزية على إقرار النظام الفدرالي في البلاد وهو ما سينعكس إيجاباً ليس على المسلمين وحدهم، بل على الفلبين بأسرها

ماليزيا .. ماذا تعني عودة مهاتير محمد؟

د. محمد مكرم بلعاوي ..

يمكن القول إن ماليزيا قد ولدت من جديد مع إعلان الانتخابات العامة بنسختها الرابعة عشرة، والتي فازت بها المعارضة، وخسر الحزب الحاكم (المنظمة الوطنية المالاوية المتحدة-أمنو) فيها مقاليد حكم البلاد للمرة الأولى منذ الاستقلال عن الاستعمار البريطاني عام 1957م، غير أنّها ولادة تمثل بداية متوقعة المآلات، فمن أحدثها لم يكن سوى أبناء الحزب الحاكم السابقين، والذين طالما رفعوا رايته وحكموا باسمه، محاضير (مهاتير) بن محمد (92 عاماً) وأنور إبراهيم (69 عاماً).

لمحة تاريخية

عام 1957م تحوّل نظام الحكم في ماليزيا إلى حكم فدرالي باسم فيدرالية الملايو (Federation of Malaya )، وحكم البلاد تونكو عبد الرحمن رئيس حزب الجبهة القومية الملايوية كأول رئيس وزراء، وأحد أعضاء العائلة الملكية لولاية قدح، حتى عام 1970م. من خلال تشكيل تحالف مع الصينيين، استطاع الملايويون أن يحكموا البلاد دون مشاكل تُذكر حتى حصلت انتخابات عام 1969م، حيث طالب الصينيون بدور أكبر من حصتهم المعتادة، فرأى الملايويون في ذلك تهديداً لهم فدخلت البلاد وخصوصاً كوالالمبور في حالات اضطرابات دموية أفضت إلى مقتل عدد غير معلوم من الماليزيين غالبيتهم من الصينيين، يقدرهم الصينيون بالآلاف والحكومة بالمئات، ثم فرضت حالة الطوارئ وعقب انتهائها عادت معادلة مشابهة للمعادلة التي سادت قبل الأحداث، لتهيمن على المشهد السياسي في البلاد، تاركة خلفها جروحاً غائرة في أنفس الصينيين الذين شعروا بالتهميش، والملايويين الذين شعروا بالتهديد لهويتهم.

مثّلت ولاية محاضير بن محمد علامة فارقة في التاريخ الماليزي، إذ أنّه كان لا يخفي قناعاته بضرورة تمكين العرق الملايوي من بلاده وترقية أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية، وإن كان شديد الوطأة في آرائه التي ضمنها كتاباً سمّاه “المعضلة الملايوية”، على الملايويين متهماً إياهم بالبلادة والانعزالية، إلاّ أن الصينيين كانوا يشعرون أن ذلك التمكين وتلك الترقية ستكون على حسابهم، إذ كانوا يمثلون أغلبية السكان في المدن الكبيرة ويسيطرون سيطرة شبه كاملة على الاقتصاد الماليزي، فوقفوا موقفاً حذراً منه واستفادوا من النهضة الاقتصادية التي كان وراءها.

في نهاية عهدة محاضير حصل خلاف بينه وبين نائبه وخليفته أنور إبراهيم، لا تُعرف أسبابه على وجهه التحديد، أدى إلى طلاق صاخب بين الطرفين، وتم رفع قضايا فساد أخلاقي وشذوذ جنسي ضد أنور ليدخل على إثرها السجن ويتم إقصاءه عن العمل السياسي وتؤسس زوجته “وان عزيزة” حزب سياسيّاً جديداً معتمدة على ميراث أنور باسم حزب العدالة، عقب ذلك استقال محاضير وتولى عبد الله بدوي حكم البلاد، وشعر محاضير والذي كان ظاهرياً غائباً عن الساحة السياسية، ولكنّه في الحقيقة ما زال ممسكاً بخيوط الحزب الحاكم بين يديه، أنّ بدوي لن يستطيع أن يمضي بمسيرة التنمية التي اختطها وأنّ خطة 2020 التي يعتبرها السُلّم الذي ستصعد عليه ماليزيا لتنافس الدول المتقدمة، لم تعد تسير كما ينبغي، فأطلق حملة أدت في النهاية إلى استقالة بدوي من منصبه قبل أن يتم مدّته، وهيأ لقدوم نجيب واستلامه الحكم.

كان نجيب في البداية يبدو الشخص المثالي لمنصب رئيس الوزراء، فهو ينحدر من عائلة سياسيّة عريقة، إذ كان أبوه رئيساً للوزراء وزوج خالته كذلك، واستلم هو مناصب وزارية متعددة وهو في مقتبل عمره، ولديه تأييد واسع داخل الحزب، ولكن محاضير لم يبتعد عن عالم السياسة رغم كبر سنه وإعلانه اعتزال العمل السياسي، بل كان يراقب الوضع عن كثب بروح الوالد أو الاستاذ، وكثيراً ما كان يُطلق تصريحات ناقدة ومصوِّبة لأداء الحكومة، وكان نجيب يتلقى ذلك بصدر رحب وصبر، وحاول احتواء انتقادات أستاذه التي أخذت تتصاعد شيئاً فشيئاً وخصوصاً بعد خروج أنور إبراهيم من سجنه وتزعمه الحزب الذي شكلته زوجته، وتشكليه تحالفاً مضاداً لتحالف أمنو.

تدريجيّاً تباطأ أداء الحكومة ومرّت بصعوبات اقتصادية ثم رفعت ضد بعض أعضائها قضايا فساد، كل ذلك وسط تصاعد أداء المعارضة بقيادة أنور إبراهيم والذي تمكّن من ضم المتناقضين إلى تحالفه، منهم الملايويين والصينيين والهنود، والحزب الإسلامي والاشتراكيين، فحققوا في الانتخابات العامة الثالثة عشرة عام 2014م، تقدّماً غير مسبوق في تاريخ البلاد وذلك لانضمام قطاعات أكبر الشباب ومن الصينيين لتأييد التحالف، ففاز بأغلبية أصوات الناخبين ولكن توزيع مقاعد البرلمان لا يعتمد نسبة متساوية لكل مقعد، فضمنت الأصوات التي حصل عليها الحزب الحاكم بقيادة نجيب رغم أنّها أقل من أصوات المعارضة، قريباً من ضعف مقاعد البرلمان التي حصلت عليها المعارضة.

حتى انفجر محاضير بمعارضة مفتوحة لنجيب متهماً إياه بالفساد، ودخل نجيب في حالة دفاع عن النفس ليبرر تهم الفساد، أمّا محاضير فانضم تدريجيّاً إلى المعارضة، مبتدئاً بحملة “نظافة الانتخابات” (برسيه)، ثم قرر تأسيس حزب جديد لتغيير رئيس الوزراء، وزار خصمه اللدود أنور إبراهيم في المحكمة معلناً تضامنه معه، رغم أنّه أول من حرك قضايا ضده، واتفقا على العمل معاً لإسقاط الحكومة.

مجريات الانتخابات العامة الرابعة عشرة 2018

في الفترة التي كان يقضي أنور فيها محكوميته، كان محاضير منهمكاً بالتعاون مع المعارضة بتكوين تحالف جديد باتكان هاريبان (تحالف الأمل) بعد أن انسحب الحزب الإسلامي (باس) من تحالف المعارضة السابق وانضم للحكومة، والضغط على الحكومة لانتخابات مبكرة، وعندما أعلن رئيس الوزراء عن الانتخابات العامة الرابعة عشرة، حُرم محاضير من ترخيص حزبه فقام بخوض الانتخابات على قوائم حزب العدالة الذي ترأسه زوجة أنور.

كانت الحكومة منهمكة بمحاولة تغيير توزيع الدوائر الانتخابية مرة أخرى، وقد اصطف إلى جانبها الحزب الإسلامي (باس)، كان محاضير من الثقة بمكان بحيث أعلن أن ذلك لن يؤثر على فرص المعارضة بالفوز. كانت قطاعات واسعة من المالايويين وخصوصاً من الشباب الذين يمثلون 40% من الشعب الماليزي، قد قرروا أنّه قد حان وقت التغيير، وأنّه قد حان وقت إعطاء فرصة للمعارضة.

هكذا اجتمعت نسبة كبيرة من المالايويين إلى غالبية الصينيين والذين كانوا قد حسموا أمرهم منذ الانتخابات السابقة، ووقفوا إلى جانب المعارضة، فأصبحت فرص حزب أمنو ورئيس الوزراء نجيب عبدالرزاق بالفوز محدودة، ولم ينقذه توزيع الدوائر ولا سيطرة الحزب على مقاليد الحكم منذ الاستقلال، ورغم كل المحاولات التي بذلها نجيب لتحسين وضع الاقتصاد وارتفاع مؤشراته، كانت دعايات المعارضة وخصوصاً محاضير وضغوطه، قد فعلت فعلها وكان التحالف الحاكم على موعد مع التغيير.

نتائج الانتخابات وتحليلها

حصلت الانتخابات العامة الرابعة عشرة يوم الأربعاء التاسع من أيّار/مايو 2018، وتقدّر نسبة المشاركين حوالي 76% أي أقل من تلك المسجلة في الانتخابات السابقة عام 2013م وهي 85%، وأعلنت المعارضة أنّ حوالي خمسة عشر مليون ناخب تم حرمانهم من أداء حقهم الانتخابي نتيجة لطول طوابير الناخبين وبطء الإجراءات إذ كان الناخبون يصوتون للبرلمان المركزي وللحكومات المحلية بشكل متزامن، كما أن الصناديق تغلق الساعة الخامسة مساءً حسب القانون، وتم إعلان النتائج الرسمية اليوم التالي العاشر من أيّار/مايو 2018م.

وحصل تحالف الأمل PH على 113 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان البالغ 222 مقعداً، أمّا التحالف الوطني BN بقيادة رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق فقد حصل على 79 مقعداً، فيما حصل الحزب الإسلامي الماليزي PAS 18 مقعداً، أمّا حزب واريسان في ولاية صباح فكان نصيبه 8 مقاعد فيما حصد المستقلون 3 مقاعد.

توزيع المقاعد حسب الولايات

تفوق تحالف الأمل على التحالف الوطني في ولايات، نيغري سيمبيلان، جوهُر، قدح، بيراء، مالقا، واحتفظ من الدورة السابقة بكل من ولاية بينانغ وولاية سلانغور، فكان مجموع ما حصل عليه سبع ولايات، بينما فاز التحالف الوطني في كل من ولايتي برليس وباهنغ، أما ولاية تيرنغانو فقد خسرها التحالف الوطني لصالح الحزب الإسلامي، كما احتفظ الحزب الإسلامي بولاية كلينتان من الدورة السابقة.

أمّا في في ولاية صباح خارج شبة الجزيرة الماليزية، فقد تعقد الأمر عندما انشق مجموعة من النواب من التحالف الوطني وانضموا إلى حزب واريسان، المنضوي تحت تحالف الأمل، ويتوقع أن ينشق آخرون من حزب أمنو لينضموا هم أيضاً إلى التحالف، ما يعني أنّ الحكومة المحلية ستنتقل من يد أمنو إلى يد تحالف الأمل.

أبرز ما لفت الانتباه في هذه الانتخابات، أنّه رغم احتفاظ نجيب عبد الرزاق بمقعده البرلماني، إلا المفاجأة أنّ ثمانية وزراء وتسعة عشر نائب وزير من وزارته خسروا مقاعدهم البرلمانية، بما في ذلك نائب زعيم الحزب الصيني (MCA) وزعيم الحزب الهندي (MIC) المنضويان في التحالف الوطني الذي يرأسه حزب أمنو.

الوضع السياسي الجديد

لا شك أنّ الوضع الذي أفرزته الانتخابات في ماليزيا قد يكون مربكاً للكثيرين، فقطاعات كبيرة من السياسيين ورجال الأعمال والإعلام، كانوا يظنون أنّها جولة أخرى سيتمكن فيها حزب أمنو من البقاء في السلطة، ولن ينال معارضوه سوى منصة لبث شكواهم واتهاماتهم، كالعادة. لجنة الانتخابات كانت في حيرة من أمرها ماذا تفعل، والحزب الحاكم لم يقرّ بالخسارة على الفوز بل أطلق رئيس القطاع الشبابي فيه، خيري جمال الدين عبارات يفهم منها قبوله باختيار الشعب، ومسؤولو أمنو كانوا يطلقون تصريحات تسخف كلام المعارضة وتتشبث بالفوز، وخرج محاضير في مؤتمر صحفي ليعلن فوزاً كاسحاً للانتخابات ويدعو ملك البلاد لإعلان فوز المعارضة وتكليف رئيس وزراء جديد حتى لا تبقى البلاد بدون رئيس، وسارع سلطان جوهٌر إلى دعوة الملك إلى إعلان رئيس وزراء جديد، وكانت ماليزيا بأسرها تحبس أنفاسها متسائلة هل تشهد انتقالاً سلساً للسلطة، أم ستدخل البلاد في نفق من الصراعات؟

لم يطل الأمر كثيراً، فقد دعا الملك زعماء المعارضة إلى القصر الملكي، وتشاور معهم حول اسم المرشح لرئاسة الوزراء، فطرحوا اسم محاضير الذي كان غائباً، إذ أنّه كان يخوض الانتخابات تحت لافتة حزب العدالة والذي كانت تمثله وان عزيزة إسماعيل، وتم إعلان محاضير رئيساً لوزراء ماليزيا، ليدخل فترة ولاية ثانية بعد أن كان قد حكم ماليزيا لمدة عشرين سنة وكان يعد أطول رئيس وزراء يحتل هذا المنصب، وليصبح أكبر حكام العالم سناً.

فرص استمرار تحالف الأمل في السلطة

يشكك الكثيرون بقدرة تحالف الأمل على حكم ماليزيا، وأنّها ستدخل في صراعات مزمنة ستؤثر على وضع البلاد نتيجة لأنّ مكونات التحالف غير متجانسة وسوف تتقاتل على توزيع الحصص وتمثيلها في السلطة، مما يعني أن رئيس الوزراء سيكون ضعيفاً ولن يستطيع أن يحكم بثقة كاملة وقد يتطور الأمر إلى انشقاقات وهذا بدوره ممكن أن يمهد لعودة الحزب الحاكم مرة أخرى، وهذا في رأيي مستبعد، إذ أنّها ليست المرة الأولى التي تشكل فيها المعارضة تحالفاً، بل كان قائماً قبل الانتخابات الثالثة العشرة، واستطاعت هذه القوى أن تحكم أهم ولايتين في البلاد بينانغ وسلانغور دون مشاكل تذكر.

كما أنّ هناك أراء تقول أنّ الدولة العميقة التي بناها حزب أمنو عبر ستين سنة من الحكم المستمر، ستقف عائقاً أمام محاضير وأنور، وهو قول يفترض أنّ تحالف الأمل هبط على عالم السياسة الماليزية بمظلة وهو قول غير واقعي، إذ أن زعماء المعارضة مثل محاضير كان رئيساً للوزراء، وأنور نائباً لرئيس الوزراء ومحي الدين نائب لرئيس الوزراء وأزمان علي كبير وزراء سلانغور أهم ولاية في ماليزيا وغيرهم كثير، بل إن كانت هناك دولة عميقة في ماليزيا فإنّ من بناها هو محاضير وهي لا بد تدين بالولاء له، وإلاّ لما تمكن من إزالة بدوي من رئاسة الوزراء ثم تعيين نجيب ثم إزالة نجيب والجلوس في مكانه، رغم ابتعاده شكلياً عن السياسة.

أمّا التوقعات أنّ النتائج سيكون له أثر سلبي على الاقتصاد، فهذا أيضاً مستبعد، إذ أنّ محاضير يعد باني نهضة ماليزيا وهو وأنور من أتى بالشركات الأجنبية ورؤوس الأموال إلى ماليزيا، وهما أكثر الناس قدرة على التفاوض معها، كما أن التحالف سيتلقى دعماً من كبار رجال الأعمال الصينيين والذين انحاز أغلبهم مبكراً إلى تحالف الأمل، صحيح أنّ نتائج التغييرات التي سيحدثها محاضير ومن بعده أنور ستأخذ بعض الوقت، ولكنّها أغلب الظنّ ستكون تغييرات إيجابية تدفع الاقتصاد الماليزي إلى الأمام.

لا شك أنّ السنة الأولى من حكم محاضير ستحدد مستقبل تحالف الأمل ومستقبل ماليزيا، وإن كان التغيير بحد ذاته سنة كونيّة ويمكن أن يضيف قوة إلى الوضع السياسي في البلاد نتيجة لإيقاده حالة التنافس بين القوى السياسية الرئيسة، وتصعيده قيادات جديدة برؤى جديدة وتجارب مختلفة وهو ما سيثري، دون شك، التجربة السياسية الماليزية ويجعلها أكثر تطوراً وتنوعاً، كما أنّ تداول السلطة الذي حدث سيزيد الثقة بالديمقراطية الماليزية واستقرار البلاد الأمر الذي سينعكس إيجاباً على الاستثمارات الأجنبية.

تأثيرات انتقال السلطة على الوضع الاجتماعي (ملايو-صيني)

الهاجس الذي تركته اضطرابات عام 1969م، في أنفس الماليزيين، ما زال يسيطر على أذهان فئات واسعة من النّاس، والسؤال المطروح من جهة الأغلبية المالايوية إلى أيّ مدى سيستمر مشروع تمكين المالايويين في ظل حكومة تحالف الأمل؟ بينما السؤال المقابل الذي سيطرحه الصينيون فهو، متى ستنتهي سياسة التمييز ضد الصينيين وستكون هناك سياسة قائمة على مبدأ المواطنة التي تساوي بين جميع المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم العرقية؟

قد يخفف من وطأة هذا التناقض في المصالح بين العرقيتين الكبريين، حصول قناعة عند كثير من السياسيين المالايويين وعلى رأسهم محاضير وأنور، أنّ السياسات التفضيلية التي اتبعها السياسيون منذ الاستقلال والمنصوص عليها في الدستور، لم تنجح بشكل كبير، بتمكين المالايويين بالشكل المطلوب، بل حوّلت قطاعات واسعة منهم إلى إتكاليين على الدولة وأنشأت نخبة رأسمالية من المالايويين ساهمت هي الأخرى باستغلال البلاد دون أن ينعكس ذلك بشكل كاف على ترقية أبناء العرق المالايوي.

إنّ القناعات يمكن أن تدفع السياسيين إلى اتخاذ سياسات جديدة لتمكين مالايويين تعتمد أساليب غير تمييزية، وهو ما سيصب حتماً في مصلحة كل من الصينيين والمالايويين على السواء.

الوضع السياسي الداخلي

لعل أبرز الأسئلة التي يطرحها المتخوّفون من الوضع الجديد الناشئ عقب الانتخابات فيما يتصل بالوضع السياسي الداخلي، سؤالان: هل سيسيطر الصينيون على البلاد، وهل سيعود حزب أمنو إلى السلطة مجدداً؟

وللإجابة على السؤال الأول يجب أن نتذكر أن الصينيين كانوا دائماً موجودين في الحكم حتى في زمن أمنو، من خلال حزب (MCA) وأنّ فكرة سيطرتهم على البلاد أمر غير واقعي، إذ أن توزيع المقاعد البرلمانية ضمن للمالايويين أغلبية مطلقة على الدوام، كما أن جانب كبير من قوى المعارضة هي مالايوية، خلافاً لانتخابات 2013م التي كان الحضور الصيني فيها أعظم، إذ أن عدم الرضا المالايوي في هذه الانتخابات هو من أسقط حكومة التحالف الوطني بقيادة أمنو وليس الصينيون. كما أنّه من غير المستبعد أن ينضم الحزب الإسلامي الماليزي مرة أخرى إلى المعارضة كما كان في الدورة السابقة، وقد بدأنا نرى انشقاقات وانتقالاً في الولاء من حزب أمنو في ولاية صباح، على سبيل المثال، إلى جانب محاضير وهو ما يتوقع أن يزداد خلال الفترة القادمة، وكل ذلك سيزيد الكتلة المالايوية وسيقلل التأثير الصيني وفرصة تحكمه في مقاليد الأمور.

أمّا عودة حزب أمنو إلى السلطة قريباً، فهو أمر مستبعد أيضاً، إذ أن خسارة الحزب لم تبدأ في هذه الدورة بل من الدورة السابقة عندما فقد أغلبية أصوات الناخبين ومنعه من خسارة الحكم، التوزيع غير المتساوي لمقاعد البرلمان، ويعود ذلك بشكل رئيس إلى تآكل شعبية الحزب، ورغبة قطاعات واسعة من الشباب بالتغيير، ولعل السبب الأهم الذي يجعل هذه الدوافع تتفاعل وتؤدي إلى خسارة الحزب، هو تزعم محاضير والذي يُعد عرّاب أمنو، لهذه المعارضة، وإطلاقه حملة واسعة باتهامات لرئيس الحكومة بالفساد.

ستدرك النواة الصلبة من حزب أمنو عمّا قريب أن من مصلحتها التصالح مع محاضير وأنور والخروج بأقل الخسائر، وسنرى على أثر ذلك ربما إعادة تشكيل للتحالفات وربما انشقاقات واسعة، ولذا من المستبعد جداً عودة الحزب إلى الحكم في فترة قريبة، إلا إذا حصلت مشاكل عميقة وسريعة في تحالف الأمل أدت إلى تفككه وهو أمر مستبعد أيضاً.

العلاقات الدولية لماليزيا

1ـ الولايات المتحدة الأمريكية

تميل ماليزيا عادة إلى الاهتمام بالإقليم وخصوصاً تلك الدول المنضوية تحت منظمة آسيان وعدم النشاط وراء ذلك، غير أنّ هناك تأثيرات كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية على السياسات الماليزية بحكم كونها القوى الكبرى في العالم، ويبدو أن قدوم أنور إبراهيم إلى السلطة، وهو من أشد السياسيين الماليزيين قرباً من الولايات المتحدة الأمريكية، سيحسن العلاقة بين الطرفين، إثر تكدرها بعد أن أعلنت السلطات الأمريكية عن قضايا فساد خاصة برئيس الوزراء السابق نجيب، وتوجهه إلى مزيد من الانفتاح على الصين.

2ـ الصين

تعلّمت الصين دروساً قاسية من تغيير الحكومات وأنظمة الحكم في البلدان التي تتعامل معها وتستثمر فيها، وعلى رأس هذه التجارب سقوط نظام القذافي الذي كانت نتائجه خسارة مليارات الدولارات من الاستثمارات الصينية، وكذلك تغير حكومة راجا باكسا في سريلانكا، وما ترتب على ذلك من تأخير في المشاريع الصينية، ومحاولة تكرار ذلك في المالديف، ولعل أهم ما تعلمته هو كيفية المحافظة على المصالح الصينية من خلال التفاوض والدبلوماسية. ويبدو أنّ توجهات نجيب نحو الصين وتوقيعه لمشاريع ضخمة معها ستكون من أوائل ما سيتعامل معه محاضير، وهو ما صرّح به عقب إعلان نتائج الانتخابات على الفور، وهو أمر لا يتوقع أن يكون انقلاباً كاملاً بالسياسة نحو الصين، فمحاضير يقرأ خارطة القوى الدولية والآسيوية على وجه التحديد، بشكل جيد، ويعرف أنّ الصين لها تأثير كبير ومتزايد في المنطقة، ولذا فإنّه لن يدخل في مواجهة أو صراع مع الصين، بل على العكس ربما يستمر في تحسين العلاقة معها وإعادة التفاوض على شروط العقود الموقعة معها، ولا يبدو أنّ الصين تمانع ذلك، من خلال قراءة التجربة السريلانكية.

3ـ إيران

يقيم عشرات الآلاف من الإيرانيين في ماليزيا، نتيجة لسياسة الانفتاح التي تتبعها ماليزيا، غير أنّ أثرهم محدود في الأوساط الماليزية. ولكن الشأن الإيراني قفز إلى السطح عندما ساءت العلاقة مع إيران في عهد نجيب قبل حوالي أربع سنوات وذلك بضغوط سعودية، حتى وصل الأمر إلى إصدار فتوى من جهات رسمية ماليزية بتكفير الشيعة، واستغلت حادثة اكتشاف حسينية شيعية في كوالالمبور وتشييع بعض الماليزيين لخلق جو مضاد للتشيع، وهو ما حاولت إيران التغلب عليه من خلال إيفاد بعض الوفود غير الرسمية حتى من السنة المؤيدين لها لإقناع الماليزيين بتغيير موقفهم المتصلب، ولا يبدو أن محاضير يختلف من حيث المبدأ، عن نجيب في موقفه من التشيع، فقد علمت أن وفداً زار ماليزيا والتقى محاضير طالباً منه التدخل لدى الحكم بهذا الشأن، فكان موقفه شديداً وقال أنّ مسلمي ماليزيا سنة شوافع ولا يحتمل وضع التجزئة، ورد الوفد خائباً، لكنه على الصعيد السياسي ربما يكون أبعد عن الضغوطات السعودية وما يمكن أن يدفع إلى تحسين العلاقات مع إيران ولو بشكل محدود.

4ـ تركيا

نتيجة للعلاقة الشخصية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأنور إبراهيم، سادت علاقة من الفتور وشبه القطيعة بين البلدين، ورغم وساطات متعددة لإصلاح العلاقة بين حكومة نجيب وتركيا، كان أردوغان يشترط دائماً، إطلاق سراح أنور ورد الاعتبار إليه، وهو ما لم يكن ممكناً، فاستمرت العلاقة على الوجه الذي سبقه وصفه. لذا، من المتوقع أن تتحسن العلاقة بين البلدين بشكل سريع وكبير خصوصاً إثر تبوء أنور رئاسة الوزراء، وهو ما سيكون دون شك في مصلحة كل من البلدين.

5ـ السعودية

أصبح معلوماً لدى عامة الماليزيين الدور الخطير الذي اضطلعت به السعودية بالتأثير على مجريات الانتخابات عام 2013م، وتقديمها مبالغ إلى رئيس الوزراء السابق من أجل التأثير على نتائجها، وهو ما يعد تدخلاً خطيراً في السياسة الداخلية الماليزية، واليوم مع خسارة نجيب ومجيء المعارضة إلى السلطة سيتم استحضار هذا التاريخ السلبي، غير أنّ ارتباط الشعب المالايوي المسلم بالسعودية كأرض للحرمين الشريفين، ومرجعية دينية إسلامية سيخفف من التداعيات السلبية لهذا التاريخ، إذ من المهم لكل من يريد أن يحكم ماليزيا أن يقيم علاقة طيبة مع السعودية، ولكنّها ستكون هذه المرة حذرة وربما تميل إلى الفتور.

6ـ الإمارات

ارتبط اسم الإمارات بالفضائح المالية التي تم الكشف عنها في ماليزيا وخصوصاً استثمارات مؤسسة ساتو ماليزيا، وعلاقاتها المريبة مع رجالات الحكم السابق، وهو ما سيجعلها عرضة لغضب الحكومة الجديدة، وهي تفتقد لميزة السعودية كمرجعية دينية، لذا فإن الآثار السلبية على العلاقة بين البلدين من المرجح أن تكون أكثر ظهوراً، كالفتور وضعف التعاون الاقتصادي، وربما هجمات كلامية حادة من قبل محاضير وبعض من قادة المعارضة.

7ـ القضية الفلسطينية

أبدت حكومة نجيب تأييداً كبيراً للقضية الفلسطينية، مثّل أوجها زيارته إلى قطاع غزة عام 2012م، واستضاف الحزب الحاكم حينها قادة حماس أكثر من مرة في مؤتمراته السنوية، كما استقبل نجيب رئيس حركة حماس خالد مشعل، وزعماء فلسطينيين آخرين أكثر من مرة، ولا تفتأ تتخذ مواقف مؤيدة متقدمة في هذا المجال، ومع ذلك فإنّ تغيير الحكومة سيأتي بقادة ربما، أكثر تأييداً للقضية الفلسطينية، خصوصاً من حزب أمانة والذي يعدّ المنصة السياسية الرئيسة للإخوان المسلمين الماليزيين، وعلى رأسهم هؤلاء شخصيات مثل حسن الدين وهو من المشاركين في سفينة مافي مررة ومؤسسي أكبر مؤسسة ماليزية مؤيدة لفلسطين، أقصى شريف، ومازلي مالك، فضلاً عن تأييد أنور ومحاضير للقضية الفلسطينية، ولذا فإنّ التأييد للقضية الفلسطينية سيزداد في الفترة القادمة وربما يتجلى ذلك بمساعدات إنسانية ماليزية لقطاع غزة وصوت أعلى لصالح فلسطين في المحافل الدولية

أبعاد زيارة نتنياهو إلى الهند

د. محمد مكرم بلعاوي ..

جرت العادة في إسرائيل، أن يبادر الساسة إلى حرب مع الفلسطينيين أو حملة عسكرية واسعة أو اغتيال شخصية فلسطينية بارزة، كلما تعرضوا لأزمة داخلية أو فضيحة، كي يصرفوا انتباه الجمهور، وليس نتنياهو استثناء من هذه القاعدة، فقد حاول في تسعينيات القرن الماضي اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في شوارع عمان، ما أوشك أن يعرّض اتفاقية السلام مع الأردن برمّتها للانهيار، ولكنّه اليوم في موقف يسرّ أعداء ويغيظ أصدقاءه، إن كان له أصدقاء، بكل تأكيد. فالفضائح تحيط به من كل جانب، ابتداء من مساعديه الذين أصبحوا مشهد استدعائهم إلى مركز الشرطة على خلفية رشى وسوء استخدام للسلطة، أمراً معتاداً، مروراً بزوجته “سارة”، التي اتهمت ببيع زجاجات المشروبات الفارغة والاستيلاء على ثمنها، ثم طلبها رشى على شكل مجوهرات من رجال أعمال، وابنه “يائير” الذي تورط في مشاكل أخلاقية في مرقص عراة، وليس أخيراً به نفسه وهو ما فتأ ينفي وقوعه في وحل صفقة غواصات ألمانية مشبوهة، ما جرّ عليه غضب الساسة المنافسين واتهامهم له باللصوصية وعدم الحياء، ونزول عشرات الآلاف إلى شوارع تل أبيب مطالبين باستقالته ومحاكمته.

هو يعلم أنّه غير قادر على فتح حرب مع غزة ولا توجيه ضربة أخرى للضفة، فماذا يفعل؟ حاول أن يسجِّل نصراً سياسيّاً عن طريق إعادة اختراق القارة الإفريقية وتقديمه لجمهوره على أنّه فتح مبين فأعلن عن عقد مؤتمر الشراكة الإسرائيلية الإفريقية في توغو، فباء بالفشل وتمّ إلغاء المؤتمر واستقال على إثر ذلك وكيل وزارة الخارجية دوري غولد والذي كان من عتاة مؤيديه، ثمّ تبعه غير بعيد، الضابط المسؤول عن استعادة الجنود الأسرى في قطاع غزة بعدما لاحقه أهالي الجنود بتهم عدم الكفاءة واللامبالاة.

ضغط على رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تحقيق حلم صهيوني قديم بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، فكان ذلك سبباً بإضافة مزيد من اللطخات إلى سجل الرجلين ووقوف العالم بأجمعه ضدهما في الأمم المتحدة فكانت فضيحة كبرى، هذه المرة بتوقيع أممي، وعلى رؤوس الأشهاد. وبما أنّه لا يريد حرباً أخرى مع غزة، ولا أسرى جددٍ يضافون إلى قائمة الأسرى والمفقودين الإسرائيليين، فهو يتجنب وقوعها بكل السبل الممكنة رغم تصريحاته الجوفاء عن القضاء على الإرهاب والتخلص من أنفاق وصواريخ غزة.

وكعادة نتنياهو وأضرابه ممن اتخذوا العنجهية في الخطاب والسلوك سياسة، لا بد من الهروب إلى الأمام، ولا خير من تحقيق نصر معنوي كبير بزيارة دولة تعد الثانية حجماً في العالم، وتقديم ذلك كفتح كبير في الدبلوماسية الإسرائيلية، رغم تلقيه صفعة مؤلمة منها قبل أيام قلائل حين صوتت ضد قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، قبل أيام قلائل، فهرع إلى الهند ليرد الزيارة لصديقه، رئيس الوزراء نارندرا مودي، وما أن أتيحت له فرصة للحديث حتى أخذ يتبجح ويتوعد بالقضاء على المقاومة الفلسطينية وسحق الإرهاب كما يزعم، رغم أنّه ترك جيشه خلفه لا يدري من أين سيتلقى الصفعة القادمة.

بعد خمس عشرة سنة، منذ أن زار إريئيل شارون الهند عام 2003م، يقوم نتنياهو بزيارة الهند، هذا البلد العملاق، ويقف إلى جانب مودي لينثرا الزهور على قبر المهاتما غاندي، وليتلقط الصور ظانّاً أن لها تأثير مساحيق الغسيل كما تظهر في الإعلانات، على يديه الملطختين بالدماء. تُرى ماذا يمكن لغاندي أن يقول لو قُيّظ له أن يرى هذا المنظر، ونتنياهو الذي ينتمي للحركة الصهيونية التي مات وهو يحذر منها ويستنكر فكرها، يقف رغماً عنه كي يلتقط معه صوراً أقل ما يقال فيها أنّها نموذج كامل للسخرية السوداء.

نتنياهو الذي ترك خلفه شعباً تحت الاحتلال ومئات من الأطفال الفلسطينيين خلف القضبان ومئات غيرهم تم إعدامهم خارج نطاق القانون، قدم إلى الهند مصطحباً معه طفلاً لأحد القتلى اليهود الذين قضوا في هجمات مومباي الإرهابية عام 2008م يستدر به عطف الشعب الهندي، وهو الذي شرّع اغتيال شعب بأكمله بتهجيره من أرضه وإقامة المستوطنات على ترابه، وأطلق الرصاصة الأخيرة على ما يسمى بحل الدولتين، حتى بات موضوع الصحافة الإسرائيلية هل حل الدولة الواحدة ممكن أم لا، متجاهلاً أن الإسرائيليَين الذين أسسا مركز “الضيافة” الذي استهدفته العملية الإرهابية، كانا جنديين سابقين في الجيش الإسرائيلي وغالبية ضيوفهما كانوا من نفس النوع.

ولمزيد من الأنسنة وتبييض الصفحة، تتضمن زيارة نتنياهو توقيع على مذكرة تفاهم بين مستشفى إسرائيلي وآخر هندي، وزيارة إلى عاصمة الأفلام الهندية بوليوود، وتقديم هدية عبارة عن سيارة لتحلية المياه لنظيره الهندي، والمشاركة في افتتاح مزرعة للنخيل، وزيارة لمركز للإبداع التقني، مما يمكن له أن يجمّل الوجه الدموي لإسرائيل والذي انطبعت صورته في ذهن الشعب الهندي لعقود، ولكنّ لبّ الزيارة كما يعرف من لديه أدنى إطلاع، هو صفقات السلاح التي تريد توقيعها إسرائيل مع الحكومة الهندية وخصوصاً صفقة الصواريخ المضادة للدبابات التي تنتجها شركة رافائيل الإسرائيلية والتي تم إلغاؤها مؤخراً نتيجة لضغوط محلية، علماً بأن الهند هي سوق السلاح الإسرائيلي الأول، وإسرائيل هي مزوّد الهند الثاني بالسلاح بعد روسيا.

صحيح أنّ العلاقة الهندية مع إسرائيل لم يبدأها رئيس الوزراء الحالي مودي، وإنّما في عهد رئيس وزراء من حزب المؤتمر الهند وهي نسيما راو، عام 1993م، إلاّ أن ظاهرة عدم التوازن في العلاقة الهندية الفلسطينية تعزّزت بعد وصول حزب الشعب الهندي (BJP) إلى السلطة عام 2014م، وسط تراجع الأداء الرسمي الفلسطيني والعربي، لصالح علاقة أكثر حميميّة مع الكيان الصهيوني، وتمثّل ذلك في زيادة التعاون العسكري بحيث وصل إلى مستويات غير مسبوقة إذ تعدّ المورد السلاح الثاني إلى الهند بعد روسيا كما أسلفنا، كما شاركت الهند لأول مرة في تاريخها في مناورات الراية الزرقاء مع الجيش الإسرائيلي في نوفمبر 2017م غير بعيد عن حدود غزة، فضلاً عن التعاون في مجالات عدة كالتكنولوجيا والزراعة وتحلية المياه، وبعد أن اطمأن رئيس الوزراء الهندي إثر زيارته لأربعة دول خليجية أنّه لن يجد معارضة عربية تذكر، قام بزيارة تعد الأولى لرئيس وزراء هندي إلى الكيان الصهيوني في تموز/يوليو عام 2017م،  اتسمت بالحميمية بين الطرفين، وسط معارضة خجولة للزيارة داخل الهند، ورغم أنّ الهند ما زالت عند مواقفها التقليدية داخل أروقة المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، فقد صوّتت لصالح فلسطين في قضايا حق تقرير المصير والاعتراض على قرار ترامب في الأمم المتحدة، إلاّ أنّ الجانب الصهيوني يبدو متفهماً لهذا الموقف.

على الصعيد الشعبي، رغم مرور التأييد الشعبي لفلسطين في الهند بحالة من الانكماش منذ اتفاق أوسلو إلاّ أنّ هناك انتعاشه أعقبت هبة باب الأسباط وقرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والذي شهد معارضة واسعة داخل الهند تم التعبير عنها بمظاهرات عديدة وآراء ناقدة في الصحافة، خصوصاً بين المسلمين واليسار، وذلك وسط تتزايد صعوبة التعبير عن آراء مخالفة للتوجه الحكومي المؤيد لإسرائيل، والذي يقدّم العلاقة مع إسرائيل كطوق نجاة إجباري في مجالات الاقتصاد والتطوير العسكري والتكنولوجي والزراعي، ما يمكن أن يقود إلى انقسام حاد في المجتمع الهندي بهذا الخصوص، ما يخشى معه أن تفقد الهند أن تفقد هويتها ومعها أصدقاءها من العرب والمسلمين، لتصنف، بعد أن كانت قائدة المعسكر المضاد للاستعمار، إلى دولة إمبريالية أخرى لا تأبه سوى لمصالح أصحاب رؤوس الأموال ودعاة الحروب

تحديات ما بعد جولة ترامب الآسيويّة

د. محمد مكرم بلعاوي ..

أكثر ما يُميّز الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، هو ثقته المفرطة بالنفس، ففي جولته الآسيوية قدم اقتراحاً طريفاً عند زيارته لهانوي ، فبعد أن قدّم نفسه كوسيط للرئيس الفيتنامي تران داي قوانغ بين الصين وفيتنام، في مجال تسوية نزاع البلدين في بحر الصيني الجنوبي خاطبه قائلاً له:” إذا كان بإمكاني التوسط أو التحكيم أعلمني بذلك فأنا وسيط جيد.” وسرّ الطرافة في هذا العرض أنّ الأمريكيين، فيما يبدو، يرون أنفسهم كقوة خير وإحسان في المنطقة، بينما يراهم كثير من الآسيويين كقوة احتلال ورثت الاستعمار وأقامت فيها قواعد عسكرية عالية التسليح، وهي تبرر وجودها في المنطقة تحت عنوان حفظ أمن الملاحة البحرية وحقوق الدول الضعيفة، ما يشكل إمّا انفصالاً عن الواقع أو محاولة تزويره بالقوة حيناً وبأساليب زلقة أحياناً.

الصينيون، وإن كانت علاقتهم بفيتنام قد تسمّمت ووصلت إلى أدنى مستوى لها في فترة السبعينيات من القرن الماضي إثر حصول حرب بين البلدين احتلت الصين خلالها مساحات واسعة من فيتنام ثم انسحبت، يدركون أن المشترك بين البلدين كبير جداً، ففضلاً عن الجوار هناك اشتراك بالأيدولوجيا الشيوعية بين الحزبين الحاكمين في البلدين. أمّا الفيتناميون وإن كانوا يستفيدون من الاستثمارات الخارجية الأمريكية ولكن بلادهم كانت تحت احتلال أمريكي مباشر، فكيف ينسون ذلك ويقبلون بالأمريكيين وسيطاً مع جيرانهم.

الآن وبعد عقود من المحاولات الصينية لتحجيم الدور الأمريكي في المنطقة والتأكيد في كل مناسبة أن الخلافات الإقليمية يمكن حلها بمفاوضات مباشرة بين دولها، يأتي هذا الاقتراح الترامبي الغريب. والتقط الصينيون الرسالة على الفور، ففي يوم الأحد الذي يليه كان الرئيس الصيني تشي جنبينغ يزور فيتنام ويلتقي برئيس الحزب الشيوعي ناغويان بهو ترونغ، ويوقعان على اتفاقية لحل المشاكل العالقة بين البلدين منذ عقود.

لعل لسان حال ترامب ومقاله يعلن أنّه قادر على تحقيق ما لم يحققه من سبقه من الرؤساء والإدارات الأمريكية، ولذا فإنّه عمليّاً، يلغي كل الاتفاقيات الجماعيّة مع القارة ويعيد التفاوض على الاتفاقيات الثنائية بين بلده وسائر البلدان الآسيوية معيداً رسم علاقة أمريكا بالقارة من جديد، ولكن هذه المرة ساحباً بقيّة الجزرة التي كانت بلاده تقدمها كمكافأة للآسيويين لاستقطابهم بعيداً عن الصين، ومحرّضاً بعضهم على بعض، كي ينخرطوا في مواجهات عسكرية هم بغنى عنها ولا يرغبون بها.

أمّا اللغة التي استخدمها ترامب في جولته الآسيوية فهي لا تخفي النوايا الأمريكية للقارة، فخلافاً للإصطلاح الشائع في مجال وصف الجزء الجنوبي الشرقي من آسيا وهو آسيا باسيفيك والذي استخدمه الرؤساء الأمريكيين السابقين، عمد ترامب لتسمية المنطقة (Indo-pacific) هندوباسيفيك، مقحماً الهند، العدو اللدود للصين، في معادلته الآسيوية في رغبة منه لصنع “تحالف ديمقراطي” يضم كل من الولايات المتحدة واستراليا واليابان والهند وهي تصنف وفقاً للمنظور الأمريكي كدول ديمقراطية تؤمن بالانتخابات وفكرة تداول السلطة، ما يمكن تصنيفه أيضاً من زاوية الأنظمة الآسيوية التي تأتي من خلفيات يسارية بتحالف اليمين فهو يضم حكومات يمينية محافظة في كل البلدان المذكورة، وربما شكلاً آخر للحرب البادرة، التي كانت سائدة في أواسط القرن العشرين بين الغرب تحت زعامة أمريكا، والدول اليسارية تحت زعامة الإتحاد السوفياتي.

وفي ظل تعثر الاستراتيجية الأمريكية في قارة آسيا، يبدو أنّ الصين تكسب جولات متعددة وإن كانت صغيرة، على حساب التراجع الأمريكي، ففي مكان آخر من القارة كانت المبادرة الصينية المعروفة باسم “مبادرة الحزام والطريق”، والتي ترمي إلى تعزيز شبكة الصين التجارية مع العالم عبر ما كان يعرف باسم طريق الحرير، تسير قدماً على أكمل وجه، فقبيل أيام من جولة الرئيس الأمريكي الآسيوية، وبالتحديد في الثلاثين من تشرين ثاني/ أكتوبر 2017، دشن رؤساء كل من تركيا رجب طيب أردوغان، وأذربيجان إلهام علييف، وجورجيا جورجي كافيشفيلي، خط باكو-تبليسي- قارص للسكة الحديد، وطوله 826 كيلومتر منها 105 كيلومتر جديدة، ويتوقع أن ينقل مليون راكب سنويا وخمسة مليون طن من البضائع، تصل الصين عبر كازاخستان فجورجيا فأذربيجان فتركيا بأوروبا بدون المرور في روسيا، وهو خط من شأنه أن يقدّم دفعة للنمو الاقتصادي لهذه البلدان وللتجارة الصينية مع أوروبا، في وقت كان الرئيس الأمريكي يلغي اتفاقية التجارة العابرة للمحيط الهادي التي كانت تربط بلاده ببلدان شرق آسيا، دافعاً هذه البلدان بعيداً عن أمريكا إلى أحضان الصين.

خريطة: خط باكو – تبليسي – قارص للسكة الحديد

وخلافاً لرغبة ترامب الذي يستخدم لهجة تصعيدية مع كوريا الشمالية مهدّداً بإطلاق حرباً مدمرة، لن تكون كوريا الشمالية ضحيتها الوحيدة، فإنّ المنطقة ترى في هذه الحرب حرباً عبثيّة هي بغنى عنها، وتفضل الخيار الدبلوماسي والتأثير على السلوك الكوري الشمالي من خلال وسائل سلميّة، ولا أحد اليوم أقدر من الصين على فعل ذلك، فالحل إذن لهذا الوضع بالغ الصعوبة، يكمن في اليد الصين والتي يمكن أن تحدد مصير المنطقة عن طريق حليفتها كوريا الشمالية، ما يعني أنّ على دول المنطقة طلب الرضى الصيني واقناعه دائماً بضرورة ضبط سلوك حليفه الذي يبدو غير آبه بالتهديدات الأمريكية على الإطلاق، بل أنّه يرى في تسلحه أمان له من مصير شبيه بمصير القذافي وصدام حسين اللذين لقيا حتفهما إثر التدخل العسكري الأمريكي في بلديهما.

وها هي الصين تظهر مناعة لاستراتيجية الاستنزاف الأمريكية مع مرور الأيام، حتى وإن اعتمدت أمريكا في ذلك على تايوان واليابان وكوريا الجنوبية والجيران الآخرين للصين كفيتنام والفلبين، لمحاولة توريط الصين بخلافات مع جيرانها لتعويق نموها الاقتصادي وتبريراً لحضورها العسكري الدائم في المنطقة بزعم حماية دول المنطقة من المد الشيوعي والخطر الصيني، ولكن الأيام حملت لأمريكا ما لم يكن بالحسبان، إذ ها هي الفلبين تنتخب رئيساً يساريّاً يتجه نحو الصين ويسوّي خلافاته معها فيما يختص ببحر الصين الجنوبي ضارباً بحكم محكمة التحكيم الدوليّة والتي حكمت للفلبين بالأحقية في نزاعها مع الصين، مفضلاً المساعدات الصينية خصوصاً في مجال البنية التحتية، على حكم لا قيمة له على أرض الواقع.

أمّا تايوان فقد توارت منذ زمن بعيد عن نشرات الأخبار ولم يعد يُسمع لها صوت مخافة إغضاب الصين التي أصبح بيدها الكثير من الأوراق التي تلعبها في حال تم استخدام تايوان التي تعتبرها جزءاً لا يتجزء من التراب الصيني، ضدها. وإذا نظرنا إلى كوريا الجنوبيّة فآخر ما تحتاجه هو حرب مع جارتها الشمالية وهب بأمس الحاجة إلى علاقة طيبة دائمة مع الصين كي تأمن على نفسها من شقيقتها الشمالية، والتي تعتبر الجهة الوحيدة التي لديها القدرة على كبح جماح الطوفان الكوري الشمالي، وهو ما ينطبق على اليابان أيضاً، أما فيتنام الأخ العدو للصين فقد أشرنا مسبقاً أنّ العلاقات بين البلدين آخذة بالتحسن بسرعة إثر الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني إلى فيتنام ووقّع فيها اتفاقية لحل النزاع على بحر الصين الجنوبي.

في ظل هذه المعادلة المعقدة، هناك الجار الشمالي للصين والذي لا يريد أن يغيب عن هذا المهرجان ويأمل أن يحصل على حصته غير منقوصة، وهو روسيا الاتحادية، أكبر بلد مساحة على هذا الكوكب ووريثة إمبراطورية الاتحاد السوفياتي السابق. روسيا تستشعر أهمية المنطقة المتنامية، فالروس يلمسون أنّ الحيوية الاقتصادية بدأت بالانتقال من أوروبا الغربية إلى منطقة آسيا باسيفيك وهم يريدون حصتهم من الكعكة كما أسلفنا، كما أنّهم معنيون كثيراً بتمنية نفوذهم في المنطقة بغية تطوير سيبيريا والتي تعاني من مشكلة روسيا المزمنة وهي غياب الموانئ الدافئة التي تمكنها من التواصل مع العالم بيسر.

وتتمتع روسيا اليوم بعلاقة طيبة مع الصين فهما يشتركان في منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، وتشكل قطعة أساسية في مبادرة الحزام والطريق الصينية، كما أنّ علاقتها المميزة مع كوريا الشمالية يمكن أن تتيح لها مد خط غاز وسكة حديد إلى كوريا الجنوبية في حال استطاعت أن تقنع الكوريتيين بحل مرضٍ لمشاكلهما، ما يمكنها من الوصول إلى الموانئ الدافئة في جنوب شبه الجزيرة الكورية.

إذن الاستراتيجية الصينية تسير بثبات وهدوء في المنطقة، بينما الولايات المتحدة تعوّل باستراتيجيتها على الحكومات اليمينية في الهند واليابان، ولكن ما الجديد في هذه المعادلة، فاليابان حليف قديم لأمريكا؟ الجواب هو في الدور الهندي، إذ تسعى أمريكا لتقوية الهند وزيادة حضورها في قضايا المنطقة أمام تزايد النفوذ الصيني، وبذا يمكن فهم التقارب المتزايد بين حكومتي الهند واليابان وسعيهما إلى إنشاء خطوط نقل وتجارة لمواجهة “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، فعقب إعلان الرئيس الصيني شي جنبينغ، عن مبادرته الطموحة في عام 2013م، قام رئيس الوزراء الهندي مودي، بإعلان رؤيته لمشروع مقابل، في اجتماع بنك التنمية الإفريقية (AfDB) المنعقد حينها في ولاية كجرات الهندية، وفي عام 2016م استطاع مودي ورئيس وزراء اليابان آبي، التوصل إلى اتفاق مشترك لمشروع تم تسميته بممر التنمية الآسيوية الإفريقية، Asia-Africa Growth Corridor (AAGC) ، وهو مشروع ضمن مشاريع أخرى على طاولة صانع القرار الهندي.

السؤال الذي يبقى معلّقاً في الوقت الحالي، هو هل سيخرج الأمريكيون من جعبتهم ما يغيّر هذا الوضع المعقد في القارة الآسيوية، أم ستبقى الاستراتيجية الأمريكية رهينة لعقدة التردد والأساليب القديمة؟