بايدن أمام إخفاقات الخارج والداخل

شكّلت السياسة الخارجيّة الأمريكية في بداية عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، لغزا مستعصيا على الفهم حتى لأقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنّ الرجل عمل على نقض كثير مما أبرمته أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية، مبتدئا بالحلفاء الأوروبيين، والأصدقاء الآسيويين، وخافضا الجناح لدول طالما نظر إليها كقوى مارقة، على غرار مباحثاته مع كوريا الشمالية، وعلاقته الجيدة بالرئيس الروسي بوتين.

بل إنّه انسحب بالفعل من بعض الاتفاقيات والمنظمات التي دخلها أسلافه، كاتفاقية باريس للمناخ والاتفاق (UNFCCC) والاتفاق النووي مع إيران (JCPOA) المسمى 5+1، واتفاقية الشراكة العابرة المحيط الهادي (TPP) وكثير غيرها، كما هدّد بالانسحاب من أخرى وعلى رأسها منظمة حلف شمال الأطلسي (NATO) ومنظمة التجارة الدولية (WTO)، ومارس سياسة الابتزاز حتى على أقرب حلفائه، كالأوروبيين والخليجيين والشرق آسيويين؛ متهما إياهم بالتطفّل على قوة الولايات المتحدة وعدم دفع ما عليهم من استحقاقات مقابل الحماية.

أكثر من ذلك، تجاهل في كثير من الأحيان ترسانة الخبراء الأمريكيين من أكاديميين وبيروقراطيين ودبلوماسيين، الذين يطبعون السياسة الأمريكية بطابعها المؤسسي، وأحل مكانهم مجموعة من الأقارب على غرار ابنته إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر، وزملاء المهنة السابقين كجيسون غرينبلات، وكثيرا ما أقال/ استقال طاقمه، كمستشاري الأمن القومي مايكل فلين وجون بولتون، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، وترك كثيرا من مناصب وزارة الخارجية كالمدراء والسفراء شاغرة فترة طويلة، واعتمد في بناء سياساته على فئة محدودة من الناس؛ تجلّى ذلك بأوضح صوره في ما يسمى بصفقة القرن، التي ولدت مشوّهة في مؤتمر المنامة (25 حزيران/ يونيو 2019م) والمسمى “ورشة عمل السلام من أجل الازدهار”.

لقد كان ترامب أيضا صريحا حدّ الوقاحة في خطابه، وتجاهله الأعراف الدبلوماسية، ما جعل كثيرا من زعماء العالم حتى من حلفائه يعبّرون سرا وعلانية، عن امتعاضهم من أسلوبه الرخيص في استقبالهم ومصافحتهم والحديث معهم. ولا يقل عن ذلك سوءا في ما يختص بالمرأة وحقوق الأقليات، واستهدافه للمسلمين منذ أول ولايته، من خلال قرار يحظر على مواطني ثماني دول أغلبها إسلامية دخول بلاده، الأمر الذي سدّد ضربة مؤلمة لصورة الولايات المتحدة الأمريكيّة في الخارج، التي كانت نتاج عمل طويل وكانت تجليا للقوة الناعمة الأمريكية، ثم إدارته السيئة لجائحة كورونا التي بدأها بالإنكار ثم إلقاء اللوم على الآخرين، دون وعي كاف بخطورة المرض وآثاره على ما يبدو.

ولم يشأ أن يترك منصبه حتى أوشك أن يهدم البناء الذي قامت عليه البلاد، وهو الديمقراطية، من خلال إنكاره المستمر لنتائج الانتخابات وأخيرا تحريضه الغوغاء وبعض مجموعات اليمين المتطرف على اقتحام مبنى الكونغرس (The Capitol Hill)، واضعا النموذج الأمريكي الذي وصل حد الافتخار به أن يضعه المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما كنهاية للتاريخ، مع دول الشرق الأوسط التي تقع في قعر الحضارة الإنسانية في الوعي الأمريكي.

كما قام دونالد ترامب بالتضحية بالحقوق الفلسطينية تحت عنوان صفقة القرن، وعمل كوزير خارجية نشيط مهمته أن يضغط على الجميع من أجل تحقيق أهداف رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالتطبيع، مستهدفا التقرّب من حلفائه الأمريكيين في اللوبي الداعم لإسرائيل، وقوى اليمين المسيحي، عسى أن يساعده ذلك على الفوز بالرئاسة مرة أخرى، فإنّه لأجل نفس السبب وضع مستقبل بلاده على شفير الهاوية، فصار “الإرهاب الأمريكي الأبيض” وليس “الإرهاب الإسلامي” هو الذي تلاحقه عيون مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، كما حصل في حفل تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن عند التحقق من هويات أفراد الحرس الوطني.

يتركنا هذا الميراث الثقيل مع جملة من الأسئلة، لعل أهمها يتعلق بحجم الضرر الذي أحدثه ترامب داخل المجتمع الأمريكي، ومدى اتساع الهوة المجتمعية بين مكوناته، وإمكانية تأثيرها على أداء الدولة وانصرافها عن الاهتمام بالعالم الخارجي أو جعل ذلك أمرا ثانويّا، واحتمال المساس بمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية كقوة مهيمنة على العالم، وما يتبع ذلك من اختلالات في النسق الدولي في حال تأثر هذه المكانة، خصوصا مع صعود قوى إقليمية طامحة كالبرازيل وكوريا وإيران وتركيا، وأخرى ترنو إلى أداء دور عالمي يعبر الإقليم كالصين والهند.

إنّ استراتيجية العصا والجزرة التي لطالما استعملتها الولايات المتحدة الأمريكية لإخضاع دول العالم وإجبارها على الاعتراف بالزعامة الأمريكية، مستندة إلى قوة ردع عسكرية هائلة واقتصاد هو الأقوى في العالم، يمكن أن تتأثر بشكل كبير إن اشتمّت تلك الدول التي ضبطت علاقاتها الخارجية وفق النغم الأمريكي؛ شيئا من تراجع الحضور الأمريكي والانشغال بالشؤون الداخليّة، مما يمكن أنّ يشجع الكثير منها على الدخول في مغامرات إقليمية، قد تُدخل العالم كله في نوع من “الفوضى الخلّاقة”؛ التي ستكون نتيجتها عالم جديد ستجد أمريكا نفسها مرغمة على التعامل معه على علاّته.

صحيح أنّ ترامب لم يحصل على ما يكفي من المقاعد، لكنّه قام بتحطيم الكثير منها على مبدأ عليّ وعلى أعدائي. فهل ستذهب فترة بايدن في محاولة تلافي أخطاء ترامب واسترداد ما فرط به، في وقت أصبح الجميع يتحدثون عن الصعود الصيني الصاروخي، جاعلا الهوة تتقلص بسرعة بين القوتين، ومحوّلا الصين عمّا قريب إلى قطب عالمي جديد، سيكون على الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف به كشريك أو خصم، وسينهي – على الأرجح – حالة القطب الواحد التي برزت على مسرح السياسة الدولية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي؟

لقد سمعنا الكثير من التصريحات من بايدن نفسه ومن وزير خارجيته والمسؤولين في إدارته، عن التخلص من ميراث ترامب، والعودة إلى المؤسسيّة والشراكة مع الحلفاء، ولكن ليس كل ما ينكسر يمكن إصلاحه، وليست كل الاتفاقيات كاتفاقية باريس للمناخ، التي أعلنت إدارة بايدن العودة إليها. لقد أصبحت هنالك مجموعة من الحقائق التي لا يمكن القفز عليها، خصوصا في شرق وجنوب شرق آسيا، أهمها أنّ الولايات المتحدة الأمريكية قوة لا يمكن الركون إليها عند الحاجة، بينما الصين التي تصل تبادلاتها التجارية إلى أربعة تريليونات دولار مع المنطقة؛ جار تاريخي يمكن التعايش معه والاستفادة من صعوده، أمّا التعويل على الديمقراطية الأمريكية وإفرازاتها، فهي كمن يدخل في مقامرة غير محسوبة العواقب.

لقد أصبح الاعتبار الاقتصادي هو المقدم على كل الاعتبارات في هذا الجزء من العالم، حتى على الاعتبار الأمنيّ، إذ لا يمكن أن يُبنى بالأمن الأمريكي وحده مجتمع يتمتع بالرخاء، وهو ما تنشده هذه الدول. كما أنّ الولايات المتحدة ليست في وضع اقتصادي يمكنها من اتباع سياسة “دفتر الشيكات”، ولا يمكن أن تعيد التاريخ رغم وجود بعض الحلفاء لها في المنطقة، خصوصا بعد إلغاء اتفاقية التجارة العابرة للهادي (TTP)، ومبادرة الصين لطرح اتفاقية تجارية جديدة (RCEP)، التي شكّلت بديلا إلى حد ما للاتفاقية الأمريكية الملغاة، ووقع عليها حتى حلفاء أمريكا التقليديون مثل اليابان وأستراليا.

في هذا السياق أيضا، جاء رد الفعل الأمريكي تجاه الانقلاب العسكري الذي حصل في الأول من شباط/ فبراير في ميانمار، إذ إنّها فرصة تستعرض خلالها الإدارة الجديدة التغيير الحاصل بعد ترامب، ولكن رغم جمعها لحلفائها الأوروبيين وكل من اليابان وأستراليا ودول أخرى عديدة، لم يكن باستطاعتها إدانة النظام العسكري، ولا يُعتقد أنّ حراكها الدبلوماسي يمكن أن يؤدي بصورة مباشرة إلى تغيير حقيقي في المشهد، والسبب الرئيس هو المظلة الصينية التي ترى في ذلك ضررا على مصالحها.

يمكننا القول؛ إنّ الكرة الأمريكية قد تدحرجت نزولا على المنحدر الآسيوي، ومن الصعب على بايدن وإدارته أن يعيدها إلى القمة مرة أخرى، خصوصا أنّ هنالك من بات ينافسه على هذه القمة، وهو أكثر تماسكا على الصعيد الداخلي، وأقوى على الصعيد الاقتصادي، وأكثر فهما وقربا من تطلبات المنافسة.

المصدر | #العربي21

ميناء غوادر والتعاون الباكستاني الصيني

هذه #المقالة ضمن سلسلة مقالات تتناول طبيعة استراتيجية #الصين وتفاعلاتها الدولية، وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط، وفق استراتيجيتها في بناء الاقتصاد العالمي والوقوف على ركائز هذه الاستراتيجيات والعمليات التي تعمل على تحقيقها.

بين صعود القارة الآسيوية واستعادة مكانتها التاريخية من جديد كمنطقة ثقل اقتصادي مؤثر في الاقتصاد العالمي، تعمل قوى آسيوية: (باكستان الصين وروسيا) على تعزيز حضورها الاقتصادي والسياسي وتستعيد شبكة تفاعلاتها البينية، في مقابل قوى أخرى ما زالت متعهدة مع الولايات المتحدة الأمريكية مثل الهند نتيجة تحديات ناجمة أيضاً عن مخاطر التوازن ومشكلات الحدود، وفي هذا السياق تلعب باكستان والصين دوراً فاعلاً في تحقيق شراكة تتحقق من خلالها مكتسبات مهمة لها علاقة باستعادة الثقل الاقتصادي الذي هو جزء مهم من خطة الحزام والطريق، الواصل إلي باكستان عبر كشمير والممتد إلي (غرب القارة الآسيوية) الشرق الأوسط، والذي يمثل عمق هذا الثقل والتوازن، والذي تتماوج فيه الخريطة السياسية بشكل كبير، مستفيدة تلك القوي من السيولة الحاصلة التي تخلق سهولة في الاختراق، والذي ينطلق فيه هذا المقال بالتركيز على فاعلية ميناء غوادر الباكستاني ودوره في هذا التفاعل.

وهنا فإن ميناء غوادر الباكستاني يعد جزء مهم من خطة الحزام والطريق، والذي دشن أول رحلاته التجريبية في نقل البضائع الصينية الى ساحل بحر العرب عبر الأراضي الباكستانية عام “2016” اذ ان التجارة الصينية تنقل برا على طول مساحة باكستان من خلال الطرق التي تم انشاؤها لتصل الى غوادر، ومن هناك تنقل البضائع الى دول الخليج والشرق الأوسط.

المميزات التي يتمتع بها ميناء غوادر:

1. يقع في الجنوب الغربي لباكستان، وهو ما يعطيه أهمية استراتيجية حيث يطلّ على بحر العرب بالقرب من مضيق هرمز الذي تعبر منه ثلث تجارة النفط العالمية، والذي تسيطر عليه حاليًا الإمارات من خلال ميناء دبي.

2. يساعد موقع الميناء في تقليل الوقت والمال على الرحلات التجارية، ويعدّ موقع الميناء ذا أهمية استراتيجية أخرى لوقوعه بين جنوب آسيا والشرق الأوسط.

3. كما يمثل جزءًا هامًا من طريق الحرير القديم الذي يربط الصين مع أوروبا وآسيا وإفريقيا.

“نقل بتصرف الباحث”

وفي هذا السياق فإن العلاقات التاريخية للبلدين مكنتها من تطور التفاعلات بينهما، حيث تعود هذه العلاقات إلى السنوات الأولى من تأسيس باكستان في سنة 1947، وقد شهدت هذه العلاقات منذ ذلك التاريخ تطورات مهمّة، في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ويتركز الجهد الحالي بين البلدين، على تطوير ميناء “غوادر”.

هذا الميناء الواقع على مياه دافئة عميقة عند نقطة التقاء بحر العرب، وخليج عمان. وفي هذا الإطار: فقد تم توقيع اتفاقية ثنائية بين البلدين في عام “2015” مدتها “40” عام، قائمة على استئجار الميناء، وقد قدّرت تكلفته بـ 46 مليار دولار، ويعتبر هذا الممر بوابة اقتصادية تمتد لمسافة 3000 كم، تبدأ من إقليم سنغان الصيني الذي يعاني من بعض الاضطرابات والقلاقل، مرورًا بباكستان وصولًا إلى الشرق الأوسط. ويعتبر هذا الممر طريقًا مختصرًا للوصول إلى المحيط الهندي دون الحاجة للمرور عبر مضيق ملقا الاستراتيجي والمكتظّ بالحركة البحرية.

مخاوف ميناء “غوادر” على الهند والإمارات:

يعتبر ميناء جبل علي الإماراتي، الخط الملاحي الكبير والطامح التي عملت الإمارات على تطويره وتعظيم دوره بكل الوسائل والطرق، وهو ما جعلها تقف على التحديات التي يمكن أن تبنيها على استراتيجيتها في تحقيق موقع استراتيجيي هام عالمياً.

وفي هذا السياق فهي تعمل على تطوير موانئها وتدشن موانئ قريبة منها من خلال شركة موانئ دبي العالمية، التي تستثمر وتدير شبكة واسعة من الموانئ والمنشآت البحرية تقدر وفقا لموقعها على الانترنت بـ 78 ميناء ومحطة بحرية تتوزع في نحو 40 بلدا على امتداد قارات العالم الست.

كذلك وفي ظل تدشين الصين لميناء غوادر وفي المقابل وجود ميناء جاباهار القريب من الخليج الذي عملت الهند على تدشينه سابقاً وفق اتفاق مع إيران توجهت الحكومة الهندية الى إيران وقامت بتعجيل تطوير ميناء جابهار الإيراني، الذي يبعد 165 كم من غوادر، وقامت بتسليم الميناء بالكامل للهند ضمن خطة تبلغ كلفتها حوالي نصف مليار دولار، فوقع الجانب الهندي مع الإيراني إضافة الى الجانب الافغاني اتفاقية ثلاثية في أيار 2016، لتأسيس ممر شحن دولي من الهند الى الشواطئ الإيرانية مرورا بأفغانستان الحبيسة مائيا.

خاتمة:

عملت الصين على تعزز تفاعلها وفق استراتيجيات عدة للالتفاف على كل حالات المنع التي يمكن أن تعترض طريقها، وعملت على تحقيق اتفاق ثنائي مع إيران لمدة 40 عام بقيمية 400 مليار دولار على الرغم من أن الاتفاق يعتريه بعض الشكوك إلا أنه سيتحقق في الأيام القادمة نظراً لعوامل عدة، وهو قد اغلق هذا الاتفاق الطريق على الهند في استثمارها في جابهار، وهو ما يعزز فرص التعاون الصيني الباكستاني الإيراني، والذي يضمن حصص سوقية عالية بين الصين والبلدين وخط آمن لتحقيق شراكات استراتيجية بعيداً عن الولايات المتحدة الأمريكية.

العلاقات الصينية الإسرائيلية تحت المجهر الأمريكي

تشهد العلاقات الصينية الإسرائيلية تنامياً على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والتكنولوجي، وصلت لحد الاعتراف المتبادل وتطبيع كامل للعلاقات الدبلوماسية، ضمن السياسة الإسرائيلية للتقرب من الدول الكبرى لتحقيق أهداف بعيدة المدى ونيل الاعتراف والشرعية، لكن هذا التقارب يواجه رفضاً أمريكياً وضغطاً في بعض الأوقات لإلغاء بعض المشاريع الصينية في إسرائيل، فيما تحاول إسرائيل تجاوز الرفض الأمريكي دون الضرر بالعلاقة معها، والحفاظ في نفس الوقت على علاقة جيدة مع الصين لأهميتها كقوة اقتصادية وسياسة مقبلة.

مقدمة

لا ينفصل سياق علاقة إسرائيل مع الصين عن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين، بل يتكامل معه ويتساوق معه في غالبية تاريخ العلاقة، غير أنّ علاقة إسرائيل بالصين في الآونة أخيرة أزعجت الأمريكيين بعد أن أخذت تنحو منحًا ذاتيًا غير منسجم مع خطط ومصالح واشنطن.

وكانت منظومة العلاقة الدولية التي ولدت فيها جمهورية الصين الشعبية عام 1949م، تهيمن عليها القوتان الكبيرتان في حينه الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، ولم يلبث أن بدأت بوادر الاختلاف تظهر في المعسكر الشيوعي بين الاتحاد السوفياتي والصين التي لم تكن قد خرجت بعد من أجواء معارك الاستقلال والتأسيس وطغيان الحالة الأيدولوجية التي تدعو إلى وحدة المعسكر الشيوعي مقابل المعسكر الرأسمالي، الواجب هزيمته واحلال منظومة عالمية جديدة تخضع للايدولوجيا الماركسية، خلافاً للحالة السوفياتية التي كان قد مضى على انطلاقها أكثر من ثلاثة عقود، وصار لديها النضج الكافي الذي مكنّها أن تدير دولة لها مصالحها وإكراهاتها وليس ثورة حالمة لا تعرف الحدود، وقد ظهر ذلك في الحرب الكورية التي لعب فيها الاتحاد السوفياتي دوراً مسانداً خلافاً للدور الصيني الذي كان على كاهله أغلب عبء الحرب.

ولم يلبث أن توفي “جوزيف ستالين”، والذي كان في مقام الأخ الأكبر لزعماء الصين وعلى رأسهم “ماو تسي تونغ”، وتولى “نيكيتا خروتشوف”، الذي أراد هدم ميراث “ستالين” وخط توجه جديد في الاتحاد، وهو ما أجّج الخلافات بين الطرفين وجعلها تخرج إلى العلن، كان من أبرز ملامحها، سحب الخبراء السوفيات من الصين عام 1960م، ودعم الهند أثناء حربها مع الصين عام 1962م، والحرب الحدوديّة في نهر أوسوري (Ussuri) عام 1969م، والتنافس على قيادة الحركة الشيوعية العالمية، وصولاً إلى قطيعة بين الطرفين.

ومنذ بدايات السبعينات من القرن الماضي، بدأت الصين تفكّر تفكيراً أكثر براغماتية، فأدركت أنّها مع غياب الخبرات السوفياتية وفشل مشروع “القفزة إلى الأمام” الكارثي، لن تستطيع بالاعتماد على ذاتها فقط في التحول إلى دولة عصرية قوية، كما ثبت بالتجربة، ولذا فما أن بادرت الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تريد استغلال الشرخ داخل المعسكر الشيوعي واللعب على تناقضاته، بمدّ يدها إلى الصين من خلال زيارات وزير الخارجية “هنري كيسنجر” عام 1971 ورئيس الولايات المتحدة “ريتشارد نيكسون” عام 1972، حتى قبلتها هذه الأخيرة وانطلقت مرحلة الشراكة الصينية الأمريكية والتي كانت تهدف من الناحية الأمريكية، إلى إيجاد كتلة ثالثة وازنة لمواجهة الاتحاد السوفياتي، وهو ما تعزّز بعد وفاة “ماو تسي تونغ” عام 1976، وتولي “دينغ شياوبنغ” مقاليد الأمور، الملقب بمهندس النهضة الصينية، لتدفق رؤوس الأموال الغربية إلى الصين وتقيم الشركات الغربية الكبرى مصانعها هناك مستفيدة من العمالة الرخيصة المدرّبة والسوق الصيني الضخم والبِكر، مما أدّى إلى مجموعة من الحقائق أهمها، تحوّل الصين إلى قوة اقتصادية ضخمة، وتعزيز الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة.

لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتحوّل واشنطن إلى قطب أوحد، صارت الصين تمثّل تحديًا حقيقيًا للقيادة والسيادة الأمريكية على العالم، ما دفع الولايات المتحدة إلى أخذ موقف جديد يتلخّص بتحجيم الصين والحيلولة دون تحوّلها إلى قوة عظمى منافسة على غرار الاتحاد السوفياتي السابق، لكنّ انشغال الولايات المتحدة الأمريكية في حرب الشرق الأوسط والحرب على “الإرهاب” جعل المواجهة مع الصين مواجهة مؤجلة أو غير ذات أولوية.

مع قدوم الرئيس “دونالد ترامب” إلى السلطة حاول الأمريكيون وضع خطة مواجهة الصين موضع التنفيذ، من خلال تلقيص الوجود العسكري في الشرق الأوسط، والتفاوض مع “طالبان”، والضغظ على إيران دون الوصول إلى حالة مواجهة عسكرية مباشرة، والشروع في الحرب التجارية على الصين والتي استهدفت الصادرات الصينية وواحدة من أهم الشركات الصينية الكبرى، ألا وهي شركة “هواوي” للاتصالات، كمقدمة لمواجهة أشمل وأكبر، ربما نراها خلال الأشهر أو السنوات القليلة القادمة.

تلك المواجهة التي أعلن ترامب أنها ستقتصر حاليًا على الحرب التجارية، وصرح أن الصين تشكل “تهديدًا للعالم” وتسرق الأموال من الولايات المتحدة من خلال ممارسات تجارية غير عادلة لبناء جيشها”، متابعاً “الصين تبني جيشًا أسرع من أي شخص آخر أرى الصين من نواحٍ عديدة لكن في الوقت الحالي، أفكر في التجارة.

مراحل العلاقات الصينية الإسرائيلية

حكم مسار العلاقة بين “بكين” وتل أبيب آلية معقدة، ابتدأت بممانعة صينية وإقبال إسرائيلي في الخمسينات والستينات مرورًا بغزل صيني وإسرائيلي متبادل وعلاقة سرية في السبعينات والثمانينات وصولاً إلى تطبيع في عقد التسعينيات على المستويات كافة، وإبرام تحالفات إستراتيجية.

وقد تباينت رؤية الأحزاب السياسية في إسرائيل حول الاعتراف بالصين الشعبية عند تأسيسها عام 1949، وكانت الأحزاب اليسارية والاشتراكية من أقوى الأصوات المطالبة والمؤيدة للصين الشيوعية، فقد ألح اليسار الإسرائيلي على الاعتراف بنظام الحكم في بكين انطلاقا من أن إسرائيل بحاجة إلى الاحتفاظ بمدخل إلى كلا المعسكرين “روسيا وأمريكا” الذي ساهم زعماؤهما في تحقيق استقلالها واستمرار بقائها.

يمكن رصد أربع مراحل للعلاقات بين الطرفين منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية إلى اليوم، وهي تلك التي أعقبت إعلان الجمهورية حيث كانت إسرائيل هي أول من بادر إلى الاعتراف بها في منطقة الشرق الأوسط، في محاولة للتقرب من الدولة الجديدة، إلا أن الصين رفضت مبادلتها الاعتراف، واكتفى الرئيس الصيني في حينه ماو تسي تونغ بخطاب شكر على ذلك.

وكانت إسرائيل تأمل من وراء هذا الاعتراف أن يتم الاعتراف بها دولياً بالإضافة إلى محاولتها إيجاد علاقات مستقبلية مختلفة على أساس أن الصين ستصبح في المستقبل قوة عالمية كبرى وعندما سئل بن غوريون “لماذا اعترفت إسرائيل بالصين الشعبية في عام 1952؟ أجاب بقوله: لسبب بسيط، وهو: ولماذا لا تعترف؟ هناك 600 مليون شخص في الصين وإن عدم الاعتراف بها يعتبر إهانة لهم”.

وخلال فترة الخمسينيات والستينيات ومع تدخّل الصين في الحرب الكورية عام 1951م، أيدّت إسرائيل التحالف الغربي تحت عباءة الأمم المتحدة، وأدانت الصين وساندت الولايات المتحدة في حملتها الشرسة ضد التدخل الصيني، الذي كبح من الإقبال الإسرائيلي على الصين، بل جعل إسرائيل تنتقم من البرود الصيني تجاهه، فقد أعلن “أبا إيبان”، وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك :”إن التدخل الصيني غير شرعي ومن المستحيل إنكار وجوده”، وتطور الموقف الإسرائيلي إلى حد التصويت على سلسلة من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة والمعارضة للسياسة الصينية في كوريا، وهو ما أدخل العلاقة في طور سلبي للغاية.

كما كانت الصين تنظر إلى إسرائيل على أنّها قاعدة استعمارية وكيان معتد، وقد تعزّز هذا الموقف مع تنامي علاقات الصين بمصر وسوريا من خلال “منظمة عدم الانحياز” ثمّ العدوان الإسرائيلي على البلدين عام 1967م.

أمّا المرحلة الثالثة فهي التي أعقبت تولّي الزعيم “دينغ” لمقاليد الأمور في الصين وانفتاحه على المعسكر الغربي، وقد شهدت هذه الفترة غزو الاتحاد السوفياتي لافغانستان ممّا جعل الصين تستشعر خطرًا أكبر من هذا الباب، ودفعها إلى مزيد من التقارب مع المعسكر الغربي ومنه إسرائيل.

المرحلة الرابعة والراهنة، هي التي بدأت مع بدء العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في مطلع التسعينات، حيث كرست إسرائيل جهودها للاتصال مع القادة الصينين، وكان افتتاح الممثلية الإسرائيلية في بكين في عام 1990م إنقلاباً في العلاقة، وشهد عام 1991 اتصالات دبلوماسية مكثفة بين الصين وإسرائيل لوضع اللمسات الأخيرة وبناء جسور الثقة وتعميق التفاهم بهدف إقامة علاقتهما الدبلوماسية.

وبدأت العلاقات الدبلوماسية الرسمية الكاملة الإسرائيلية والصينية عام 1992، وحينها بدأ “ديفيد ليفي” نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيلي بزيارة إلى الصين وقع خلالها مع وزير الخارجية الصيني آنذاك “تشيان تشي شن” على بيان إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإسرائيل، والذي نص على :”إن حكومة جمهورية الصين الشعبية ودولة إسرائيل قررتا إقامة علاقات دبلوماسية بينهم على مستوى السفراء في 24 كانون الثاني عام 1992، إن حكومة دولة إسرائيل تعترف بأن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثل الصين كلها، وأن تايوان جزء لا يتجزأ من أراضي جمهورية الصين الشعبية”.

وحاولت الصين الإمساك بالعصا من المنتصف في علاقتها مع الفلسطينيين والإسرائيليين داعية إلى خطة النقاط الأربعة التي أطلقها الرئيس “شي جينبينغ” عام 2017م، التي تتماشى بالمجمل مع مبادرة السلام العربية وحل الدولتين المقبول أمريكيًا وأوروبيًا، التي تقوم على تعزيز حل الدولتين على أساس حدود 1967 مع القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية جديدة، ودعم “مفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام” الذي ينهي فورا بناء المستوطنات الإسرائيلية، ويتخذ تدابير فورية لمنع العنف ضد المدنيين، ويدعو إلى الاستئناف المبكر لمحادثات السلام، وتنسيق الجهود الدولية لوضع تدابير لتعزيز السلام.

دوافع اسرائيل لإقامة علاقة مع الصين

يبدو أن الإسرائيليين كانوا أكثر إدراكًا لحقيقة الواقع الصيني، وأن الصين الشعبية هي الأكثر تأهيلًا لدور دولي قادم بحكم العدد السكاني والمساحة والإرث التاريخي، وتمت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين عام 1992.

ويمكن رصد بداية العلاقات الصينية الإسرائيلية المعروفة إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تريد تعديل ميزان القوة مع الاتحاد السوفياتي لصالحها من خلال استقطاب الصين إلى جانبها، إذ لمس الصينيون إثر حربهم مع فيتنام عام 1979م، تخلّف تسليحهم أمام التسليح الفيتنامي الحديث، إذ كانت تحصل فيتنام على أحدث الآليات والتجهيزات من الاتحاد السوفياتي كانت الصين تعتمد على تسليح قديم يعود للحرب العالمية الثانية، ثم التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان، ما جعلها تسارع إلى شراء كمية كبيرة من الذخائر والأسلحة الإسرائيلية، بل إن هناك اعتقادًا بأن الدبابات التي شاركت في مهرجان عيد النصر الصيني عام 1984م كانت دبابات أعادت إسرائيل تأهيلها، ومسار التعاون العسكري بين الطرفين أصبح معروفاً وقد كتب فيه كثير من الصحفيين والسياسيين الإسرائيليين مقالات ودراسات عديدة.

ونقل التكنولوجيا العسكرية من إسرائيل إلى الصين كان أساس العلاقات بين البلدين، التي شهدت عشرات الصفقات في هذا المجال، كما أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال زيارته للصين عام 2013 أمرًا حكوميا بتوسيع العلاقات في جميع الجوانب غير الحساسة.

وفي شهر أكتوبر 2018، استضاف نتنياهو ونائب الرئيس الصيني، وانغ كيشان، مؤتمر تجارة وابتكار رفيع المستوى في القدس، أعلن خلاله نتنياهو أن البلدين سيكملان اتفاقية تجارة حرة في عام 2018، وأن الصين تخطط للاستثمار بكثافة في البنية التحتية الإسرائيلية، بما في ذلك الموانئ الجديدة والسكك الحديدية للقطارات الخفيفة.

وحققت الشركات الصينية نجاحات كبيرة في إسرائيل، من ضمنها الإستحواذ على شركة “تنوفا” العملاقة للأغذية في عام 2014، وصفقات لإدارة مينائي حيفا وأسدود الرئيسيين.

تطور العلاقة بين البلدين، دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي لوصف تل أبيب “بالشريك الصغير المثالي لاقتصاد بكين، ونحن في عصر تكنولوجي، من جهة، وبإعتقادي أن بإمكان إسرائيل والصين مناقشة سبل عدة للتعاون التكنولوجي، وهو ما أعتقد أنه اغتنام للمستقبل والصين على إستعداد لتطوير تعاونها مع إسرائيل بالكامل وهذا هو الزواج الخاص الذي أراه بين إسرائيل والصين وأعتقد أن هناك قدرة إستثنئائية لدى الصين لأخذ مكانها الصحيح، وهي تقوم بذلك، على الساحة العالمية”.

ويمكن القول أنّ أهداف إسرائيل الكبرى من إقامة علاقات مع جمهورية الصين الشعبيّة هي ثلاثة أهداف، أولها اكتساب المشروعية الدولية، إذ أنّ الصين هي دولة دائمة العضويّة في مجلس الأمن الدولي ولها نفوذ إقليمي وعالمي كبير، وكانت على مدى عقود من الزمان واحدة من أهم الدول المعارضة لإسرائيل، وإسرائيل كيان مسكون بعقدة المشروعيّة لعلمها بأنّها كيان اصطناعي قام على اغتصاب أرض وطرد سكانها، والعلاقة مع الصين يمكن أن تشكّل دفعة معنويّة كبيرة في هذا المجال، فضلاً عن كسر عزلتها الدوليّة.

أمّا الدافع الإسرائيلي الثاني، فهو التخلص من هاجس انقطاع الدعم الاقتصادي الخارجي عن طريق التوسع في سوق ضخم وبِكر كالسوق الصيني، وما يمكن أن يشكّله ذلك من رافعة للاقتصاد الإسرائيلي، وجذب الاستثمارات الصينية والتعاون في مجالات صناعية واستثمارية متعددة، وهو ما حصل بالفعل وخصوصاً في مجال تكنولوجيا الأمن والسلاح.

يمكن القول بأنّ الدافع الثالث، هو إدراك إسرائيل أنّها قامت ككيان سياسي بالدعم الأوروبي ووقفت على قدميها بالدعم الأمريكي، وأنّها بحاجة إن أرادت الاستمرار أنّ تكون قريبة من القوة المهيمنة على العالم وأن تحصل على دعمها، وهي ترى الصعود الصيني الصاروخي وكما حدث تراجع دور بريطانيا العظمى لتحل محلها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن تراجع الدور الأمريكي بدوره سيحل مكانه ربما النفوذ الصيني، فلا بد من استباق أي تحوّل محتمل من هذا النوع، بإقامة علاقات قوية مع الصين.

دوافع الصين لإقامة علاقة مع إسرائيل

أدركت الصين أن تطوير علاقاتها مع إسرائيل لن يكون له أية نتائج سلبية لعلاقاتها مع الدول العربية، نظرًا لتزايد الاعتراف العربي بشكل مباشر أو غير مباشر بإسرائيل، وانتهاء فكرة مكاتب المقاطعة العربية تقريبا.

وتبين أن هذه النظرة الصينية كانت صحيحة، إذ إن علاقات الصين مع الدول العربية تتطور بشكل متسارع من ناحية، كما أنها تتطور مع إسرائيل من ناحية ثانية، فقد ارتفع حجم التجارة الصينية العربية من حوالي 51 مليار دولار عام 2005، إلى 109 مليار دولار عام 2009، وحوالي 70 مليارا في النصف الأول من عام 2010، كما ارتفع حجم التجارة الإسرائيلية-الصينية إلى 6.7 مليار دولار مرتفعًا عن الفترة ذاتها بحوالي الضعف.

وكانت لدى الصين رغبة في استثمار اللوبي اليهودي في الكونجرس الأميركي بشكل خاص والنفوذ اليهودي في العالم بشكل عام، فمن المعروف أن المنافس التجاري والأكثر أهمية للصين هو الولايات المتحدة، وكثيرًا ما عمل الكونجرس الأميركي على استصدار قرارات تعوق العلاقات الصينية-الأميركية في قطاعات مختلفة، منها التجارية والتكنولوجية بشكل خاص.

ونظرا لإدراك الصين بأن للوبي اليهودي ثقلاً كبيرًا في صنع القرارات الأميركية، فإن تطوير العلاقة مع إسرائيل يشكِّل عاملاً لدفعها لتوظيف علاقتها مع اللوبي اليهودي لاتخاذ قرارات لصالح الصين، أي كلما كانت العلاقات الصينية-الإسرائيلية أكثر تطورًا، كان اللوبي اليهودي في المؤسسات الأميركية أو حتى بعض الدول الأوربية أقل عداء للصين.

ويمكن القول أن دوافع الصين لهذه العلاقة مرتبط بالأساس بفكرة تعظيم القدرة الصينية الذاتية بهدف استعادة دورها القيادي على مستوى العالم والتصدي لأية محاولة للحيلولة بينها وبين غايتها، و أهم هذه الدوافع هي:

• تطوير المنظومة الصناعية الصينية عالية التقنية

• تطوير القدرات العسكرية والأمنيّة ومواكبة المنظومات الغربيّة

• التوسع الاقتصادي تحت عنوان مبادرة الحزام والطريق

• الوصول إلى رؤوس الأموال اليهودية عبر العالم

• تحسين صورة الصين في الإعلام الغربي

أسباب التحول في الموقف الأمريكي

في الحقيقة لم يكن ما قامت به إسرائيل مع الصين من علاقات بعيداً عن الاستراتجية الأمريكية، ولم يكن كذلك ما تقوم به من تهريب التكنولوجيا الأمريكية المتطورة إلى طرف ثالث خلافاً للاتفاقيات الموقعة بين الطرفين أمراً مجهولاً في الولايات المتحدة.

ولكنّ إسرائيل كانت تحظى دائماً بقدر كبير من الحماية من داخل المنظومة الأمريكية، والتعاطف القائم على تفهّم احتياجاتها لتطوير اقتصادها وعلاقاتها، رغم الاحتجاجات الخافتة والحادة أحياناً من طرف الأمريكيين، بل إنّ إسرائيل اضطرت في أكثر من حالة إلى إلغاء بعض العقود العسكرية، تحت الضغوط الأمريكية، ولكنّ الموقف الأمريكي تجاه هذه العلاقة شهد تحوّلاً كان له مظاهر علنية أهمها تصريحات ومقالات متعددة لمسؤولين أمريكيين ينتقدون العلاقة والتعاون بين الطرفين، وكان التقرير الصادر عن مؤسسة راند التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية والذي جاوز المائتي صفحة، وهو الأبرز عمل غير مسبوق في مجاله.

حيث أصبحت الانتقادات الأمريكية لإسرائيل بسبب علاقتها مع الصين أصبحت علنية وشبه واضحة، وضغوط إدارة ترامب بشأن الاستثمارات الصينية في إسرائيل مستمرة منذ عدة أشهر، والتي كان منها فوز الصين بعطاء كبير في ميناء حيفا وهو ما أزعج المسؤولين الأمريكيين الذين احتجوا ونددوا.

والتصريحات الأمريكية تعكس توقع الإدارة الأمريكية ورئيسها دونالد ترامب من إسرائيل أن تكون إلى جانبه في أزمته مع الصين وذلك بأن لا تفسح المجال لاستثمارات صينية ضخمة في إسرائيل وخاصة في قطاع البنى التحتية.

في بداية العام الماضي، قال وزير الطاقة الأمريكي دان برويليت، إنه إذا لم تتبن إسرائيل قواعد أكثر صرامة، فسوف تتضرر العلاقات الاستخباراتية الإسرائيلية الأمريكية، فيما دعا وزير الخارجية مايك بومبيو إسرائيل النأي بنفسها عن الصين وأعرب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن انزعاج واشنطن من “تغلغل” الصين في الاقتصاد الإسرائيلي، وصرح “لا نريد أن يكون للحزب الشيوعي الصيني (الحاكم في بكين) أية صلة بالبنية التحتية لإسرائيل”.

واعتبر أن “التعاون الإسرائيلي مع الصين يعرض للخطر قدرة واشنطن على العمل مع تل أبيب في مشاريع مهمة، كاشفاً أنه تحدث مع نتنياهو في هذا الشأن، وعرض عليه معلومات استخبارية حول أن التعاون مع الصين يعرض المواطنين الإسرائيليين للخطر.

ذلك القلق والضغط الأمريكي على إسرائيل للحد من الشراكة مع الصين، دفع السفارة الصينية في إسرائيل لانتقاد مهاجمة الإدارة الأمريكية استثمارات بكين في إسرائيل، وقالت السفارة إن الاتهامات “سخيفة”، وأعربت عن أملها في أن لا ينجح “أصدقاؤها اليهود” في إسرائيل في هزيمة الفيروس فحسب، بل هزيمة “الفيروس السياسي” أيضًا في إشارة واضحة إلى الاتهامات الموجهة إلى بكين من قبل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو.

في 2002، وعلى الرغم من أنَّ إسرائيل كانت ملتزمة بعدم تزويد أي دولة أخرى بتقنيات استوردتها من الولايات المتحدة قبل الرجوع لواشنطن، إلا أنَّ تل أبيب خاطرت عام 2002 بتَأْزِيم العلاقات مع واشنطن، وزَوَّدت الصين بطائرات “فالتون” التي قامت على تقنيات عسكرية أمريكية، مما أغضب واشنطن، كون الإدارات الأمريكية فرَضَت قيودًا على تزويد بكين بالتقنيات العسكرية، بسبب تهديدها المتكرِّر لدولة تايوان، التي تعتبر إحدى أوثق حلفاء واشنطن في جنوب شرق آسيا، وعلى الرغم من عمق العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، إلا أن الغضب الأمريكي لم يهدأ، إلا بعد أن تمت التضحية بعدد من كبار موظفي وزارة الدفاع الإسرائيلية.

ويمكن عزو هذا التحوّل التدريجي في الموقف الأمريكي، إلى أسباب عدة من أهمها، انهيار الاتحاد السوفيتي وهو ما أدى إلى زوال التهديد الذي يستدعى الدعم الأمريكي للصين، فبين ليلة وضحاها تحوّلت الصين –من المنظور الأمريكي- إلى قوة اقصادية واستراتيجية صاعدة بصورة فائقة، يمكن أن تشكّل تهديداً مباشراً للزعامة الأمريكية للعالم، وهي تسعى بكل الوسائل الممكنة إلى تقليص الفارق التكنولوجي والعسكري بين الطرفين، وتسعى إلى منافسة الولايات المتحدة في دوائر نفوذها التقليدية كأمريكا الجنوبية وأوروبا، وهو ما جعل أمريكا تصنّفها كأهم تهديد استراتيجي لزعامتها للعالم، واعلنت الإدارات الأمريكية المتعاقبة نيتها مواجهة التهديد الصيني.

أسباب الحساسية الأمريكية من العلاقة الإسرائيلية الصينية

كانت العلاقة الإسرائيلية مع الصين في مرحلة ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، تدعم الاستراتيجية الأمريكية التي ترمي إلى دعم الصين، ولكن ما أن انهار الاتحاد السوفياتي وتبدّلت الأولويات الأمريكية، باشرت اسرائيل علاقات دبلوماسيّة معلنة، وأخذت العلاقة مع الصين إلى مستويات أعلى وآفاق أرحب، وأخذت شراكاتها مع الصين وخصوصاً في المجالات التي تعتبرها الولايات المتحدة تهديداً مباشراً لمصالحها، وهو ما أطلق انتقادات أمريكية بالجملة لإسرائيل تتهمها بـ:

• تقويض الاستراتيجية الامريكية الرامية إلى إضعاف الصين، من خلال تمكين الصين من بناء صناعة تكنولوجيا متطورة بالتعاون مع العلماء والشركات الإسرائيلية.

• تهريب الأسرار العسكرية الأمريكية التي تتيحها عقود الشراكة بين أمريكا وإسرائيل إلى الصينيين.

• تمكين الصينيين من خلال عقود البنية التحتية في إسرائيل، من الوصول إلى أماكن حسّاسة كميناء حيفا، والذي تستخدمه القوات الأمريكية ما يشكّل تهديداً لها.

هذا التوتر مع الإدارة الأمريكية سبّب انقساماً في الرأي داخل النخبة الإسرائيليّة، بين طرف يؤكد حق إسرائيل بأن يكون لها سياسة ومصالح مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية وأنّ العلاقة مع الصين هي من أعمال السيادة التي يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتفهمها، وطرف آخر يرى أنّه من المضر جداً المخاطرة بالعلاقات مع واشنطن، القوة الأكبر في المنظومة الدولية، والداعم الأول لإسرائيل من أجل مكاسب من الصين ولو كانت كبيرة، وأنّ على إسرائيل مراعاة الحساسيات الأمريكية والتوقف عن كل ما من شأنه إغضابها، ولكن يبدو أنّ الساسة الإسرائيليين يعوّلون كثيراً على نفوذهم في منظومة الحكم الأمريكية لتنفيس الغضب الأمريكي بهذا الخصوص، وتمكينهم من الاستفادة من طرفين متعارضين دون التعرض لغضب أي منهما.

#سيناريوهات

بات من الواضح أنّ الاستياء الأمريكي من تطور علاقة إسرائيل مع الصين بلغ مبلغاً لا يمكن كتمانه أو تنفيسه كما حصل خلال السنوات الماضية، ولذا فإنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة ستشرع في ممارسة ضغط على إسرائيل لتحجيم هذه العلاقة، وربما تطلب منها إلغاء عدد من العقود العسكريّة والأمنيّة والتكنولوجية، مع الصين، وأن تضع قيوداً على نقل التكنولوجيا إلى الصين، ولديها من الأدوات المتعددة ما يمكن أن تجبر بها إسرائيل على الامتثال لهذه الضغوطات، وهو ما سيضع إسرائيل بين سندان الصين والمطرقة الأمريكية، وعليه فإنّ إسرائيل ستميل إلى إحدى السيناريوهات التالية للتعامل مع هذا الوضع:

أولاً:

يٌعد سيناريو الامتثال الكامل هو السيناريو المفضل من وجهة النظر الأمريكيّة، فمع تصاعد المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، فإنّ أمريكا ستضغط على إسرائيل من أجل الامتثال الكامل لاستراتيجيتها بهذا الخصوص، ولكن من غير المرجح أن تذهب إسرائيل بهذا الاتجاه، وخصوصاً بأنّها تعتقد بوجود أوراق قوة في يديها خصوصاً ما يرتبط بنفوذها الواسع داخل مؤسسات صناعة القرار الأمريكية والإعلام الغربي، ما سيمكنها من تجاوز هذه الضغوطات أو تنفيسها كما فعلت على مدار عقود من الزمن.

ثانياً:

بالطبع وإن كانت هناك بعض الأصوات داخل إسرائيل التي تعلي النفس القومي المتشدّد والذي يغلّب مصلحة إسرائيل ويرفض الضغوطات الخارجية.

ثالثاً:

من غير المرجح أن تعلن إسرائيل رفض امتثالها للضغوط الأمريكية بهذا الخصوص، بل ستميل –على الأرجح- إلى سيناريو وسط يحاول إرضاء الطرف الأمريكي وألاّ يخسر الطرف الصيني، من خلال تخفيض زخم المشاريع مع بكين، وتعويضها المادي عن خسارتها في بعضها، وإبرام بعض الصفقات بشكل سري أو من خلال وسيط خارجي.

#التوصيات

تسبّب علاقة إسرائيل بالصين ضرراً جسيماً للقضية الفلسطينية والمصالح العربية على المدى القصير، ذلك أنّها تعين إسرائيل على تطوير منظوماتها العسكرية والاقتصادية من خلال الثمار الاقتصادية الضخمة التي تجنيها إسرائيل من هذه العلاقة، وهو ما يزيد في فارق القوة لصالح الطرف الإسرائيلي ويكرّس هيمنته على المنطقة ويمكّنها من استخدام آخر ما توصّلت إليه من منظومات أمنية وعسكرية ضدها، غير أنّ علاقة الفلسطينيين والدول العربية بالصين علاقة بالغة الأهمية باعتبارها شريك تاريخي وقوة صاعدة، ولذا يجب عدم السماح بتضررها نتيجة لعلاقة الصين مع إسرائيل، والعمل على تعديل ميزان المصالح الصينية بالاتجاه العربي، وانتظار أن يتسبب الضغط الأمريكي على إسرائيل بضعف علاقتها مع الصين –وهو ما سيحصل على الأرجح- الأمر الذي سيصب حتماً في صالح القضية الفلسطينية والمصالح العربية.

ونقدم هنا جملة من التوصيات على جوانب مختلفة، منها:

• توصيات للمؤسسة:

– بناء علاقات مع جمهورية الصين الشعبية على المستويات الرسمية وتوطيدها:

التواصل مع الجهات الصينية المختلفة لتعزيز العلاقة والعمل على بناء شبكة علاقات متكاملة وتطويرها مع الجهات الرسمية والمؤثرة في صناعة القرار في الجمهورية الصينية لما له من أثر مستقبلي في تلك العلاقات.

وتعزيز التواصل معها سياسياً وثقافياً وإعلامياً بما يؤثر إيجابياً على موقفها من قضية فلسطين، ويُصلِّب موقفها تجاه “إسرائيل”.

– عدم ترك الفرصة لإسرائيل في تطوير علاقاتها مع الصين:

متابعة ورصد تحركات الاحتلال الدبلوماسية وعلى الجوانب المختلفة الرامية لتعزيز العلاقة مع النظام الصيني من أجل قطع الطريق إن أمكن، خاصة أن القضية الفلسطينية تحتاج إلى الدعم الدولي من دولة عظمى كالصين تستطيع حشد التأييد الدولي، وتتمتع بحق النقض الفيتو في مجلس الأمن، وإعادة نشر وترويج الدراسات التي تؤكد خطورة العلاقة مع إسرائيل على مستقبل علاقة الصين بالمنطقة.

– تشجيع الدراسات والتخصصات في الشأن الصيني، باعتبارها قوة عالمية صاعدة، لفهم أفضل لطريقة التعامل معها:

هناك تصاعد ملحوظ في قدرات الصين على العديد من الأصعدة خاصة الاقتصادية والعسكرية، والسياسية الصينية الخارجية قائمة على تحقيق المصالح الوطني الصينية لإكمال أهدافها في عملية التحديث الداخلي التي تجعلها تتصدر الدول العظمي، لهذا يجب متابعة التطورات في الشأن الصيني لمعرفة الطريقة الأفضل للتواصل معها وبناء علاقات جيدة، وكيفية إقامتها لعلاقاتها الخارجية مع الدول وتوازناتها السياسية.

– مطالبة الدول العربية والإسلامية بالضغط على الصين للتراجع عن العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الاحتلال:

مطالبة الدول الصديقة (وخصوصاً تركيا وإيران والباكستان وإندونيسيا وماليزيا) بممارسة كافة أشكال التواصل والضغط مع الصين لإدراك أن مصالحها مرتبطة بشكل أكبر مع الأمة العربية والإسلامية من مصالحها مع “إسرائيل”، ونظراً لأن بكين تعتبر منطقة الشرق الأوسط من المناطق الاستراتيجية لها، خاصة في مجال الطاقة والاقتصاد.

• توصيات اقتصادية:

– بناء شبكة علاقات اقتصادية متينة لتقوم عليها علاقات من جوانب أخرى ومتعددة لتفعيل الدعم الصيني:

تعتبر العلاقات الاقتصادية والعسكرية والتقنية، هي المدخل للتطبيع الدبلوماسي الكامل بين الصين وإسرائيل، نظراً لأن تلك المجالات مؤثرة على مدى تطور العلاقات الدبلوماسية، ويمكن العمل مع الصين من خلال الاستثمارات في مشاريع مبادرة الحزام والطريق للضغط على بكين للتراجع عن التطبيع مع إسرائيل.

• توصيات إعلامية:

– متابعة العلاقات الصينية الإسرائيلية:

رصد العلاقات الصينية الإسرائيلية وتطورها على مدار الأعوام الماضية والتركيز على خطورتها على القضية الفلسطينية، ومحاولة مخاطبة صناع القرار في الشأن الفلسطيني والجهات الصديقة لتسليط الضوء على هذه العلاقة.

– مخاطبة الجهات الصينية:

محاولة استمالة الموقف الصيني الرسمي واستنطاقه في القضايا المختلفة لكسب موقف صيني إعلامي داعم للقضية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته يسمح بمعرفة وجهة النظر الرسمية الصينية في القضايا الفلسطينية المختلفة.

– مخاطبة الإعلام الصيني والمؤسسات الفاعلة:

مخاطبة الإعلام الصيني والمؤسسات العاملة في هذا المجال توطيد العلاقة معها، واستخدام الأداة الإعلامية لإقامة العلاقات الدبلوماسية ولتوضيح وإيصال صورة القضية الفلسطينية للمجتمع الصيني.

ملاحظة:

السعي إلى حل قضية الإيجور وتحسين ظروفهم المعيشية من خلال استغلال العلاقات السياسية والاقتصادية الطيبة مع الصين دون الانجرار إلى الجهود الأمريكية الرامية لجر المسلمين لمعركة بالوكالة.

تقدير استراتيجي .. العلاقات الصينية الإسرائيلية تحت المجهر الأمريكي

تشهد العلاقات الصينية الإسرائيلية تنامياً على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي والتكنولوجي، وصلت لحد الاعتراف المتبادل وتطبيع كامل للعلاقات الدبلوماسية، ضمن السياسة الإسرائيلية للتقرب من الدول الكبرى لتحقيق أهداف بعيدة المدى ونيل الاعتراف والشرعية، لكن هذا التقارب يواجه رفضاً أمريكياً وضغطاً في بعض الأوقات لإلغاء بعض المشاريع الصينية في إسرائيل، فيما تحاول إسرائيل تجاوز الرفض الأمريكي دون الضرر بالعلاقة معها، والحفاظ في نفس الوقت على علاقة جيدة مع الصين لأهميتها كقوة اقتصادية وسياسة مقبلة.

مقدمة

لا ينفصل سياق علاقة إسرائيل مع الصين عن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين، بل يتكامل معه ويتساوق معه في غالبية تاريخ العلاقة، غير أنّ علاقة إسرائيل بالصين في الآونة أخيرة أزعجت الأمريكيين بعد أن أخذت تنحو منحًا ذاتيًا غير منسجم مع خطط ومصالح واشنطن.

وكانت منظومة العلاقة الدولية التي ولدت فيها جمهورية الصين الشعبية عام 1949م، تهيمن عليها القوتان الكبيرتان في حينه الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، ولم يلبث أن بدأت بوادر الاختلاف تظهر في المعسكر الشيوعي بين الاتحاد السوفياتي والصين التي لم تكن قد خرجت بعد من أجواء معارك الاستقلال والتأسيس وطغيان الحالة الأيدولوجية التي تدعو إلى وحدة المعسكر الشيوعي مقابل المعسكر الرأسمالي، الواجب هزيمته واحلال منظومة عالمية جديدة تخضع للايدولوجيا الماركسية، خلافاً للحالة السوفياتية التي كان قد مضى على انطلاقها أكثر من ثلاثة عقود، وصار لديها النضج الكافي الذي مكنّها أن تدير دولة لها مصالحها وإكراهاتها وليس ثورة حالمة لا تعرف الحدود، وقد ظهر ذلك في الحرب الكورية التي لعب فيها الاتحاد السوفياتي دوراً مسانداً خلافاً للدور الصيني الذي كان على كاهله أغلب عبء الحرب.

ولم يلبث أن توفي “جوزيف ستالين”، والذي كان في مقام الأخ الأكبر لزعماء الصين وعلى رأسهم “ماو تسي تونغ”، وتولى “نيكيتا خروتشوف”، الذي أراد هدم ميراث “ستالين” وخط توجه جديد في الاتحاد، وهو ما أجّج الخلافات بين الطرفين وجعلها تخرج إلى العلن، كان من أبرز ملامحها، سحب الخبراء السوفيات من الصين عام 1960م، ودعم الهند أثناء حربها مع الصين عام 1962م، والحرب الحدوديّة في نهر أوسوري (Ussuri) عام 1969م، والتنافس على قيادة الحركة الشيوعية العالمية، وصولاً إلى قطيعة بين الطرفين.

ومنذ بدايات السبعينات من القرن الماضي، بدأت الصين تفكّر تفكيراً أكثر براغماتية، فأدركت أنّها مع غياب الخبرات السوفياتية وفشل مشروع “القفزة إلى الأمام” الكارثي، لن تستطيع بالاعتماد على ذاتها فقط في التحول إلى دولة عصرية قوية، كما ثبت بالتجربة، ولذا فما أن بادرت الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تريد استغلال الشرخ داخل المعسكر الشيوعي واللعب على تناقضاته، بمدّ يدها إلى الصين من خلال زيارات وزير الخارجية “هنري كيسنجر” عام 1971 ورئيس الولايات المتحدة “ريتشارد نيكسون” عام 1972، حتى قبلتها هذه الأخيرة وانطلقت مرحلة الشراكة الصينية الأمريكية والتي كانت تهدف من الناحية الأمريكية، إلى إيجاد كتلة ثالثة وازنة لمواجهة الاتحاد السوفياتي، وهو ما تعزّز بعد وفاة “ماو تسي تونغ” عام 1976، وتولي “دينغ شياوبنغ” مقاليد الأمور، الملقب بمهندس النهضة الصينية، لتدفق رؤوس الأموال الغربية إلى الصين وتقيم الشركات الغربية الكبرى مصانعها هناك مستفيدة من العمالة الرخيصة المدرّبة والسوق الصيني الضخم والبِكر، مما أدّى إلى مجموعة من الحقائق أهمها، تحوّل الصين إلى قوة اقتصادية ضخمة، وتعزيز الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة.

لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتحوّل واشنطن إلى قطب أوحد، صارت الصين تمثّل تحديًا حقيقيًا للقيادة والسيادة الأمريكية على العالم، ما دفع الولايات المتحدة إلى أخذ موقف جديد يتلخّص بتحجيم الصين والحيلولة دون تحوّلها إلى قوة عظمى منافسة على غرار الاتحاد السوفياتي السابق، لكنّ انشغال الولايات المتحدة الأمريكية في حرب الشرق الأوسط والحرب على “الإرهاب” جعل المواجهة مع الصين مواجهة مؤجلة أو غير ذات أولوية.

مع قدوم الرئيس “دونالد ترامب” إلى السلطة حاول الأمريكيون وضع خطة مواجهة الصين موضع التنفيذ، من خلال تلقيص الوجود العسكري في الشرق الأوسط، والتفاوض مع “طالبان”، والضغظ على إيران دون الوصول إلى حالة مواجهة عسكرية مباشرة، والشروع في الحرب التجارية على الصين والتي استهدفت الصادرات الصينية وواحدة من أهم الشركات الصينية الكبرى، ألا وهي شركة “هواوي” للاتصالات، كمقدمة لمواجهة أشمل وأكبر، ربما نراها خلال الأشهر أو السنوات القليلة القادمة.

تلك المواجهة التي أعلن ترامب أنها ستقتصر حاليًا على الحرب التجارية، وصرح أن الصين تشكل “تهديدًا للعالم” وتسرق الأموال من الولايات المتحدة من خلال ممارسات تجارية غير عادلة لبناء جيشها”، متابعاً “الصين تبني جيشًا أسرع من أي شخص آخر أرى الصين من نواحٍ عديدة لكن في الوقت الحالي، أفكر في التجارة.

مراحل العلاقات الصينية الإسرائيلية

حكم مسار العلاقة بين “بكين” وتل أبيب آلية معقدة، ابتدأت بممانعة صينية وإقبال إسرائيلي في الخمسينات والستينات مرورًا بغزل صيني وإسرائيلي متبادل وعلاقة سرية في السبعينات والثمانينات وصولاً إلى تطبيع في عقد التسعينيات على المستويات كافة، وإبرام تحالفات إستراتيجية.

وقد تباينت رؤية الأحزاب السياسية في إسرائيل حول الاعتراف بالصين الشعبية عند تأسيسها عام 1949، وكانت الأحزاب اليسارية والاشتراكية من أقوى الأصوات المطالبة والمؤيدة للصين الشيوعية، فقد ألح اليسار الإسرائيلي على الاعتراف بنظام الحكم في بكين انطلاقا من أن إسرائيل بحاجة إلى الاحتفاظ بمدخل إلى كلا المعسكرين “روسيا وأمريكا” الذي ساهم زعماؤهما في تحقيق استقلالها واستمرار بقائها.

يمكن رصد أربع مراحل للعلاقات بين الطرفين منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية إلى اليوم، وهي تلك التي أعقبت إعلان الجمهورية حيث كانت إسرائيل هي أول من بادر إلى الاعتراف بها في منطقة الشرق الأوسط، في محاولة للتقرب من الدولة الجديدة، إلا أن الصين رفضت مبادلتها الاعتراف، واكتفى الرئيس الصيني في حينه ماو تسي تونغ بخطاب شكر على ذلك.

وكانت إسرائيل تأمل من وراء هذا الاعتراف أن يتم الاعتراف بها دولياً بالإضافة إلى محاولتها إيجاد علاقات مستقبلية مختلفة على أساس أن الصين ستصبح في المستقبل قوة عالمية كبرى وعندما سئل بن غوريون “لماذا اعترفت إسرائيل بالصين الشعبية في عام 1952؟ أجاب بقوله: لسبب بسيط، وهو: ولماذا لا تعترف؟ هناك 600 مليون شخص في الصين وإن عدم الاعتراف بها يعتبر إهانة لهم”.

وخلال فترة الخمسينيات والستينيات ومع تدخّل الصين في الحرب الكورية عام 1951م، أيدّت إسرائيل التحالف الغربي تحت عباءة الأمم المتحدة، وأدانت الصين وساندت الولايات المتحدة في حملتها الشرسة ضد التدخل الصيني، الذي كبح من الإقبال الإسرائيلي على الصين، بل جعل إسرائيل تنتقم من البرود الصيني تجاهه، فقد أعلن “أبا إيبان”، وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك :”إن التدخل الصيني غير شرعي ومن المستحيل إنكار وجوده”، وتطور الموقف الإسرائيلي إلى حد التصويت على سلسلة من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة والمعارضة للسياسة الصينية في كوريا، وهو ما أدخل العلاقة في طور سلبي للغاية.

كما كانت الصين تنظر إلى إسرائيل على أنّها قاعدة استعمارية وكيان معتد، وقد تعزّز هذا الموقف مع تنامي علاقات الصين بمصر وسوريا من خلال “منظمة عدم الانحياز” ثمّ العدوان الإسرائيلي على البلدين عام 1967م.

أمّا المرحلة الثالثة فهي التي أعقبت تولّي الزعيم “دينغ” لمقاليد الأمور في الصين وانفتاحه على المعسكر الغربي، وقد شهدت هذه الفترة غزو الاتحاد السوفياتي لافغانستان ممّا جعل الصين تستشعر خطرًا أكبر من هذا الباب، ودفعها إلى مزيد من التقارب مع المعسكر الغربي ومنه إسرائيل.

المرحلة الرابعة والراهنة، هي التي بدأت مع بدء العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في مطلع التسعينات، حيث كرست إسرائيل جهودها للاتصال مع القادة الصينين، وكان افتتاح الممثلية الإسرائيلية في بكين في عام 1990م إنقلاباً في العلاقة، وشهد عام 1991 اتصالات دبلوماسية مكثفة بين الصين وإسرائيل لوضع اللمسات الأخيرة وبناء جسور الثقة وتعميق التفاهم بهدف إقامة علاقتهما الدبلوماسية.

وبدأت العلاقات الدبلوماسية الرسمية الكاملة الإسرائيلية والصينية عام 1992، وحينها بدأ “ديفيد ليفي” نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيلي بزيارة إلى الصين وقع خلالها مع وزير الخارجية الصيني آنذاك “تشيان تشي شن” على بيان إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإسرائيل، والذي نص على :”إن حكومة جمهورية الصين الشعبية ودولة إسرائيل قررتا إقامة علاقات دبلوماسية بينهم على مستوى السفراء في 24 كانون الثاني عام 1992، إن حكومة دولة إسرائيل تعترف بأن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثل الصين كلها، وأن تايوان جزء لا يتجزأ من أراضي جمهورية الصين الشعبية”.

وحاولت الصين الإمساك بالعصا من المنتصف في علاقتها مع الفلسطينيين والإسرائيليين داعية إلى خطة النقاط الأربعة التي أطلقها الرئيس “شي جينبينغ” عام 2017م، التي تتماشى بالمجمل مع مبادرة السلام العربية وحل الدولتين المقبول أمريكيًا وأوروبيًا، التي تقوم على تعزيز حل الدولتين على أساس حدود 1967 مع القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية جديدة، ودعم “مفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام” الذي ينهي فورا بناء المستوطنات الإسرائيلية، ويتخذ تدابير فورية لمنع العنف ضد المدنيين، ويدعو إلى الاستئناف المبكر لمحادثات السلام، وتنسيق الجهود الدولية لوضع تدابير لتعزيز السلام.

دوافع اسرائيل لإقامة علاقة مع الصين

يبدو أن الإسرائيليين كانوا أكثر إدراكًا لحقيقة الواقع الصيني، وأن الصين الشعبية هي الأكثر تأهيلًا لدور دولي قادم بحكم العدد السكاني والمساحة والإرث التاريخي، وتمت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين عام 1992.

ويمكن رصد بداية العلاقات الصينية الإسرائيلية المعروفة إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تريد تعديل ميزان القوة مع الاتحاد السوفياتي لصالحها من خلال استقطاب الصين إلى جانبها، إذ لمس الصينيون إثر حربهم مع فيتنام عام 1979م، تخلّف تسليحهم أمام التسليح الفيتنامي الحديث، إذ كانت تحصل فيتنام على أحدث الآليات والتجهيزات من الاتحاد السوفياتي كانت الصين تعتمد على تسليح قديم يعود للحرب العالمية الثانية، ثم التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان، ما جعلها تسارع إلى شراء كمية كبيرة من الذخائر والأسلحة الإسرائيلية، بل إن هناك اعتقادًا بأن الدبابات التي شاركت في مهرجان عيد النصر الصيني عام 1984م كانت دبابات أعادت إسرائيل تأهيلها، ومسار التعاون العسكري بين الطرفين أصبح معروفاً وقد كتب فيه كثير من الصحفيين والسياسيين الإسرائيليين مقالات ودراسات عديدة.

ونقل التكنولوجيا العسكرية من إسرائيل إلى الصين كان أساس العلاقات بين البلدين، التي شهدت عشرات الصفقات في هذا المجال، كما أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال زيارته للصين عام 2013 أمرًا حكوميا بتوسيع العلاقات في جميع الجوانب غير الحساسة.

وفي شهر أكتوبر 2018، استضاف نتنياهو ونائب الرئيس الصيني، وانغ كيشان، مؤتمر تجارة وابتكار رفيع المستوى في القدس، أعلن خلاله نتنياهو أن البلدين سيكملان اتفاقية تجارة حرة في عام 2018، وأن الصين تخطط للاستثمار بكثافة في البنية التحتية الإسرائيلية، بما في ذلك الموانئ الجديدة والسكك الحديدية للقطارات الخفيفة.

وحققت الشركات الصينية نجاحات كبيرة في إسرائيل، من ضمنها الإستحواذ على شركة “تنوفا” العملاقة للأغذية في عام 2014، وصفقات لإدارة مينائي حيفا وأسدود الرئيسيين.

تطور العلاقة بين البلدين، دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي لوصف تل أبيب “بالشريك الصغير المثالي لاقتصاد بكين، ونحن في عصر تكنولوجي، من جهة، وبإعتقادي أن بإمكان إسرائيل والصين مناقشة سبل عدة للتعاون التكنولوجي، وهو ما أعتقد أنه اغتنام للمستقبل والصين على إستعداد لتطوير تعاونها مع إسرائيل بالكامل وهذا هو الزواج الخاص الذي أراه بين إسرائيل والصين وأعتقد أن هناك قدرة إستثنئائية لدى الصين لأخذ مكانها الصحيح، وهي تقوم بذلك، على الساحة العالمية”.

ويمكن القول أنّ أهداف إسرائيل الكبرى من إقامة علاقات مع جمهورية الصين الشعبيّة هي ثلاثة أهداف، أولها اكتساب المشروعية الدولية، إذ أنّ الصين هي دولة دائمة العضويّة في مجلس الأمن الدولي ولها نفوذ إقليمي وعالمي كبير، وكانت على مدى عقود من الزمان واحدة من أهم الدول المعارضة لإسرائيل، وإسرائيل كيان مسكون بعقدة المشروعيّة لعلمها بأنّها كيان اصطناعي قام على اغتصاب أرض وطرد سكانها، والعلاقة مع الصين يمكن أن تشكّل دفعة معنويّة كبيرة في هذا المجال، فضلاً عن كسر عزلتها الدوليّة.

أمّا الدافع الإسرائيلي الثاني، فهو التخلص من هاجس انقطاع الدعم الاقتصادي الخارجي عن طريق التوسع في سوق ضخم وبِكر كالسوق الصيني، وما يمكن أن يشكّله ذلك من رافعة للاقتصاد الإسرائيلي، وجذب الاستثمارات الصينية والتعاون في مجالات صناعية واستثمارية متعددة، وهو ما حصل بالفعل وخصوصاً في مجال تكنولوجيا الأمن والسلاح.

يمكن القول بأنّ الدافع الثالث، هو إدراك إسرائيل أنّها قامت ككيان سياسي بالدعم الأوروبي ووقفت على قدميها بالدعم الأمريكي، وأنّها بحاجة إن أرادت الاستمرار أنّ تكون قريبة من القوة المهيمنة على العالم وأن تحصل على دعمها، وهي ترى الصعود الصيني الصاروخي وكما حدث تراجع دور بريطانيا العظمى لتحل محلها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن تراجع الدور الأمريكي بدوره سيحل مكانه ربما النفوذ الصيني، فلا بد من استباق أي تحوّل محتمل من هذا النوع، بإقامة علاقات قوية مع الصين.

دوافع الصين لإقامة علاقة مع إسرائيل

أدركت الصين أن تطوير علاقاتها مع إسرائيل لن يكون له أية نتائج سلبية لعلاقاتها مع الدول العربية، نظرًا لتزايد الاعتراف العربي بشكل مباشر أو غير مباشر بإسرائيل، وانتهاء فكرة مكاتب المقاطعة العربية تقريبا.

وتبين أن هذه النظرة الصينية كانت صحيحة، إذ إن علاقات الصين مع الدول العربية تتطور بشكل متسارع من ناحية، كما أنها تتطور مع إسرائيل من ناحية ثانية، فقد ارتفع حجم التجارة الصينية العربية من حوالي 51 مليار دولار عام 2005، إلى 109 مليار دولار عام 2009، وحوالي 70 مليارا في النصف الأول من عام 2010، كما ارتفع حجم التجارة الإسرائيلية-الصينية إلى 6.7 مليار دولار مرتفعًا عن الفترة ذاتها بحوالي الضعف.

وكانت لدى الصين رغبة في استثمار اللوبي اليهودي في الكونجرس الأميركي بشكل خاص والنفوذ اليهودي في العالم بشكل عام، فمن المعروف أن المنافس التجاري والأكثر أهمية للصين هو الولايات المتحدة، وكثيرًا ما عمل الكونجرس الأميركي على استصدار قرارات تعوق العلاقات الصينية-الأميركية في قطاعات مختلفة، منها التجارية والتكنولوجية بشكل خاص.

ونظرا لإدراك الصين بأن للوبي اليهودي ثقلاً كبيرًا في صنع القرارات الأميركية، فإن تطوير العلاقة مع إسرائيل يشكِّل عاملاً لدفعها لتوظيف علاقتها مع اللوبي اليهودي لاتخاذ قرارات لصالح الصين، أي كلما كانت العلاقات الصينية-الإسرائيلية أكثر تطورًا، كان اللوبي اليهودي في المؤسسات الأميركية أو حتى بعض الدول الأوربية أقل عداء للصين.

ويمكن القول أن دوافع الصين لهذه العلاقة مرتبط بالأساس بفكرة تعظيم القدرة الصينية الذاتية بهدف استعادة دورها القيادي على مستوى العالم والتصدي لأية محاولة للحيلولة بينها وبين غايتها، و أهم هذه الدوافع هي:

• تطوير المنظومة الصناعية الصينية عالية التقنية

• تطوير القدرات العسكرية والأمنيّة ومواكبة المنظومات الغربيّة

• التوسع الاقتصادي تحت عنوان مبادرة الحزام والطريق

• الوصول إلى رؤوس الأموال اليهودية عبر العالم

• تحسين صورة الصين في الإعلام الغربي

أسباب التحول في الموقف الأمريكي

في الحقيقة لم يكن ما قامت به إسرائيل مع الصين من علاقات بعيداً عن الاستراتجية الأمريكية، ولم يكن كذلك ما تقوم به من تهريب التكنولوجيا الأمريكية المتطورة إلى طرف ثالث خلافاً للاتفاقيات الموقعة بين الطرفين أمراً مجهولاً في الولايات المتحدة.

ولكنّ إسرائيل كانت تحظى دائماً بقدر كبير من الحماية من داخل المنظومة الأمريكية، والتعاطف القائم على تفهّم احتياجاتها لتطوير اقتصادها وعلاقاتها، رغم الاحتجاجات الخافتة والحادة أحياناً من طرف الأمريكيين، بل إنّ إسرائيل اضطرت في أكثر من حالة إلى إلغاء بعض العقود العسكرية، تحت الضغوط الأمريكية، ولكنّ الموقف الأمريكي تجاه هذه العلاقة شهد تحوّلاً كان له مظاهر علنية أهمها تصريحات ومقالات متعددة لمسؤولين أمريكيين ينتقدون العلاقة والتعاون بين الطرفين، وكان التقرير الصادر عن مؤسسة راند التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية والذي جاوز المائتي صفحة، وهو الأبرز عمل غير مسبوق في مجاله.

حيث أصبحت الانتقادات الأمريكية لإسرائيل بسبب علاقتها مع الصين أصبحت علنية وشبه واضحة، وضغوط إدارة ترامب بشأن الاستثمارات الصينية في إسرائيل مستمرة منذ عدة أشهر، والتي كان منها فوز الصين بعطاء كبير في ميناء حيفا وهو ما أزعج المسؤولين الأمريكيين الذين احتجوا ونددوا.

والتصريحات الأمريكية تعكس توقع الإدارة الأمريكية ورئيسها دونالد ترامب من إسرائيل أن تكون إلى جانبه في أزمته مع الصين وذلك بأن لا تفسح المجال لاستثمارات صينية ضخمة في إسرائيل وخاصة في قطاع البنى التحتية.

في بداية العام الماضي، قال وزير الطاقة الأمريكي دان برويليت، إنه إذا لم تتبن إسرائيل قواعد أكثر صرامة، فسوف تتضرر العلاقات الاستخباراتية الإسرائيلية الأمريكية، فيما دعا وزير الخارجية مايك بومبيو إسرائيل النأي بنفسها عن الصين وأعرب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن انزعاج واشنطن من “تغلغل” الصين في الاقتصاد الإسرائيلي، وصرح “لا نريد أن يكون للحزب الشيوعي الصيني (الحاكم في بكين) أية صلة بالبنية التحتية لإسرائيل”.

واعتبر أن “التعاون الإسرائيلي مع الصين يعرض للخطر قدرة واشنطن على العمل مع تل أبيب في مشاريع مهمة، كاشفاً أنه تحدث مع نتنياهو في هذا الشأن، وعرض عليه معلومات استخبارية حول أن التعاون مع الصين يعرض المواطنين الإسرائيليين للخطر.

ذلك القلق والضغط الأمريكي على إسرائيل للحد من الشراكة مع الصين، دفع السفارة الصينية في إسرائيل لانتقاد مهاجمة الإدارة الأمريكية استثمارات بكين في إسرائيل، وقالت السفارة إن الاتهامات “سخيفة”، وأعربت عن أملها في أن لا ينجح “أصدقاؤها اليهود” في إسرائيل في هزيمة الفيروس فحسب، بل هزيمة “الفيروس السياسي” أيضًا في إشارة واضحة إلى الاتهامات الموجهة إلى بكين من قبل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو.

في 2002، وعلى الرغم من أنَّ إسرائيل كانت ملتزمة بعدم تزويد أي دولة أخرى بتقنيات استوردتها من الولايات المتحدة قبل الرجوع لواشنطن، إلا أنَّ تل أبيب خاطرت عام 2002 بتَأْزِيم العلاقات مع واشنطن، وزَوَّدت الصين بطائرات “فالتون” التي قامت على تقنيات عسكرية أمريكية، مما أغضب واشنطن، كون الإدارات الأمريكية فرَضَت قيودًا على تزويد بكين بالتقنيات العسكرية، بسبب تهديدها المتكرِّر لدولة تايوان، التي تعتبر إحدى أوثق حلفاء واشنطن في جنوب شرق آسيا، وعلى الرغم من عمق العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، إلا أن الغضب الأمريكي لم يهدأ، إلا بعد أن تمت التضحية بعدد من كبار موظفي وزارة الدفاع الإسرائيلية.

ويمكن عزو هذا التحوّل التدريجي في الموقف الأمريكي، إلى أسباب عدة من أهمها، انهيار الاتحاد السوفيتي وهو ما أدى إلى زوال التهديد الذي يستدعى الدعم الأمريكي للصين، فبين ليلة وضحاها تحوّلت الصين –من المنظور الأمريكي- إلى قوة اقصادية واستراتيجية صاعدة بصورة فائقة، يمكن أن تشكّل تهديداً مباشراً للزعامة الأمريكية للعالم، وهي تسعى بكل الوسائل الممكنة إلى تقليص الفارق التكنولوجي والعسكري بين الطرفين، وتسعى إلى منافسة الولايات المتحدة في دوائر نفوذها التقليدية كأمريكا الجنوبية وأوروبا، وهو ما جعل أمريكا تصنّفها كأهم تهديد استراتيجي لزعامتها للعالم، واعلنت الإدارات الأمريكية المتعاقبة نيتها مواجهة التهديد الصيني.

أسباب الحساسية الأمريكية من العلاقة الإسرائيلية الصينية

كانت العلاقة الإسرائيلية مع الصين في مرحلة ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، تدعم الاستراتيجية الأمريكية التي ترمي إلى دعم الصين، ولكن ما أن انهار الاتحاد السوفياتي وتبدّلت الأولويات الأمريكية، باشرت اسرائيل علاقات دبلوماسيّة معلنة، وأخذت العلاقة مع الصين إلى مستويات أعلى وآفاق أرحب، وأخذت شراكاتها مع الصين وخصوصاً في المجالات التي تعتبرها الولايات المتحدة تهديداً مباشراً لمصالحها، وهو ما أطلق انتقادات أمريكية بالجملة لإسرائيل تتهمها بـ:

• تقويض الاستراتيجية الامريكية الرامية إلى إضعاف الصين، من خلال تمكين الصين من بناء صناعة تكنولوجيا متطورة بالتعاون مع العلماء والشركات الإسرائيلية.

• تهريب الأسرار العسكرية الأمريكية التي تتيحها عقود الشراكة بين أمريكا وإسرائيل إلى الصينيين.

• تمكين الصينيين من خلال عقود البنية التحتية في إسرائيل، من الوصول إلى أماكن حسّاسة كميناء حيفا، والذي تستخدمه القوات الأمريكية ما يشكّل تهديداً لها.

هذا التوتر مع الإدارة الأمريكية سبّب انقساماً في الرأي داخل النخبة الإسرائيليّة، بين طرف يؤكد حق إسرائيل بأن يكون لها سياسة ومصالح مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية وأنّ العلاقة مع الصين هي من أعمال السيادة التي يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتفهمها، وطرف آخر يرى أنّه من المضر جداً المخاطرة بالعلاقات مع واشنطن، القوة الأكبر في المنظومة الدولية، والداعم الأول لإسرائيل من أجل مكاسب من الصين ولو كانت كبيرة، وأنّ على إسرائيل مراعاة الحساسيات الأمريكية والتوقف عن كل ما من شأنه إغضابها، ولكن يبدو أنّ الساسة الإسرائيليين يعوّلون كثيراً على نفوذهم في منظومة الحكم الأمريكية لتنفيس الغضب الأمريكي بهذا الخصوص، وتمكينهم من الاستفادة من طرفين متعارضين دون التعرض لغضب أي منهما.

#سيناريوهات

بات من الواضح أنّ الاستياء الأمريكي من تطور علاقة إسرائيل مع الصين بلغ مبلغاً لا يمكن كتمانه أو تنفيسه كما حصل خلال السنوات الماضية، ولذا فإنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة ستشرع في ممارسة ضغط على إسرائيل لتحجيم هذه العلاقة، وربما تطلب منها إلغاء عدد من العقود العسكريّة والأمنيّة والتكنولوجية، مع الصين، وأن تضع قيوداً على نقل التكنولوجيا إلى الصين، ولديها من الأدوات المتعددة ما يمكن أن تجبر بها إسرائيل على الامتثال لهذه الضغوطات، وهو ما سيضع إسرائيل بين سندان الصين والمطرقة الأمريكية، وعليه فإنّ إسرائيل ستميل إلى إحدى السيناريوهات التالية للتعامل مع هذا الوضع:

أولاً:

يٌعد سيناريو الامتثال الكامل هو السيناريو المفضل من وجهة النظر الأمريكيّة، فمع تصاعد المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، فإنّ أمريكا ستضغط على إسرائيل من أجل الامتثال الكامل لاستراتيجيتها بهذا الخصوص، ولكن من غير المرجح أن تذهب إسرائيل بهذا الاتجاه، وخصوصاً بأنّها تعتقد بوجود أوراق قوة في يديها خصوصاً ما يرتبط بنفوذها الواسع داخل مؤسسات صناعة القرار الأمريكية والإعلام الغربي، ما سيمكنها من تجاوز هذه الضغوطات أو تنفيسها كما فعلت على مدار عقود من الزمن.

ثانياً:

بالطبع وإن كانت هناك بعض الأصوات داخل إسرائيل التي تعلي النفس القومي المتشدّد والذي يغلّب مصلحة إسرائيل ويرفض الضغوطات الخارجية.

ثالثاً:

من غير المرجح أن تعلن إسرائيل رفض امتثالها للضغوط الأمريكية بهذا الخصوص، بل ستميل –على الأرجح- إلى سيناريو وسط يحاول إرضاء الطرف الأمريكي وألاّ يخسر الطرف الصيني، من خلال تخفيض زخم المشاريع مع بكين، وتعويضها المادي عن خسارتها في بعضها، وإبرام بعض الصفقات بشكل سري أو من خلال وسيط خارجي.

#التوصيات

تسبّب علاقة إسرائيل بالصين ضرراً جسيماً للقضية الفلسطينية والمصالح العربية على المدى القصير، ذلك أنّها تعين إسرائيل على تطوير منظوماتها العسكرية والاقتصادية من خلال الثمار الاقتصادية الضخمة التي تجنيها إسرائيل من هذه العلاقة، وهو ما يزيد في فارق القوة لصالح الطرف الإسرائيلي ويكرّس هيمنته على المنطقة ويمكّنها من استخدام آخر ما توصّلت إليه من منظومات أمنية وعسكرية ضدها، غير أنّ علاقة الفلسطينيين والدول العربية بالصين علاقة بالغة الأهمية باعتبارها شريك تاريخي وقوة صاعدة، ولذا يجب عدم السماح بتضررها نتيجة لعلاقة الصين مع إسرائيل، والعمل على تعديل ميزان المصالح الصينية بالاتجاه العربي، وانتظار أن يتسبب الضغط الأمريكي على إسرائيل بضعف علاقتها مع الصين –وهو ما سيحصل على الأرجح- الأمر الذي سيصب حتماً في صالح القضية الفلسطينية والمصالح العربية.

ونقدم هنا جملة من التوصيات على جوانب مختلفة، منها:

• توصيات للمؤسسة:

– بناء علاقات مع جمهورية الصين الشعبية على المستويات الرسمية وتوطيدها:

التواصل مع الجهات الصينية المختلفة لتعزيز العلاقة والعمل على بناء شبكة علاقات متكاملة وتطويرها مع الجهات الرسمية والمؤثرة في صناعة القرار في الجمهورية الصينية لما له من أثر مستقبلي في تلك العلاقات.

وتعزيز التواصل معها سياسياً وثقافياً وإعلامياً بما يؤثر إيجابياً على موقفها من قضية فلسطين، ويُصلِّب موقفها تجاه “إسرائيل”.

– عدم ترك الفرصة لإسرائيل في تطوير علاقاتها مع الصين:

متابعة ورصد تحركات الاحتلال الدبلوماسية وعلى الجوانب المختلفة الرامية لتعزيز العلاقة مع النظام الصيني من أجل قطع الطريق إن أمكن، خاصة أن القضية الفلسطينية تحتاج إلى الدعم الدولي من دولة عظمى كالصين تستطيع حشد التأييد الدولي، وتتمتع بحق النقض الفيتو في مجلس الأمن، وإعادة نشر وترويج الدراسات التي تؤكد خطورة العلاقة مع إسرائيل على مستقبل علاقة الصين بالمنطقة.

– تشجيع الدراسات والتخصصات في الشأن الصيني، باعتبارها قوة عالمية صاعدة، لفهم أفضل لطريقة التعامل معها:

هناك تصاعد ملحوظ في قدرات الصين على العديد من الأصعدة خاصة الاقتصادية والعسكرية، والسياسية الصينية الخارجية قائمة على تحقيق المصالح الوطني الصينية لإكمال أهدافها في عملية التحديث الداخلي التي تجعلها تتصدر الدول العظمي، لهذا يجب متابعة التطورات في الشأن الصيني لمعرفة الطريقة الأفضل للتواصل معها وبناء علاقات جيدة، وكيفية إقامتها لعلاقاتها الخارجية مع الدول وتوازناتها السياسية.

– مطالبة الدول العربية والإسلامية بالضغط على الصين للتراجع عن العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الاحتلال:

مطالبة الدول الصديقة (وخصوصاً تركيا وإيران والباكستان وإندونيسيا وماليزيا) بممارسة كافة أشكال التواصل والضغط مع الصين لإدراك أن مصالحها مرتبطة بشكل أكبر مع الأمة العربية والإسلامية من مصالحها مع “إسرائيل”، ونظراً لأن بكين تعتبر منطقة الشرق الأوسط من المناطق الاستراتيجية لها، خاصة في مجال الطاقة والاقتصاد.

• توصيات اقتصادية:

– بناء شبكة علاقات اقتصادية متينة لتقوم عليها علاقات من جوانب أخرى ومتعددة لتفعيل الدعم الصيني:

تعتبر العلاقات الاقتصادية والعسكرية والتقنية، هي المدخل للتطبيع الدبلوماسي الكامل بين الصين وإسرائيل، نظراً لأن تلك المجالات مؤثرة على مدى تطور العلاقات الدبلوماسية، ويمكن العمل مع الصين من خلال الاستثمارات في مشاريع مبادرة الحزام والطريق للضغط على بكين للتراجع عن التطبيع مع إسرائيل.

• توصيات إعلامية:

– متابعة العلاقات الصينية الإسرائيلية:

رصد العلاقات الصينية الإسرائيلية وتطورها على مدار الأعوام الماضية والتركيز على خطورتها على القضية الفلسطينية، ومحاولة مخاطبة صناع القرار في الشأن الفلسطيني والجهات الصديقة لتسليط الضوء على هذه العلاقة.

– مخاطبة الجهات الصينية:

محاولة استمالة الموقف الصيني الرسمي واستنطاقه في القضايا المختلفة لكسب موقف صيني إعلامي داعم للقضية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته يسمح بمعرفة وجهة النظر الرسمية الصينية في القضايا الفلسطينية المختلفة.

– مخاطبة الإعلام الصيني والمؤسسات الفاعلة:

مخاطبة الإعلام الصيني والمؤسسات العاملة في هذا المجال توطيد العلاقة معها، واستخدام الأداة الإعلامية لإقامة العلاقات الدبلوماسية ولتوضيح وإيصال صورة القضية الفلسطينية للمجتمع الصيني.

ملاحظة:

السعي إلى حل قضية الإيجور وتحسين ظروفهم المعيشية من خلال استغلال العلاقات السياسية والاقتصادية الطيبة مع الصين دون الانجرار إلى الجهود الأمريكية الرامية لجر المسلمين لمعركة بالوكالة.